ليس من الغرابة ونحن نرى اليوم الكم الهائل من وثائق WikiLeaks، وهي تكشف الدعارة السياسيّة التي يُمارسها مُراهِقوها في بعض البلدان، ولا سيَّما في تلك الدول التي تحاول أن تضع نفسها في «تابو» الديمقراطيّة التوافقيّة بنسختها العربيّة سواء كانت تلك في لبنان، أم العراق، أم تحاول الاقتراب من تنظيرات Arend Lijphart في هندسته الاجتماعيّة والسياسيّة التي وضعها في كتابه «الديمقراطيّة التوافقيّة في مُجتمَع مُتعدِّد» من خلال منظار الأزمات المُتموِّجة المُتولّدة في الميدان الجيوسياسيّ التي تعاني منها البلدان في آليّة تشكيل الحكومة، وتوزيع المناصب بين الكانتونات الحزبيّة، والطائفيّة بطريقة قيصريّة.
ولكون السياسة الخارجيّة انعكاساً للسياسة الداخليّة فكيف إذا كان الاختلاف السمة الدراماتيكيّة المُستمِرّة في السياسة الداخليّة لتلك الأنظمة؟ ستكون بالنتيجة السياسة الخارجيّة هي الأكثر ضرراً، فلا يُتوقّع من كتل ومُكوِّنات سياسيّة غير مُتفِقة في الداخل على أن تتوحَّد لدعم رُؤى العلاقة الخارجيّة مع دول العالم بما يحفظ المصلحة الوطنيّة الداخليّة، حتى وإن كان شبه اتفاق على صياغة السياسة الخارجيّة من وحي الاتفاق على طاولة المُحاصَصة؛ ومن ثم فإنَّ الدبلوماسيّة بنت السياسة لا تنفصل عن سُلوك تلك السياسة الداخليّة التي تمارسها بوحي فوبيا فقدان الثقة.
لا يُمكن تفعيل الديموقراطيّة إذا تمَّ الاتفاق عليها من دون المهندسين التوافقيين

بل أحياناً تكون مرآة عاكسة لكلِّ الأمراض السياسيّة التي توجد في جسدها، وكما حدَّثني رئيس وزراء عربيّ سابق بأنه لا يُغادِر مسؤول إلى دولة أخرى حتى يكون أكثر من نصف حديثه عن السياسيِّ الآخر ابن بلده، الذي يختلف معه في المُيُول السياسيّة؛ لذا تجد أنَّ صورة المشهد الداخليِّ مُتوافِرة في بُنُوك معلومات تلك الدول قبل أن تُمليها تقارير أجهزة المُخابَرات الأخرى عنها. فإن قالوا: إنَّ السياسة فضَّت بكارة الأخلاق، ولكن ليس إلى حدِّ أن يتماهى بصورة التلاشي، والذوبان في عرين الآخر بمُجرَّد أن يرى يديه تتكتفان في محراب الاصطفاف الطائفيّ.
ومن الطبيعيِّ أن تكون للسياسيِّ علاقات مع بعض الدول ذات التأثير والتأثُر في عصر الاستقطابات المُزدوَجة، ولكن ليس للحدِّ الذي يبيع فيه وطنه بمُزايدات علنيّة، ومكشوفة، وارتهان مُشوَّه، حتى وإن كانت السياسة - كما يقول - أنيس منصور: «فنُّ السفالة الأنيق»؛ لذا فإنَّ قراءة بسيطة لتلك الوثائق الأخيرة توضح تقرُّب بعض السياسيِّين لتلك الدول بمُجرَّد أبسط الخلافات الداخليّة؛ ومن ثم يكون زعيم الكيان، والنائب في البرلمان، وزعيم الحزب بمنزلة وزير الخارجيّة، ورئيس الدبلوماسيّة في العلاقة مع تلك الدول، بل أحياناً رئيس دولة وكأنه هو مَن يُقرِّر طبيعة تلك العلاقة، ووصل الأمر إلى سفارات مُكوِّنات داخليّة في الخارج؛ لذا تجد في تلك الحكومات عشرات من وزراء الخارجيّة، ورؤساء الدول. وهذا السلوك سوف ينعكس بصورة أو أخرى على السلوك الخارجيِّ لتلك الدول في البيئة الإقليميّة، والدوليّة.
لا يُمكِن تفعيل الديمقراطيّة إذا تمَّ الاتفاق عليها من دون وجود المُهندِسين التوافقيِّين، والقادة القادرين على المزج بين مُتطلبات الديمقراطيّة التوافقيّة لقيادة بلد من خلال بوتقة صاهرة لمُجتمَع تعدُّديٍّ وصولاً إلى ديمقراطيّة تنافسيّة بعد خُرُوج الجنين الديمقراطيِّ من مرحلة «الخُدَّج». وتنعكس هذه السياسة - بطبيعة الحال - على السياسة الخارجيّة، وكما يقول فرانسيس فوكاياما في كتابه Nation Building بأنَّ السياسة تتجه إلى تخصيص حقوق الملكيّة لمصلحة مجموعة مُعيَّنة، أي توجيهه لخدمة مصالح منطقة، أو قبيلة، أو فئة مُحدَّدة، ويقولها الرئيس سليم الحص بأنَّ المسؤول والقائد يبقى قويّاً حتى يطلب شيئاً لنفسه.
مُشكِلة أرَّقت كلَّ مُنظـِّري السياسة الخارجيّة مرض تمثيل السياسة الخارجيّة في عصر تعيش فيه الحكومات التوافقيّة التي كلٌّ منها يدَّعي أنه يُمثـِّل الموقف الرسميَّ لبلاده في التعامُل مع المُحيط الخارجيّ الذي يُؤثـِّر بصورة مُباشِرة في صياغة، وطبيعة السياسة الخارجيّة في تداخل الاختصاصات، وتقاطع الأولويّات في تبنـِّي كلِّ كتلة موقفاً يتعارض مع الأخرى، وضعف البناء الداخليّ؛ ومن ثم غياب الخطاب السياسيِّ الخارجيِّ المُوحَّد، أو المُتفق على ثوابته وسط أمراض ثنائيّة الضدِّ لا ثنائيّة التكامُل.
المُراسَلات التي خرجت أخيراً لم تكشف الجديد في ارتباط بعض سياسيّي العراق ولبنان بدول أخرى فقط، بل قدَّمت الأدلة الحيّة لهذا الاغتراب الوطنيِّ الذي يُعاني منه هؤلاء؛ بفعل دبلوماسيّة النفط، وفي ظلِّ غياب وضع داخليٍّ مُوحَّد، ورصين فكيف لنا أن نتخيَّل أنَّ جهاز الدبلوماسيّة لتلك الدول، والمفاوض فيها سيستطيع تحقيق الأهداف المرجوّة؟ في المُقابل فإنَّ السجالات، والخلافات السياسيّة الداخليّة تُمزِّق أوراقه التفاوضيّة، وترمي بحقيبته من على جسر الوهن.
من مبادئ التمرين الديمقراطيِّ هو الاختلاف، ولكن ليس في القضايا التي تمسُّ الوحدة الوطنيّة ومصلحة البلد، ومثال ذلك: انظر طبيعة السجال الديمقراطيِّ والجمهوريّ في الولايات المُتحِدة الأميركيّة المُستمِرّ، وحربهم الإعلاميّة التي تسبق ميدان أيِّ انتخابات، ولكن عندما حصلت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وقف الجميع بلا استثناء يداً واحدة تحت مسار حفظ مصلحة الأمّة الأميركيّة، وعلى المبدأ الخاصّ ليس المُهمّ أن يكون القط أبيض، أو أسود، إنما المُهمّ أنه يأكل الفأر.

لهذا لماذا الاستغراب؟

عندما أراد السيناتور الأميركيُّ أن يتعامل في مشروع قراره حول العراق كبلد مُكوِّنات (شيعة، سُنّة، وكرد) في مشروع ميزانيّة الدفاع الأميركيِّ ونحن نرى الوفود العراقيّة إلى واشنطن تتعامل بمبدأ المظلوميّة من الآخر، وتحت شعار حقوق الأقليّات، وظلمنا أولاد العمّ. كلُّ مُكوِّن كان يتبنى خطاباً مُختلِفاً بما يتوافق مع رغباته ومصالحه؛ لذا لا عتب على جون ماكين، ولا غيره، وكذلك خلال الخطاب السياسيِّ الأميركيّ المُتكرِّر مثل أحاديث الرئيس أوباما أن يعكس وجهة نظر بعض السياسيِّين العراقيِّين في مسألة التهميش، والإقصاء على الرغم من معرفة الجميع بأنهم كانوا مُشاركين في الحكومة بثلث الوزارات، وبمناصب رئاسيّة، وحكومية مُتعدِّدة. ولا نستغرب تعامُل الدبلوماسيّة الأميركيّة، والفرنسيّة مع الحالة اللبنانيّة، وتفاصيل الاجتماعات الداخليّة في سفارات تلك الدول في الاتجاه نفسه.
ولدى البحث عن المورفين الذي يُهدِّئ من مساؤى هذا المرض الخطير الذي بدأ يزداد بشكل خطير فإنَّ الحلول الموقتة تقضي بالبحث عن صياغة استراتيجيّة واضحة للسياسة الخارجيّة يتمُّ الاتفاق على ثوابتها في تشكيل تلك الحكومات، وكذلك تشكيل المجلس الاستراتيجيِّ الذي يضمُّ مُختلِف التنوُّعات والفئات لدعم السياسة الخارجيّة، لكنَّ العلاج الحقيقيَّ يبقى كامناً في البحث عن قادة حقيقيِّين لبلداننا، وتبقى وحدة الموقف هي أساس الرصانة والقوة في تنفيذ السياسة الخارجيّة، وفي تحديد المصالح الوطنيّة العليا لتكون أهدافاً تتحرَّك عليها السياسة الخارجيّة الوطنيّة في الدفاع عنها.
لا يُمكِن أن تُحَلَّ الأزمات الخارجيّة من دون أن نضع تلك الأهداف، ونسعى إلى تطبيقها في المُجتمَع الدوليّ.
* مدير مركز بلادي للدراسات والأبحاث الاستراتيجيّة