لا شك أن سلطة الرئيس السوري بشار الأسد، تعزّز مواقعها كل يوم في مناطق وساحات أساسية من البلاد. نجاحات متلاحقة، بعضها ذو طابع استراتيجي، تتأكد في طول البلاد وعرضها. الراعي الروسي يواصل، في امتداد دوره الميداني الذي شكّل الحلقة الحاسمة في إطلاق مسلسل التحولات في الميدان السوري، يواصل الدفع باتجاهين: الأول تكريس وتعزيز تفوق النظام السوري وبلوغه حدود الغلبة الكاملة أو شبه الكاملة على خصومه.
والثاني الضغط من أجل حل سياسي أعدت له القيادة الروسية كل التحضيرات والاستعدادات لكي يأتي مضمونه مطابقاً لتطورات الميدان، أي ليأتي الحل السياسي، بالتقسيط أو بالجملة، في مصلحة سلطة الرئيس الأسد وحلفائه وبالتالي لمصلحة التحالف، الذي يمكن القول بشيء من الثقة، أن روسيا هي التي قادته منذ أكثر من سنتين وتواصل قيادته، بنشاط ومبادرات ونجاح، حتى يومنا هذا.
من نتائج صعود الدور الروسي والحليف لروسيا في سوريا تراجع أدوار عديدة في المعسكر الآخر. بالدرجة الأولى، تراجع وزنُ المعارضة السورية إلى درجة أنها باتت اليوم تحاول الحصول، ليس على كل ما كانت ترفضه بالأمس، بل على بعض ما كانت ترفضه. والمشهد الآن يفيد بأن هذه المعارضة لم تعد تقدر على أن تكون حتى مجرد طرف في المفاوضات. إن ما تبقى من أوراق تفاوض قد باتت في يد الولايات المتحدة الأميركية. وإحدى هذه الأوراق ذات صفة معنوية لجهة حاجة روسيا إلى إضفاء نوع من «الشرعية» على دورها في سوريا والمنطقة. فالاعتراف الأميركي مطلب روسي تسعى إدارة الرئيس بوتين إلى الحصول عليه كثمرة لنجاح استراتيجيتها في الدخول إلى الميدان السوري وقلب المشهد فيه بشكل كامل تقريباً. ذلك سيشكل، أيضاً، تعبيراً عن تحول في العلاقات الدولية أنهى مرحلة التفرد الأميركي وسيؤدي، كما ترغب القيادة الروسية، إلى تكريس «الشراكة» الروسية في «إدارة» الشؤون الدولية التي طالما سعى إليها الرئيس بوتين وفريقاه السياسي والعسكري. لقد كرر الرئيس الروسي ووزير خارجيته لافروف الاعتراض على استئثار واشنطن بإدارة شؤون العالم. حرَّضا ضد هذا التفرّد وطالبا بالشراكة عبر الانخراط في النزاعات وأبرزها في سوريا (وقبلها في جورجيا وأوكرانيا). وهما تمكنا من إثبات قدرة الإدارة الروسية على فرض تغيير في مسار الأحداث. وكانت القيادة الروسية تخوض حربين في حرب واحدة: الأولى ما ذكرناه حول تفرد واشنطن، والثانية تلك الموجهة ضد نزعة واشنطن لتغيير السياسات والخرائط والأنظمة، بالقوة وعبر التدخل العسكري، كما حصل في العراق وليبيا، وكما كان يمكن أن يحصل في روسيا نفسها!
تملك واشنطن أيضاً أوراقاً في الشمال والجنوب السوري. لكن هذه الأوراق لم تعد كافية لتعويض انكفاء وخسائر عديدة ولموازنة الدور الروسي. ويضاعف من تراجع التأثير الأميركي صراعات الحلفاء الخليجيين وكذلك تخبط إدارة الرئيس ترامب وعجزها عن تغيير المعادلات في الشرق الأوسط كما وعدت حلفاءها (وتقاضت ثمن ذلك سلفاً) دون أن تفعل أي شيء يذكر حتى الآن!
ليس في الأفق ما يشير إلى أن إدارة ترامب سوف تتماسك، ومن ثم سوف تقر خطة من شأنها تعطيل المسار الراهن في الأزمة السورية. هي تراجعت ولا تزال في ملفات عديدة في العالم وسط إطلاق قنابل دخانية لا تقدم ولا تؤخر. لا يعني ذلك أن واشنطن لا تأثير ولا دور لها. على العكس هي لاعب أساسي لكنه غير مستأثر بالقرار كما كان يحصل منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. هذا الأمر، في كل مساره المتأخر خصوصاً، يقلق القيادة الصهيونية. رئيس الحكومة نتنياهو يحاول استدراك ما أمكن: في موسكو وفي واشنطن، على أمل أن يعدِّل عبر الديبلوماسية ما بات صعباً تعديله في الميدان. كان يراهن على دور أميركي أنشط وأكثر التزاماً بمصالح إسرائيل. وكان، أيضاً، يراهن على صمود الجماعات الإرهابية أكثر مما فعلت لمواصلة استنزاف خصومه في سوريا من اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين. الآن قادة إسرائيل يبحثون عن مخارج لهذا الوضع غير المريح بالنسبة إليهم. طبعاً هم يعملون في واشنطن على تغيير موقف إدارتها وحجم تورطها في سوريا وفي المنطقة. تراودهم مشاريع التدخل العسكري المباشر إذا تبنّت واشنطن هذا الأمر على غرار ما حدث قبل 11 عاماً في حرب تموز. يومها كانت واشنطن هي المبادرة لاستدراك «إخفاقات» قواتها في العراق عبر محاولة إعادة إطلاق «الشرق الأوسط الجديد» الذي تعثر في عاصمة الرشيد! تختبر القيادة الصهيونية، كذلك، ممارسة ضغوط على موسكو وهي ضغوط تفقد فعاليتها، تباعاً بسبب الارتباك المستمر في أداء وبلورة توجهات الإدارة الأميركية الراهنة التي عوَّلت عليها القيادة الصهيونية الكثير في مجمل سياساتها ومخططاتها في المنطقة.
لا مجال لتراجع ثلاثي بوتين ووزيري خارجيته ودفاعه. إحداث تعديلات في المسار السوري الراهن سيكون شديد الصعوبة إذا لم يكن متعذراً. ما عدا ذلك، سينطوي على مغامرة بالغة المخاطر على جميع الأطراف بسبب التصميم الروسي الذي لا يبدو قابلاً لأن يتراجع في أي من المسائل الأساسية.
في هذه الأثناء تحاول القيادة الصهيونية إثارة مسألة دور ووظيفة قوات «اليونيفيل» في لبنان بالتزامن مع إثارة مسألة الوجود الإيراني ووجود قوات «حزب الله» في سوريا. ليس من المتوقع أن يلاقي الضغط الإسرائيلي أي صدى جدي: لا بشأن تعديل مهمة قوات الأمم المتحدة في الجنوب اللبناني وفق القرار 1701 (فضلاً عن توسيع مهمتها)، ولا بشأن انسحاب القوات الإيرانية وقوات «حزب الله» من سوريا. سيحاول نتنياهو، كما ذكرنا، دفع إدارة ترامب إلى تبديل سياستها وإلى تبني عملية تخريب وعدوان إسرائيليين على لبنان وفيه. سيحاول هذه المرة الضغط على الموقف الرسمي اللبناني واستهداف قوات الشرعية اللبنانية، وتحميلها مسؤولية التعاون مع «حزب الله» وتقديم تسهيلات له بهدف إثارة فتنة داخلية في لبنان.
الخيبة الإسرائيلية في سوريا قد تدفع الصهاينة للتصعيد ضد لبنان بوسائل العدوان المباشر أو بوسائل أخرى. هذا ما حصل بعد إخفاقات العراق، وهذا ما قد يحصل بعد إخفاقات سوريا.
لا تُواجه هذه الاحتمالات بالأساليب السابقة. ثمة متغيرات كبيرة نجمت عن سنوات الصراع الدامي. بعض هذه المتغيرات أوجد شروخاً وانقسامات في الجسد والروح الشعبيين العربيين على نحو مخيف: لا بد من مراجعة جوهرية. لا بد من مقاربات جديدة وجدية لا يكون المنطق الأمني فيها هو الأساس!
* كاتب وسياسي لبناني