تفاقمت في الآونة الأخيرة حملة تشنيع وهجاء ضد بعض الشخصيات التاريخية العربية الإسلامية من فترة العصر الإسلامي المنتهي رسمياً بسقوط بغداد إثر الغزو المغولي سنة 1258م/ 656 هـ. وقد جاءت هذه الحملة المستمرة متساوقةً مع واقع وعوامل الاستقطاب والصراع الطائفي الشيعي السني البالغ حد الاقتتال الفعلي والقتل على الهوية الطائفية في العراق بعد احتلاله من قبل القوات الأميركية والغربية الحليفة لها سنة 2003، ومتزامنة مع تفاقم جرائم وانتهاكات تنظيم «داعش» التكفيري ضد جميع الطوائف والمذاهب الدينية المسلمة وغير المسلمة.
وضمن هذا السياق تصاعدت في الآونة الأخيرة حملة شرسة في بعض وسائل الإعلام العراقية والعربية ذات التوجهات الطائفية من صحف وقنوات فضائية ضد شخصية تاريخية مهمة في تاريخنا العربي الإسلامي هو صلاح الدين الأيوبي، قاهر جيوش الفرنجة ومحرر بيت المقدس. يمكن القول إن أفضل وأجدى منهج تاريخي يمكن الرد بواسطته على هذه الحملة الظالمة وغير الموضوعية هو منهج التحليل التاريخي الاجتماعي السياقي بعيداً عن الرد بالمثل عبر هجاء مضاد. وكان الباحث العراقي الراحل هادي العلوي قد كتب دراسة مطولة وموثقة قرأ فيها تحليلياً وتوثيقياً سيرة وشخصية صلاح الدين الأيوبي وفق منهجه التاريخي المتميز. أي أنه يقرأها ويفكك جوهرها كما هي في حقيقتها وداخل سياقها التاريخي، ووفق ما تراكم حولها من وثائق ونثر تاريخي مكتوب وروايات شفاهية في الفولكلور الشعبي... إلخ ولذلك فستكون هذه الدراسة مهمة وسنتوقف عندها مقتبسين ومستلهمين.
لقد خرج العلوي على هذه المنهجية الذاتية المضلِّلة ذات النزوع السلفي الطائفي، والتي تنظر إلى صلاح الدين الأيوبي كـ«مجرم مماثل لطاغية كصدام حسين» كما تفعل البروباغندا المذهبية السلفية على ألسنة إعلاميين وأساتذة جامعيين ومحرضين سياسيين عاديين، سنتوقف نقدياً عند نموذج محدد منهم؛ أو النظر إليه كزعيم معصوم من الخطأ والزلل ومدافع عن «صحيح الإيمان بوجه المنحرفين الروافض»، كما تفعل البروباغندا الطائفية السلفية المقابلة، بهدف دحض كلا القراءتين المذهبيتين وكشف جوهرهما الرجعي اللاتاريخي. ولذلك جاءت دراسة العلوي أكثر توازناً وقرباً من حقيقة هذه الشخصية ولهذا السبب سيكون لهذه الدراسة مكانة خاصة ضمن مراجع هذه المحاولة النقدية.
إننا لو قاربنا شخصية القائد صلاح الدين الأيوبي، وفق الكيفية التي يقرأ بها هذان الخطابان الطائفيان المذهبيان هذه الشخصية، لوجدنا أن الخطاب الأول ينظر إليه كبطل الإسلام ــ الإسلام السني طبعاً ــ وقاهر الصليبيين ويضيف التكفيريون في عصرنا إليهم الروافضَ الشيعةَ وأمثالهم، كما في كتاب «الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والصليبي» للكاتب الليبي د. علي محمد الصلابي، لا يجوز نقد بعض ممارسات صلاح الدين أو أفكاره ومواقفه بل ولا يجوز ــ وفق هذا الخطاب ــ حتى التعريف بنقاط ضعفه وهنّاته فهو شبه معصوم وفوق أية قراءة تاريخية موضوعية، إنما يجوز التمجيد والتوقير والتقديس وحسب. واللافت أن هذه القراءة التحريمية لا نظير لها حتى لدى أغلب المؤرخين القدامى في عهد صلاح الدين ذاته الأمر الذي يدل على أنَّ جرعة العقلانية كانت حاضرة بقوة لدى أغلب المؤرخين القدماء، مضاف إليها نزاهة تأليفية لا تنكر، وهما خصلتان لم يحدّ منها غالباً انتماؤهم المذهبي للمؤرخين الباحثين عن الحقيقة آنذاك.
أما الخطاب المقابل، فينظر إليه كحاكم ظالم انقلب على الدولة الفاطمية الشيعية التي استعانت به ضد الصليبيين، وأنهى وجودها بالتآمر مع الخليفة العباسي في بغداد، فأغلق الجامع الأزهر وساوم الصليبيين وتنازل لهم عن مدن وأراض كثيرة مقابل صرر من القطع الذهبية، وارتكب أفظع المجازر بحق المسلمين وغير المسلمين من الطوائف الأخرى. إنَّ كِلتا القراءتين مضللة ولاتاريخية ومشبوهة لأنها: أولاً، ذاتية تحتكم إلى الفكرة المذهبية المسبقة، وثانياً، لأنها تهدر السياق التاريخي الحقيقي للشخصية وظروفها الخاصة فتُسْقِط ما تشاء من أحداث وتفسيرات ووقائع وتلغيها وتثبت وتضخم وتبالغ في أهمية أحداث وقائع وتفسيرات أخرى.

يروّج البعض لمؤامرة قام بها صلاح الدين للإطاحة بالدولة الفاطمية

وبين هاتين القراءتين ثمة قراءة ثالثة تحاول أن تقارب الحقيقة وهي القراءة التاريخية الموضوعية السياقية والتي تحتكم الى الوقائع التاريخية في سياقها المجتمعي الحقيقي فترصد إيجابيات وسلبيات الشخصية أو الحدث التاريخي داخل ظروفه الاجتماعية. ولكن هذه القراءة التي تريد أن تكون محايدة قد تسقط في هنات ومتاهات أخرى بدعوى الحياد العلمي المطلق وغير الممكن عملياً، ولذلك أسجل منذ البداية أن قراءتي لشخصية صلاح الدين الأيوبي لا تعني عدم الانحياز البدئي له كرمز لمقاومة الغزو الأجنبي الإفرنجي فلست مستشرقاً أو مأخوذا بالمنهج العلموي الاستشراقي الذي يدس السم بالعسل كبعض الليبراليين واليساريين المزيفين، ولا متسامحاً مع القراءات الطائفية السلفية سواء كانت وفق المنهج التمجيدي السني أو الآخر الهجائي الشيعي في الوقت عينه.
إنَّ المنهجية اللاتاريخية التي يأخذ بها العقل السلفي الطائفي تقوم على ثنائية (أنا على حق وخصمي على باطل) ومقياس الحق والباطل عند كلا الخطابين هو مقدار البعد أو القرب من مذهب وعقيدة المتحدث مُطلِق الحكم لا غير. فهذا الطرف أو تلك الشخصية التاريخية على حق حين يكون مصلياً صائماً مؤدياً للطقوس ورافعاً للعلامات والإشارات الدينية حسب مذهب المتحدث و«فرقته الناجية من النار»، ممجداً لأئمته ورموزه القديمة والحديثة، وليفعل بعد ذلك ما شاء أن يفعل، وهو على باطل متى ما لم يكن كذلك مذهبياً وعقيدياً.
وقد يتم لاحقاً توسيع هذه البوصلة المذهبية المحدودة والعاطلة عن الدوران بتوسيع الدائرة المذهبية إلى الدائرة الطائفية التي تضم عدة مذاهب فالمذهب الحنبلي يتم توسيعه إلى عبارة «الإسلام السني عموما» والمذهب الشيعي الاثناعشري يتم توسيعه إلى عبارة «عموم التشيع». إن هذه القراءة قاصرة وغير مهتمة أو مهمومة بالمواقف والأفكار والممارسات للشخصية التاريخية المعنية بالبحث من قضايا كالغزو الأجنبي للبلاد أو لمواقف تلك الشخصية وممارساتها بحق شعبها وقضاياه الداخلية وإنما جل اهتمامها وهمومها منصب على صيانة المذهب الطائفي الديني والدفاع عنه بوجه أصحاب المذاهب المخالفة له.
سأتوقف في قراءتي هذه عند بعض المواضيع والأمثلة المحددة التي وردت في تلك الحملة على أن أعود لمواضيع أخرى في مناسبة أخرى. وهذه المواضيع هي: محاولة مساوة أو مماثلة صلاح الدين الأيوبي برئيس النظام العراقي السابق صدام حسين على سبيل الهجاء، والثاني هو الترويج لفكرة المؤامرة بين الخلافة العباسية وصلاح الدين لإنهاء الخلافة الفاطمية.
يبدأ الأستاذ الجامعي العراقي د.جاسب الموسوي كلامه الذي بثته قناة عراقية خاصة «1»، ثم جمعت أحاديثه في تسجيل فيديو وزع على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، حديثه بلفت الانتباه إلى أن صلاح الدين ولد في تكريت التي هي كما قال «مسقط رأس الطاغية الثاني صدام حسين وهذه من صدف التاريخ وهذان المجرمان بالمناسبة مجرمان طائفيان من الطراز المتميز». وهذا الكلام لا علاقة له بالبحث التاريخي، علمياً كان أو غير علمي، بل هو نوع من الهجاء السياسي الفارغ من أي محتوى رصين، وليس له من هدف سوى التنفيس عن الغيض النفسي والاحتقان الشعوري عبر محاولة مساواة الشخصية التاريخية المدروسة بشخصية دكتاتورية معاصرة، واعتبار الثانية امتداداً مذهبياً وطائفياً واستبدادياً للأولى. وإلا ما الذي يجمع طاغية دمر بلاده واضطهد شعبه وسلم وطنه للغزاة الأجانب بعد سلسلة مغامرات عسكرية فاشلة بقائد منتصر كصلاح الدين الذي فرض احترامه وقيمه وفروسيته على أعدائه قبل أصدقائه؟
الفكرة الثانية هي التي يروجها البعض عن مؤامرة قام بها الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله وصلاح الدين الأيوبي للإطاحة بالدولة الفاطمية الشيعية والحد من انتشار التشيع «الرفض» في تلك الفترة. ويضيف المتحدث في تسجيل الفيديو المشار إليه آنفاً فيقول: «إن هذه الفترة ــ فترة ما قبل سقوط الدولة الفاطمية في مصر ــ يعبر عنها ابن الأثير (ت 630 هـ الموافق 1233م) في كتابه الكامل في التاريخ بعبارة (عمّ الرفض الأرض الإسلامية من شرقها إلى غربها في القرنين الرابع والخامس الهجري وإلى يومنا هذا) المقصود بعبارة الرفض هو التشيع وحين يقول عم الرفض أي عمّ وانتشر التشيع. إن الدولة الفاطمية في مصر شيعية اسماعيلية والدولة الحمدانية في حلب والموصل شيعية إثناعشرية إمامية والدولة البويهية التي جعلت من بغداد مستقرها الثاني بعد بلاد فارس شيعية زيدية. وهذه القضية، انتشار التشيع، أثارت حفيظة المكونات الطائفية الأخرى.
إن المتحدث يحاول هنا تأسيس قاعدة نظرية تاريخية تبريرية، ينطلق منها لشن هجومه على خصمه «السني» صلاح الدين لأنه استهدف الوجود الشيعي قبل ألف عام، تزيد أو تنقص قليلاً، ولكنه يرتكب أخطاء منهجية عديدة تجعل من قاعدته التاريخية المبتغاة أشبه بالرمال المتحركة. فعن أي تشيع يتحدث الرجل؟ وهل يجوز له جمع الفاطميين الإسماعيليين بالبويهيين الزيديين بالحمدانيين الشيعة الاثناعشرية (لم يقترب صاحبنا من القرامطة الإسماعيليين لأسباب طبقية كما يبدو)؟
وعلى افتراض جدالي يقول إنه يحق له أن يجمع بين كل هذه الفرق والحركات والمذاهب الدينية والسياسية لسبب ما، فهل يحق له أن يقفز على حقيقة الحروب والصراعات التي دارت بين هذه الأطراف نفسها كالحروب التي خاضها الحمدانيون الشيعة ضد الفاطميين الشيعة في سوريا دفاعاً عن دمشق التي سيطرت عليها المقاومة الشعبية «السنية تكويناً مجتمعياً» بزعامة «الأحداث»، أو يساوي بين البويهيين الزيديين الذين كانوا أمراء حرب ووزراء لدى العباسيين السنّة قاتلوا العباسيين حتى كادوا أن يقضوا عليهم وفرضوا عليهم وزارتهم وإمارتهم قبل أن يفعل صلاح الدين الأمر نفسه لاحقاً مع الفاطميين؟ ثم، عن أي رفض وتشيع يتحدث الرجل وكيف يريد من سامعيه أن يحتشدوا للدفاع عنه بوجه صلاح الدين وأحفاده «الصدّاميين»؟ وإذا كان الخليفة العباسي في بغداد حريصاً على التسنن ومعادياً للتشيع والرفض إلى هذه الدرجة، فلماذا يتآمر مع صلاح الدين ضد الفاطميين الشيعة في مصر ويترك البويهيين الشيعة يحكمون بغداد ذاتها بسيوفهم بل ويخلع عليهم الخُلَع ويمنحهم الإقطاعات الشاسعة؟
أما كلام المتحدث بلغة «المكونات الطائفية» وهي «لغة جديدة» جاء بها الاحتلال الأميركي جاعلاً الحكم القائم في العراق اليوم على أساس المحاصصة الطائفية بقيادة الإسلاميين الشيعة فهو كلام لا معنى له، بل إنه ليس إلا إقحاماً مفهومياً واصطلاحياً على الحالة الاجتماعية المندثرة والتي كانت سائدة قبل ألف عام، ولا علاقة لها البتة بواقع المجتمع العراقي خلال فترة الاحتلال الأميركي المباشر أو غير المباشر المستمرة إلى يومنا هذا.
*كاتب عراقي