يوجد فارقٌ كبير بين أن تكون ضعيفاً متمرّداً، أو أن تتماهى مع الضعيف وتحاول تمكينه، وبين تحويل الضعف الى قيمةٍ، أو الى حالةٍ مستحبّة ورومانسيّة. بل إنّ واجب القوّة وامتلاكها يقع على الضّعيف بشكلٍ أقسى، وأكثر الحاحاً، من غيره. في خطابات قادة المقاومة في لبنان، على مدى عقود، تجد لازمةً تتكرّر عن ضرورة أن يتسلّح الضّعيف بالقوّة، وأنّك لن تحرّر أرضاً ولن تغيّر شيئاً في عالمٍ ظالم الّا عبر القوّة، وأن أحداً لن يستمع اليك أو يلقي اليك بالاً حتّى تثبت نفسك في ميدان الصراع والمهابة.
هذا يعود جزئياً الى أنّ هؤلاء قد خرجوا في لبنان من تجارب صعبة وتاريخٍ قاسٍ، أقنعهم بأنّه لا فائدة من أخذ شعبك في طريقٍ غير مدروس، ولا شرف لقضيتك ولا لأهلك في أن تكون الضعيف النبيل الساذج، الذي يُهزم ويُسحق ثم يُنصفه المؤرّخون.
للنّاس في لبنان وخارجه أعينٌ وهي ترى، وقد أصبح هناك سجلٌّ وتاريخ وتجربة معاشة: أمامنا نموذجٌ حرّر لبنان، وفعل ما كان مستحيلاً. كان الجيش الاسرائيلي يتعامل مع جانبنا من الحدود على أنّه حقل رماية، وهو اليوم يتحسّب من كلّ حركة يقوم بها، فيما الجنوبيون يبنون بيوتهم ــــ بلا خوفٍ ــــ على حواف السّياج الفاصل. كانت الحرب ضدّنا سهلة فأضحت كابوساً. ولمّا وقعت الحرب في سوريا، أمّنت المقاومة حدود البلد وحمته من الأسوأ، كما حصل في العراق؛ وحين دخلت «القاعدة» واستقرّت داخل الحدود هزمتها المقاومة بسهولة وطردتها من البلد (معارك الجرود لم تكن الّا الفصل الأخير، العلني، في المواجهة. ما حصل لـ«القاعدة» و«داعش» حين حاولوا التنظيم داخل لبنان كان أدهى وأمرّ: كلّ مجموعاتهم تمّ تفكيكها، قادتهم قُتلوا أو اعتقلوا، ولم يتمكنّوا من حيازة مشغل تفخيخٍ واحد في طول البلاد وعرضها).
على مدى عقود، كان الكيان الصهيوني قادراً على ابقاء المنطقة العربية بأكملها في دورةٍ مفرّغة لا تنتهي: اسرائيل قادرة، دوريّاً، على ضرب او اجتياح أيّ بلدٍ حولها ومنع حركات المقاومة في مهدها، وهي تستخدم الولايات المتّحدة مع «الأعداء الأبعد»، فيضربون الأنظمة الثورية أو يحاصرونها ويمنعونها من أن تشكّل، يوماً، خطراً فعلياً على الكيان. هذه الدّورة لن يتمّ كسرها عبر المناورات و«الذكاء السياسي» وتصديق ضمانات الآخرين، بل عبر مراكمة القوّة، حين لا تعود اسرائيل قادرة على حربك، ولا أميركا تستسهل اجتياح بلادك لأنّك تملك ما يقلقها ويردعها. القوّة هنا، بالمناسبة، هي أساساً في النّاس وفي التّنظيم، أكثر بكثير من الصواريخ والمعدّات: الجيش الرسمي قد ينكسر ويتراجع ويتفكك؛ وحين يسقط البلد أو تتغيّر السّلطة، فالضباط قد ينقلون ولاءهم أو ينزوون. ولكن مجموعةً عقائدية من عشرات آلاف الشّبان، كلّهم مدرّبون ومسلّحون، يعرفون بعضهم البعض ويقاتلون معاً؛ هؤلاء لن يخلعوا رتبهم ولن يتوقّفوا عن القتال مهما حصل، ولو خسرت صواريخك وكلّ شيء آخر، ولن يسمحوا لأي نظامٍ معادٍ بالاستقرار في البلد ــــ ومطالعة هذه السيناريوهات والحدود السياسيّة لأي اجتياحٍ جديد هو، تحديداً، ما يثير كآبة المخططين الصهاينة.

مقاومة اسلامية

المقاومة في لبنان اسلاميّة، وهذا ليس صدفةً ولا يمكن عزله، ككلّ أحداث لبنان، عن السياق في المحيط الأعمّ. كتب محمّد سيّد رصاص، ضمن عملٍ عن «الأحزاب والحركات اليسارية العربية»، دراساتٍ عن الأحزاب العربية الشيوعية في السودان والعراق وسوريا. القصّة التي تتكرّر هنا هي عن أحزابٍ حازت صعوداً وشعبية هائلة داخل مجتمعاتها في الخمسينيات وبداية الستينيات، ثمّ تم استبدالها وخلافتها في المرحلة التالية عبر حركاتٍ قوميّة واسلاميّة في كلّ مكانٍ تقريباً. جزءٌ اساسيّ من هذا التحوّل كان سببه أنّ القوميين قد استنسخوا «البرنامج الشيوعي»، أو أخذوا عناصره «الجاذبة» وتركوا المرجعية السوفياتية وشبهة الالحاد. لو أردنا التبسيط والاختصار: الفلّاح سيتعاطف مع الشيوعيين لأنهم يعدونه باصلاح زراعي، وتوزيع الأرض، واشتراكية الدولة؛ فحين يأتي الناصري أو البعثي ويعرض السياسات ذاتها تماماً، مع ايديولوجيا مستمدّة من تراث العربي وقوميّته، فلماذا يختار الماركسي على القومي؟ اخلاصاً للمادية الجدلية؟ بل إنّ الناصريين والبعثيين في العراق مثلاً، حتى استلام صدّام حسين للحكم، كانوا يزايدون على عهد عبد الكريم قاسم في الاجراءات الاشتراكية، وخطوات في ملفّات ذات أهمية وطنية كبرى كتأميم النّفط.
حصل تبادلٌ مشابه لـ«المهمة التاريخية» بين الاسلاميين و«الثوريين» في العقود التالية. المسألة ليست فقط في أنّ أغلب الأنظمة الثورية قد فشلت في تحقيق وعودها التنموية، ونخبها امّا هُزمت أو تراجعت وانقلبت على تراثها، ولا لأنّه قد ظهر الخميني. الأساس كان في أنّ الاسلامي في لبنان، وغيره، أضحى قادراً على محاججة «الثوري»: وماذا ظلّ لديك كشعارٍ ومشروع؟ مقاومة الغرب واسرائيل؟ أنا أنفّذ هذه المهمّة بشكلٍ أفضل وأفعل منك، وسأكون أكثر حزماً وجذريّة، وسأوصل الى التّحرير، والى نتائج مادية يلمسها الناس، ومراكمة فعليّة للقوة والمنعة (بعض «اليسار السابق» اللبناني الذي يلوم المقاومة، بعد أن حرّرت وانتصرت، ويصرّ على أنّها زاحمته و«حرمته» من القتال ضدّ الصهاينة يثبت لنا أنّه لا يهتمّ لقضية أو لأرضٍ أو للناس الذين يعيشون عليها، ولا يرى الانتصار وتحرير الجنوب على أنّه استكمالٌ لهدفه الأسمى، بل هو يعتبر التحرير «هزيمة» إن لم يأتِ عبر تنظيمه وبفضله هو ــــ وكأنّ من ضعف أمام رفيق الحريري وماله كان سيصمد في وجه «تساحال»).

الدولة والمقاومة

في لبنان اليوم (وخارجه) الحجّة الجديدة لأعداء المقاومة هي أنّها حركات دون ــــ قومية (أو فوق ــــ قومية) وأنّها تُضعف الدّول ومؤسساتها، وتنتهك احتكارها للعنف المسلّح، وتؤسس لانقسامات في المجتمع. هذا الخطاب فيه نفاقٌ على مستويين، أوّلاً لأنّ المجتمع لم يخرج بهذه الحركات الّا بسبب عجز الدّول وغياب المشاريع الوطنية، وخيانة النّخب وخذلانها لقضاياها ولأهلها. ثانياً، هؤلاء النّاقدون ــــ في الأغلب ــــ لا يريدون حقّاً ان يكون لنا جيشٌ قويّ، ودولة حقيقية، ووطنٌ يقاوم؛ هم يعجبهم الوضع القائم ولكنّهم منزعجون ببساطة ــــ كالأميركيين والصهاينة ــــ لأنهم لم يعودوا قادرين على فرض كلّ ما يريدونه علينا. يريدون أن يكون لنا جيوشٌ لا تقاتل، ويُقال لنا هذا جيشك، ودولةٌ لا تبني ولا تحمي، ويُقال لك هذه هي «الشرعية»، وشعبٌ مفقرٌ ضعيفٌ غير منظّم، ويُقال هذا هو شعبك، واقتصادٌ استهلاكي مُخترق وينزف ويقال لنا هذه قواعد السوق فالعب ضمنها. المشكلة في لبنان ليست المقاومة، بل الدّولة، وسبب مأساة البلد هو ما صنعه رفيق الحريري، لا ما صنعه المجاهدون.
أمامنا هنا نموذجان عمل كلٌّ في مجاله، والنتائج ــــ بعد ربع قرن ــــ جليّة وساطعة. عشرون سنةٍ من «إعادة الإعمار» أثمرت طبقةً ثرية جديدة، ودولة مفلسة، والوحيد الذي نجح واقتنص الفرص في تلك المرحلة لم يكن من أصحاب الأعمال أو مشاريع الصناعة والتكنولوجيا، بل من افتتح باكراً المقاهي والمطاعم الفخمة في الرّوشة ومناطق السّهر. هناك من بنى نموذجه على أنّنا قادرون على الاستمرار ونحن نستورد كلّ شيء، ولا ننتج شيئاً تقريباً، وأنّ هذه المليارات من الدّولارات سنحصّلها دائماً عبر السّياحة، وعبر تحويلات المغتربين، والأرصدة التي تودع في مصارفنا للاستفادة من الفوائد على الدّين العام (بل وصلنا الى مرحلةٍ نستدرج فيها الدّين بالمليارات للحفاظ على دفق الدولارات وتغطية الاستيراد ــــ وهي ممارسة تشبه ما يسمّى «استهلاك النّفس» cannibalization في الأدبيات العسكرية، حين تأخذ قطعاً من طائرة لتصلح طائرةً أخرى وستنتهي هكذا، بالضرورة، بلا طائرات).
هذا هو النموذج الخطر والمكلف والذي لا يمكن التعايش معه، وهو ما يدمّر اليوم حياة النّاس. حتّى بالمقياس العسكري والأمني، اقتصاد الكباريه وتبييض الأموال والعقارات والاغتراب هو آخر ما يمكن أن ينتج مجتمعاً مقاوماً. لماذا تدافع عن الأرض وانت لا تزرعها، وهي ليست مصدر دخلٍ لك ولا تعني لك رفاهاً وعملاً وانتاجاً لا تريد لأحد أن يسلبه منك (بل هي مجرّد سلعة عقارية، تتركّز باضطراد في يد الأثرياء)؟ كيف تفكر بالاستقلال وانت لا تنتج أبسط ما تحتاجه؟ وكيف تغضب الغرب أو الخليج وهم مصدر الريع الذي تعتاش منه؟ أنا أصبحت على قناعةٍ، منذ زمن، بأنّ انتظار الإصلاح في لبنان لم يعد مجدياً، بل من الأقرب انتظار «الانهيار». حين يطرح السياسيّون في لبنان مشاريع واقتراحاتٍ بكلّ جديّة، لا أفهم الهدف من كلّ هذا النّقاش، أو إن كانوا يعيشون في حالةٍ من الانكار: الى اين تعتقدون انّكم ذاهبون؟ هل لدى أيّ منكم خطّة منطقية، خريطة طريق، تشرح لنا كيف سندفع كلّ هذا الدّين، أو كيف سينمو الاقتصاد حتّى يقدر على التحكّم بكلفته، وانت تسحب كلّ هذه المليارات منه؟ وكيف سنفعل أيّاً من هذه الأمور ونحن لا نملك دولاراً واحداً للإنفاق الاستثماري وللتنمية؟ بالمصادفة والحظّ الحسن؟ وماذا سيحصل لو توقّفت، لسبب خارجي لا يمكننا التحكّم أو التنبؤ به، التحويلات المالية التي تسدّ عجزنا التجاري وتموّل الدّين العام؟
المفارقة هي أنّ الانهيار المّالي قد يكون العامل الوحيد الذي يسمح بعودة الأمور الى نصابها. حين تصير كلفة الاستيراد باهظة، ويتضاعف ثمن اللحوم والحليب والسيارات التي تشتريها من الخارج، ستفهم انّ نمطنا الحالي لا يمكن أن يستمرّ. عندها، فقط، ستصبح هناك قيمةٌ وجدوى للانتاج وللزراعة، ولسدّ حاجات بلدك من الدّاخل، وفهم الأولويات في الانفاق والاستهلاك (وسيخسر أصحاب العقارات والمصارف وسندات الدّين بالعملة اللبنانية كثيراً، وهذا وحده سببٌ كافٍ للتفاؤل). في العالم الحقيقي، للأسف، لا توصل الأزمات دائماً الى بدائل تقدّميّة أو إصلاح، بل هي تتحوّل الى بوّابة تسمح بدخول كلّ ذي مشروعٍ وطموح. أزمة 1992 في لبنان جاءت برفيق الحريري، وليس بحكومةٍ اشتراكيّة، وحين تقع الازمة القادمة، ستكون تلك فرصةٌ لإدخال أيّ وجهٍ جديد خلفه تمويلٌ وتنظيمٌ ودعاية. المفارقة هي أن تعيش في بلدٍ فيه مقاومة مجيدة ونظامٌ يحتضر، ولكنّ ما يدفع الخوف هو أنّك لم تعد ضعيفاً بلا حيلٍ أمام الأنواء، بل في شعبك قوّةٌ ستظلّ الى جانبك وتحميك، ولو انهار من حولك كلّ شيء.