ليس هناك متّسع للشك بأن السؤال قديم، قدم الإنجازات التي حققتها المقاومة. مع ذلك، طرحه مُلحّ من باب محاولة تلمّس إجابة مغايرة لتلك التي قُدّمت عام 2000 وعُزف على منوالها عام 2006. آنذاك، حرص الأمين العام لحزب الله على دعوة المقاومة إلى المزيد من التواضع في خطاب النصر في بنت جبيل.
التواضع هذا لم تتم ترجمته إلى شيء آخر غير العفة التي استأنست، وأحياناً احتفلت، بالشكل الحالي للدولة من باب «هذا هو لبنان»، الشكل الذي لا يكفّ عن ارتكاب الفشل في سائر الملفات المعيشية والحيوية. ولكن في الحقيقة، ما هو لبنان «الحالي» الذي يجدر بالجميع مواصلة تأدية طقوس الاحترام لطريقته في ترجمة تمايزه؟ من الواضح أن أكثر القراءات تسامحاً للمرحلة التي تلت التحرير تجزم بأن حبس الانتصار في الميدان ومنعه من السيلان في السياسة والإدارة العامة والاقتصاد والثقافة أنتج داخلاً مغترباً عن الانتصار لا يكف عن تحيّن الفرصة للانقلاب والارتهان في موازاة استرسال الاهتراء بتمدده في آلة الدولة العاجزة. في المقابل، حتى هذه الخلاصة «الآمنة» موضوعياً لا تبرر افتراض قصر نظر الذين تصدوا لهذه الأسئلة سابقاً واصطدموا بهواجس لا حصر لها.

الإنجاز الذي تحقق
في الجرود هو محطة
أولى للإنجاز الكبير


في الحقيقة، من المجدي طرح السياق اللبناني جانباً كمقدمة لاستقراء العديد من التجارب التي حاولت صرف المقدرات العسكرية الصلبة للدول والمنظمات في السياسة الداخلية. لا يخفى أن سمعة هذه العملية المصرفية غير التقليدية سيئة، يعود ذلك جزئياً إلى أننا نعيش في بطن آلة دعائية عملاقة تملي علينا أذواقنا ومفاهيمنا ومعاييرنا، لكن هذه الآلة الدعائية لا تختلق الإخفاقات دائماً، بل تكتفي بالإضاءة عليها أحياناً أو تضخيمها. في المحصلة، ليست كل التجارب فاشلة، ومن المؤكد أن التعفف الأعمى عن قول وفعل الأشياء في السياسة ليس خياراً منطقياً.
وينبغي الاعتراف بأن المقاومة مارست على نطاق واسع هذا النوع من التعفف. العذر كان ولا يزال هو المقولة الدارجة «لبنان هو لبنان»، فالحدود بين الطوائف أكثر حضوراً وحساسية من تلك التي تفصل بين لبنان وسوريا أو فلسطين. يقول المعنيون إنه في اللحظة التي تقرر فيها المقاومة الدخول جدياً، والمقصود هو غير ذلك الدخول البروتوكولي لحزب الله في السياسة، تتحول من مقاومة لبنانية إلى فصيل شيعي في شارع منقسم لا يبدو أنه منيع أمام خطابات التهييج الطائفي المقيتة. لا يكفّ العديدون عن تكرار هذه الوقائع كمقدمة للركون إلى الخلاصة السابقة نفسها. في محطة لبنانية سابقة، اضطلعت سوريا بهوية الجمهورية اللبنانية الإقليمية في المرحلة التي تلت الحرب الأهلية، وتم اعتبار ذلك بمثابة ترجمة لما آلت إليه الحرب من انكسار لليمين اللبناني. نحن إذاً أمام تجربتين ينبغي الأخذ بواحدة منهما في القادم من الأيام، بالطبع مع عدم إغفال التعقيدات التي ترافق أياً منهما.
بالتأكيد، الإنجاز الذي تحقق في الجرود هو فقط محطة أولى للإنجاز الكبير الذي يبدو أن ملامحه تتشكل في سوريا والعراق والإقليم، وبالتالي فإن الحاجة إلى مراجعة سياسة «التعفف» ستكون ملحة عندما يخرج الانتصار من معمعة التوقع إلى دائرة الواقع. يتأتى الإلحاح جزئياً من هول ما تستطيعه السياسة من إجرام، كما بدا واضحاً في السنوات الست الماضية. لذلك، جدير بقليل من الإكراه في السياسة أن يفقد سمعته السيئة لأنه يقي من كثير من الدم المؤجل. يصح هذا الافتراض لبنانياً وإقليمياً على السواء، لكنه في السياق اللبناني يجب ضخ جرعته، أي الإكراه، بهدوء وذكاء.
* كاتب لبناني