تمهيد
مضت نصف ساعة من الامتحان، القاعة هادئة تماماً وأعين الطلاب تتنقل بحيرة ما بين ورقة الأسئلة وورقة الإجابة، فيما المراقبون يجوبون القاعة ذهاباً وإياباً. يدخل المفتش فجأة. المفتش هنا في قاعة الامتحان الرسمي لا يكتفي بالمراقبة وتوجيه بعض الملاحظات، بل يمضي ليتحسّس تفاصيل جسم الطلاب خوفاً من "الروشتة" أو من محاولات معهودة للالتفات والهمس باستفسار أو سؤال، أو حتى لتبادل الكراسات في ما بينهم.

ترتفع الأصوات من الخارج منذرة بوصول وزير التربية لتفقد حال الطلاب وسير الامتحانات. يدخل القاعة، يقترب من الطلاب لملاطفتهم، فيما المصوّر يلتقط الصور مع كل حركة للوزير في اللحظة ذاتها التي قرّرت فيها الطالبة أن تستعير الـcorrector (قلم التصحيح) من زميلتها. ويا للعجب، أصبحت تلك الصورة هي الشغل الشاغل للإعلام الإلكتروني وللناس في تعليقاتهم التي اجتاحت مواقع التواصل: «طالبة تمرر الروشتة لزميلتها بحضور الوزير». الأخير نفى الخبر، الطالبة أنصفت بزيارة مخصصة لها من الوزير لتوضيح الأمور، فيما «الروشتة»، ما زالت تدور في جيوب ومقلمات الطلاب كعهدها. فلـ«الروشتة» أو حتى للجمل المكتوبة على عجل فوق المقعد أهمية خاصة في لبنان، لأنه ببساطة، القاعدة سهلة وواضحة عند أغلب الطلاب «اللي بيحفظ بينجح». كان من الممكن أن تتغير القاعدة، كان من الممكن أن يتطور المنهج. لنعد إلى حال الطلاب على مقاعد الدراسة في الثانويات الرسمية، نجدنا أمام المشهد الآتي: طالب يمضي يومه يتلقى المعلومة من المعلّم، يحاول فهمها (إذا أمكن)، وفي أغلب الأحيان يسعى إلى حفظها من دون «هضمها» على الصعيد المعرفي لضمان الحصول على معدل يمكّنه من النجاح بعد إجراء اختبار لا يأخذ في الاعتبار الإمكانات التحليلية والمهارية لكل متعلّم. ساعات يمضيها الطالب في الاستماع إلى ما يصدر عن المعلّم، وساعات مضاعفة يقضيها في المنزل في محاولة حفظ وتطبيق ما تلقاه خلال الدوام، ويصبح بالتالي بعيداً كل البعد عن البحث عن المعلومة من مصادر أخرى (غير المعلم) حتى لو كانت متوافرة بسبب ضيق الوقت وكثافة المنهج.
اذا أردنا أن نسعى إلى إقرار نظام جديد، نستطيع أن نسترشد ببعض المناهج الحديثة ونعمل على ملاءمتها مع واقعنا وإمكاناتنا (المنهج الأميركي، الفرنسي، الألماني...). أما إذا أردنا تعديل المنهج الحالي، فمن المجدي البحث عن المشاكل الكامنة فيه والعمل على إيجاد الحلول الملائمة لها ليصبح بالتالي متماشياً مع حاجات المجتمع ومتطلبات العصر الحديث. إلا أن الحلقة الأساس في أي عملية تحديث من هذا النوع هي: الطلاب. وهذا ما تعتمده الدول كافة عند تحديث مناهجها التربوية، وهذا ما نفتقده في لبنان، إذ إن رأي الطالب في كل ما يتعلق بالعملية التربوية يبقى مغيّباً. لذا فالمطلوب أن يكون الطالب هو محور التركيز في العملية التعليميّة التي من المفترض أن تكون تشاركية بين الطالب والأستاذ بشكل يضمن الإرتقاء بمستوى الطلاب الإدراكي وتمكينهم من فهم القضايا وحلها حلاً منطقياً ينسجم مع معطيات الواقع وإمكانات المتعلّم الذهنية.

المناهج مشاكل وحلول

أما على الصعيد المنهجي، فتبرز العديد من المشاكل الملموسة التي يعاني منها الطلاب (وخاصة في مرحلة التعليم الثانوي) والتي من الممكن تلافيها والخروج من دائرتها عبر بعض الحلول المنطقية والعملانية:
1. تغيير محور التعلم من "الكتاب المدرسي" إلى "الطالب والمعلم" أي العنصر البشري ليصبح البحث عن المعلومة من مهمات الطالب، ما يمكنه من اكتساب المعرفة، ويكون المعلم مرشداً وليس ملقناً. وبناءً عليه ستتغير المناهج وطرق الإرشاد (وليس التدريس) طبقاً لتغير الأهداف، وبالتالي ستتغير طريقة تقويم المتعلم من امتحان واختبار الحفظ إلى اختبار التقدم في تطوير المهارات واكتساب مهارات جديدة وبذلك يستطيع الطالب مبكراً توجيه قدراته لتعلم المهارات التي يفضلها والتي ستساعده على الانضمام إلى جامعة معينة ليكمل فيها سلسلة تطوير المهارات ليخرج بعدها للمجتمع إنساناً مبدعاً قادراً على ابتكار شيء جديد أو تحديث شيء قديم لأنه إنسان قادر على التفكير العلمي السليم الذي يحلل المشكلة ويبحث عن أصولها ثم يفترض الحلول ويجربها ويحلل النتائج ليصل إلى النتيجة النهائية للحل من وجهة نظره وطبقاً لتجربته أو يكون قادراً على العمل مع فريق لديه نفس القدرات.
2. العمل على فتح المسارات بين المواد، وذلك من خلال عملية ربط منهجي في ما بينها بشكل يضمن تحقيق أعلى حد من الأهداف (على صعيد المواد التعلمية) بأقل وقت ممكن، ما يتيح مجالاً أوسع للمتعة في التعلم وتحفيز الإبداع والحس الإنتاجي عند الطالب... ولكن كيف ذلك؟
سنعرض في ما يأتي مثالاً توضيحياً يفسر لنا المسألة بنحو ملموس. لنأخذ على سبيل المثال مادة التاريخ القائمة راهناً على الحفظ: فبدل أن يمضي الطالب وقته داخل الصف يستمع إلى شرح مملّ لدرس التاريخ، ويقوم في المنزل بقضاء ساعات على حفظ ما تلقى، يقوم المعلّم بالطلب من التلاميذ إجراء تجربة بحثية عن موضوع محدد له علاقة بأهداف المادة ومحاورها (مع تحديد المراجع اللازمة لذلك، التي من المفترض توافرها في مكتبة الثانوية). أو يُعرض فيلم تاريخي يخدم أهداف المادة والقيام برحلات تعليمية تثقيفية (متاحف، مواقع أثرية...). ويكون المطلوب من الطالب كتابة تقرير عن المعطيات المكتسبة من هذا النشاط بحيث يكون ذلك التقرير مطبوعاً (وهذا يتطلب تطبيق ما اكتُسب من مادة المعلوماتية)... وبالتنسيق مع معلّم/ة مادة اللغة الأجنبية يقوم الطالب بإنجاز تلخيص موجز عن عمله هذا باللغة الأجنبية واعتماده كنص للتحليل وتطبيق بعض القواعد اللازمة بالمادة (قواعد، تعبير كتابي، تحليل نص...). ولنذهب بعيداً أيضاً: يقوم الطلاب بتمثيل مشهد مما اكتُسب في مادة المسرح أو القيام برسم من وحي ذلك. لكن كيف يجري تقويم الطالب؟ يكون التقويم عبر كتابة الطالب لكيفية تحصيل معطياته عبر تدعيم ذلك بكل ما اكتسبه من معلومات.
3. اعتماد سياسة التوجيه بعد مرحلة البريفيه، التي تقتضي بتوجيه الطالب في مراحل مبكرة لاختيار وحسم خياره بالنسبة إلى ختصاص الجامعة:
أ‌- سياسة توجيه من خلال المنهج. وهذا يتطلب فرزاً ما بين القسم الأدبي والقسم العلمي مباشرة في صف الأول ثانوي (طريقة الفرز في صف الثاني ثانوي). ويصبح الفرز في صف الثاني ثانوي هو ذاته الموجود في صف الثالث ثانوي (أربعة اختصاصات). لنصل إلى صف الثالث ثانوي الذي يعتبر حلقة الوصل بالمرحلة الجامعية حيث يجب توسيع مجال الاختصاصات إلى أكثر من أربعة. على سبيل المثال، من الممكن أن تكون المعلوماتية هي المادة الأساسية في أي اختصاص جديد، بالإضافة إلى مواد الفنون (رسم، مسرح، موسيقى، تصوير، غرافيك...) التي لا بد من مراعاة أهميتها وتنوّع الاختصاصات المرتبطة فيها في المرحلة الجامعية وسوق العمل.
ب‌- من خلال المؤتمرات؛ حيث من المفترض أن تكون معارض التوجيه برعاية وزارة التربية التي يجب عليها أن تلزم كافة الثانويات باصطحاب طلابها إلى هذه المعارض وأن تكون سياسة التوجيه نحو الجامعات في صف الثالث ثانوي من صلب العملية التربوية، نظراً إلى أهمية هذا الإجراء في توجيه الطالب نحو الاختصاص الجامعي الذي يوائم بين قدراته وطموحاته.
4. ضرورة اعتماد النظام الاختياري بحيث يصبح ضمن كل اختصاص مواد أساسية ومواد اختيارية (رأي الطالب وحرية اختياره)؛ على سبيل المثال صف العلوم العامة تكون مواده الأساسية هي الرياضيات والفيزياء والكيمياء، بالإضافة إلى اللغتين العربية والأجنبية. أما المواد الاختيارية، فيجب أن تشمل مواد الفلسفة والتاريخ والجغرافيا والتربية المدنية، بالإضافة إلى المواد الإجرائية (المعلوماتية، الرياضة، الرسم، المسرح، الموسيقى، اللغة الأجنبية الثانية). ومن هذه المواد يختار الطالب فقط ثلاث مواد كي يُختبَر بها، بالإضافة إلى المواد الأساسية. ما يعزّز مفهوم تقويم الطلاب على أساس قدراتهم ورغباتهم وإمكاناتهم ويقوي التفاعل مع كل المواد خلال العام الدراسي.
5. تقسيم الحصة التعليمية بشكل يتم فيها توجيه طاقة الطالب بشكل خلاق بعيداً عن الإرهاق والملل: 20 دقيقة للشرح، تفعيل المشاركة، تفاعل: أسئلة – مناقشة - حوار... بشكل يسمح لنا بالانتقال من الكمّ إلى النوع (معلومات أكثر - تحليل - تقليل من حجم الواجبات المنزلية - ارتياح على مدار العام - وقت إضافي للتمعن بالأفكار والبحث عن المعلومات، ما يفضي إلى تفكير منطقي نقدي خلاق - ترسيخ أكبر للأفكار - ساعات إضافية للتطبيق في المدرسة).

إذا أردنا أن نسعى إلى إقرار
نظام جديد، نستطيع أن نسترشد ببعض المناهج الحديثة


6. بالنسبة إلى مادة التربية المدنية يجب إضافة دروس مرتبطة بـ: الأخلاق، قانون السير، الأعمال الشبابية.
7. في ما يتعلق بالمواد الإجرائية (المعلوماتية، الرياضة، الرسم، المسرح، الموسيقى، اللغة الاجنبية الثانية): أن تصبح مواد أساسية، وذلك لأهميتها في المناهج التعليمية الحديثة ودورها على صعيد بناء شخصية الطالب من الناحية الاجتماعية والنفسية والثقافية والبدنية. وذلك يستوجب وضع منهج عصري لكل مادة وضمّ أساتذة من أصحاب الكفاءة. من الضروري الوصول إلى إجراء امتحان رسمي بالمواد الإجرائية، وذلك لتأكيد أهميتها.
8. اعتماد صيغة «طالب متعلم على مدار العام»، وذلك بإمكانية اتباع ما يلي: المعدّل النهائي لطالب الشهادة الرسمية يُحتسب وفق الآتي: 40% من معدل المواد على مدار العام و60% من معدل الامتحان الرسمي. لنأخذ مثالاً من المنهج الفرنسي، في التقويم في مواد الفيزياء والكيمياء والطبيعيات يجري اختبار الطالب شفهياً قبل ذلك الامتحان الخطي في المختبرات ويكون محور الاختبار هو الأنشطة العملية التي قام بها الطالب خلال العام، ويحتسب على هذا الاختبار 24 علامة من أصل الـ60 علامة النهائية. أو أن تكون علامات الاختبارات على مدار العام خاصة بالمواد الاختيارية حيث ينتهي منها الطالب قبل الامتحان الرسمي ولا يبقى له إلا الاختبار بالمواد الأساسية. مثلاً: إذا كانت مادة التاريخ اختيارية، وإذا استمر أسلوب الامتحان بها عبر الحفظ، فإنه يمكن بدل الامتحان بـ 30 درس آخر السنة، القيام بامتحان لكل 10 دروس على سبيل المثال، وبذلك يكون الامتحان الرسمي فقط في المواد الأساسية.
9. إدخال التكنولوجيا في طرائق التدريس عبر اعتماد الوسائل "السمعية - البصرية"، ما يؤمن رغبة كبيرة في التفاعل مع المواد التعليمية، دمج الإنترنت بالعملية التعليمية، لكون الطالب محور العملية التعلمية، فإنه يجب أن يبحث بنفسه عن المعلومة حتى داخل الصف، والإنترنت هو إحدى وسائل البحث، اعتماد الـ E-books للحدّ من احتكار دور النشر وتوفير عبء حمل الكتب على الطلاب والوصول إلى مرحلة التعلم عن بعد، بالإضافة إلى التقويم اليومي عن بعد الذي يمكن أن يعتمده الأستاذ للتأكد من فهم الطلاب للدرس داخل الصف بنحو وافٍ.
10. بالتوازي مع إدخال التكنولوجيا في التعليم، لا بد من السعي إلى «تعليم التكنولوجيا». من المعروف أن مراحل التكنولوجيا ثلاث: مرحلة النقل عبر استيراد المعارف من الدول المتقدمة، مرحلة التوطين عبر إجراء تعديلات على البنية التكنولوجية الأساسية لمنتج معين وتطويرها وتحسينها لتعديل مواصفات المنتج، وصولاً إلى المرحلة الأكثر تقدماً، وهي مرحلة الصنع والابتكار التكنولوجي محلياً للدخول في خانة المنافسة عالمياً، وبالتالي القفز من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الانتاج. على المستوى التكنولوجي في لبنان لا نزال في مرحلة النقل وهذا لا يليق بالكفاءات البشرية اللبنانية التي تتميّز وتبدع في مختلف دول العالم في شتى الميادين. الحل هنا يجب أن يبدأ من المنهج المدرسي عبر وضع منهج حديث خاص بمادتي المعلوماتية والتكنولوجيا وربطه بالاختصاصات الجامعية وتهييء كادر طلابي قادر على الانخراط بسوق العمل بفعالية منتجة، وبالتالي يصبح الوصول سهلاً إلى "مجتمع المعرفة" الذي يقضي على الأمية المعلوماتية وإلى "الاقتصاد القائم على المعرفة" الذي يعتبر اللبنة الأساسية في تقدم الأوطان وازدهارها في العصر الحديث.
لنفترض أنه جرى تحديث المنهج كما اقترحنا أعلاه، وكسر قاعدة "اللي بيحفظ بينجح"، فلنعد الآن إلى قاعة الامتحان: الطالب يحلّل ويناقش ما عمل عليه خلال العام، المراقب العام يتفقد حسن سير الامتحان، «الروشتة» اختفت من جيوب ومقلمات الطلاب والفكرة رسخت في العقول وليس على الورق.
* أستاذ ثانوي، وطالب دكتوراه في المعلوماتية ــ رئيس لجنة المواد الإجرائية في التعليم الرسمي