«... فإن أَشرنا أمَرنا أن يتوجه من عساكرنا شرذمةٌ قليلون، نحو ماية ألفٍ أو يزيدون، بكمال الاستعداد من الآلة والزاد، ونتبع العساكر بالعساكر، والجيوش بالجيوش الكواسر، يكون أولهم بالبلاد اليمنية، وآخرهم بمملكتنا الحميّة السَّنِيّة، ولا نحتاج أن نعرفكم قوة سلطاننا وسديد عزمنا وشديد أركاننا، فإنّ أكابر الملوك ذوي التّيجان، وأهل القوة والإمكان، خاضعون لدولتنا الشريفة قهراً، مطأطئون برؤوسهم في أعتابنا جبراً وقسراً»(من رسالة السلطان العثماني الى الثائر اليمني المطهّر بن شرف الدين، يدعوه فيها الى الخضوع للدولة وإنهاء تمرّده على السلطة العثمانية)

■ ■ ■


«ولقد سمعت المرحوم أحمد جلبي المقتول (دفتردار مصر) يفاوض المرحوم داود باشا في حدود سنة 953 فقال: ما رأينا مسبكاً مثل اليمن لعسكرنا، كلّما جهزنا اليه عسكراً ذاب ذوبان الملح، ولا يعود منه الا الفرد النادر، ولقد راجعنا الدفاتر في ديوان مصر من زمان ابراهيم باشا الى الآن، فراينا قد جُهّز من مصر الى اليمن في هذه المدّة ثمانون ألفاً من العسكر. لم يبقَ منهم في اليمن سبعة آلاف نفر»
(قطب الدين النهروالي: «البرق اليماني في الفتح العثماني»، تحقيق حمد الجاسر، دار اليمامة، الرياض، 1967)


■ ■ ■


جبال اليمن حصونه. يقول الباحث الأميركي كلايف سميث إن السلاسل الجبلية الشاهقة التي تخترق اليمن تتلقّى، في الجنوب، كميات كبيرة من الأمطار الموسمية فتستحيل مناطق خصبٍ وزراعة (يزعم الأكاديمي مايكل هدسون، الذي زار كل البلاد العربية بلا استثناء، أن جنوب اليمن هو أجملها على الإطلاق)، فيما تنحبس الأمطار عن الجبال في الداخل والشمال، فأصبح سكان الاقليم خبراء في تخزين المياه الشحيحة وبناء السدود وأنظمة الري. على هذه القمم تتوزّع القلاع والحصون ويقتبس سميث مؤرّخاً يمنياً من القرن العاشر، هو ابو محمد الحسن الهمداني، كتب توصيفاً شاملاً لقلاع اليمن وأبراجها وأطلالها، وهي بالمئات، والكثير منها يعود الى عهودٍ سحيقة. يجب أن تفهم هذه الصورة حتى تعرف لماذا لم يتمكّن احتلالٌ أجنبيّ من الاستدامة في اليمن، ولماذا كانت جبال اليمن دوماً «مقبرةً للغزاة».
كان في وسع جيشٍ جرّارٍ أن يجتاح الساحل اليمني السهليّ، كما فعل العثمانيون في القرنين السادس عشر والتاسع عشر، وأن ينزل من جيزان ويحتلّ مدينة زبيد الاستراتيجية في التهامة، وبعدها مرفأ المُخا، ثم يلتفّ الى تعز ويصعد شمالاً الى صنعاء. ولكن حتّى تسيطر على البلد بشكلٍ حقيقي، فأنت تحتاج الى تطويع كلّ هذه الحصون والقلاع المنتشرة في آنٍ واحد، والتحكّم بآلاف الكيلومترات من الطرق التي تصل بينها. كان يكفي أن يطلق الإمام نداء الخروج حتى تنتفض القبائل في أنحاء البلد، وتجعل الجيش الغريب ملاحقاً معزولاً، تسدّ الطرق في وجهه وتعترضه الغارات من كلّ جانب. في تأريخ قطب الدين النهروالي المكّي للحملات العثمانية في اليمن في القرن السادس عشر، مثلاً، نجد مراد باشا، أحد أوائل الحكّام العثمانيين الذين حاولوا السيطرة على الداخل الجبلي، وقد ذاب جيشه بعد أن وصل الى صنعاء، والقبائل تغير على وحداته حتّى تفتّت وأصبح «العربان» (كما يسمي النهروالي قبائل اليمن) ينهبون الجنود ويسلبونهم أسلحتهم وثيابهم. وجد مراد باشا نفسه، في نهاية الأمر، محاصراً في خيمةٍ مع العشرات من أمرائه، وحوله مقاتلون قبليّون، سرقوا ما معهم وجرّدوهم من ثيابهم وتركوهم عرايا يبحثون عن الطريق الى تعز. ثمّ تلقّف مراد باشا شيخٌ عربيّ، أعدمه فوراً ثأراً لآخر أبناء سلالة بني طاهر، صاحب عدن الذي قتله حاكمٌ عثماني آخر ــ اسمه سليمان باشا ــ غيلةً قبل عقود؛ واعتبر الشيخ أن رأس الباشا المقطوع هو ثأرٌ مستحقُّ لجدّه.
ثورة المطهّر بن شرف الدّين، التي قتلت مراد باشا وطردت العثمانيين حتّى من المدن الساحلية، استدعت حملة سنان باشا ضدّ اليمن عام 1569. قابل سنان الفقيه والمؤرّخ النهروالي في مكّة وهو في طريقه الى اليمن، وطلب منه تدوين أحداث حملته وانتصاراته، وهذا سبب كتابة «البَرق اليماني» (من السهل الحصول على الكتاب مجّاناً على الانترنت). يبدأ النهروالي تأريخه من الغزو المملوكي للبلد ونهاية حكم عامر بن عبد الوهاب، آخر ملوك بني طاهر الذين حكموا اليمن موحّداً، ثمّ وقوع البلد تحت السلطة العثمانية الاسميّة بعد أن سيطرت اسطنبول على القاهرة والمشرق وجدّة. الطريف هو أنّ الباحث السعودي الذي حقّق المخطوط ــ وهو يكتب عام 1967، حين كان النظام في الرياض يخوض حرباً في اليمن نصرةً للملكيين ــ يتعاطف بوضوح في مقدمته مع الثوار اليمنيين، ويعتبرهم مناضلين يدفعون غزواً أجنبياً. بل يحتجّ على وصف النهروالي للمقاتلين الزيديّين بتعابير تحقيرية مثل «حزب الشيطان» و«الضالين»، وينبّه الى أنّه «مؤرّخ سلطة» يعمل لدى الباشا، ويحكم بأن هذه الأوصاف تليق بالسلطة العثمانية أكثر من خصومها.
الظروف الدوليّة، كما اليوم، كانت في أساس الحرب، والنهروالي واعٍ لهذا الواقع بالكامل، فهو يبدأ تأريخه مع دوران البرتغاليين حول رأس الرجاء الصالح، وافتتاحهم طريقاً الى الهند، وضربهم للسلاطين المسلمين الهنود وسيطرتهم على هرمز (يقول المؤرّخ والفقيه إنّ سرّ الإبحار الى الهند قد سرّبه البحار العربي الشهير أحمد بن ماجد الى البرتغاليين عن غير قصد، حين أسكره الخمر وهو مع أحد قادتهم، وشرح له المواقع التي يجب أن تبتعد فيها السفن عن الساحل في جنوب افريقيا حتى لا تضربها الأنواء وتعبر بسلام). بل إنّ حملة سنان باشا، وإصرار اسطنبول على إرسال قوةً ضخمةٍ لإخضاع اليمن، كان مردّه الأساسي استيلاء قوات المطهّر على عدن، وتخوف السلطنة من أن يدخلها البرتغاليون («الفرتقال»، كما يسميهم النهروالي، وغالباً «الفرتقال اللعين»)، وأن يتمكنوا من قطع طريق الحج والتجارة بين الهند ومصر. حملات القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين كان لها حوافز مشابهة، مع دخول البريطانيين الى عدن ــ عام 1839 ــ وتهديدهم لبندر المُخا وسواحل البحر الأحمر. لهذا السّبب، ترافقت حملة سنان باشا البريّة مع غزوةٍ بحرية للقبطان خير الدّين استولت على عدن، وقد اضطرّ سنان ــ وهو يجهّز الحملة في مصر ــ الى إعدام اثنين من أمراء الترك بشكلٍ علنيّ ووحشي حتّى يحثّ باقي الأمراء على التطوّع للقتال في اليمن، بعد أن استنكف أكثرهم في البداية خوفاً من صعوبة الحرب فيه ونظراً لعدد الباشوات والأمراء الذين قضوا في جباله. بعد الإعدامات، يكتب قطب الدّين، بدأ قادة العسكر بالتسابق على السفر في الحملة.

نكبة الحملات

الّا أن قراراً من اسطنبول، يتّخذه القادة وهم متحلّقون حول خارطة، ينظرون الى الظروف الدولية والاستراتيجيا ثم يقرّرون أنّ من الضروري احتلال هذه البقعة وغزوها، لا يعني أنّ مناهم سيتحقّق على أرض الواقع ــ وهو خطأٌ في التقدير ستكرره أكثر من قوّةٍ في المستقبل. المشترك بين الحملات العثمانية في اليمن، وبينها أكثر من ثلاثة قرون، أنّها تحوّلت جميعها الى ورطات كارثيّة. وحتى حين كان سنان باشا وغيره يتمكّن من فرض هيبةٍ مؤقّتة على عمق البلاد، كانت السلطة سرعان ما تتفكك تحت ضغط تمرّدات عاتية. نصّ قطب الدّين النهروالي هو تعدادٌ تفصيليّ للأهوال التي تواجه أيّ غازٍ لليمن، من الطبيعة الى الاستحكامات الى القبائل المحاربة. تمحور جزءٌ أساسي من حملة سنان باشا، مثلاً، حول اخضاع قلاعٍ اسطوريّة مثل بلدة كوكبان المنيعة، التي تقع على شاهقٍ ارتفاعه أكثر من ثلاثة آلاف متر يستحيل تسلّقه، وبوابتها الرئيسية يوصل اليها جسرٌ ضيّق مرتفع، ما يجعل اقتحامها مستحيلاً. وكوكبان تقع على مطلٍّ يحمي مدينة شِبام (شِبام غرب صنعاء، وهي غير شِبام حضرموت الشهيرة)، يقول قطب الدين، تماماً كما تحمي قلعة القاهرة مدينة تعز (السعوديون قصفوا القلعة القاهرية، مثلما دمّروا الكثير من الآثار المذكورة في أحداث «البرق اليماني»، ولا يمكنك أن تتوقّع ممن لا يحترم آثار أجداده، ويشوّه أهمّ معالم حضارتنا في مكّة والمدينة، أن يحرص على تراث غيره). لم يتمّ اقتحام كوكبان، في كلّ حملات العثمانيين، الّا عبر التسليم والصّلح، وبعد حصاراتٍ تدوم أشهراً وتكلّف الغازي غالياً، ومثلها قلعة ثلا التي تقع على مدى النّظر منها ــ وكنت تجد سلسلة من هذه القلاع مشرفةً على بعضها البعض، كما في جبل الطويلة، حيث كان المتمرّدون يتحصّنون في ثلاثة حصونٍ متجاورة تحتلّ كلّ القمم الحاكمة.
كان رجال سنان باشا انكشاريين «أصليين»، رجالٌ أجلافٌ وشجعان ودمويّون شاركوا في أهمّ الفتوحات العثمانيّة، ولكنّ طبيعة اليمن هزمتهم. يروي قطب الدين حيرة سنان باشا وهو يحاول الاختيار بين ثلاثة طرقٍ يمكن لجيشه سلوكها: طريقٌ مختصر ولكنّه في باطن الجبال، «تخاف سلوكه الوحوش»، ولا يمكن للمَدافع عبوره. الطريق الثاني متلوٍّ وخطير، ومعرّضٍ للهجمات في كلّ موقع. والثّالث قابلٌ لعبور قوافل الجيش ولكنّه التفافيٌّ وطويلٌ جدّاً. كان اليمنيون يسدّون الطّرق بالأشجار ويحوّلون الأنهار اليها لتصير مستقنعاً موحلاً، تنغرس فيه المدافع وسنابك الجياد، وتصبح طوابير الجيش أهدافاً سهلةً للغارات والقناصين. إن كانت حملة 1569 «مكبساً للعسكر» على حدّ قول قطب الدّين، فإنّ الحملات الحديثة لم تكن أقلّ كارثيّة. في عام 1905 وحده ــ يكتب بول دريش في عمله عن تاريخ اليمن ــ خسر العثمانيون أكثر من 30.000 جندي في اليمن الشمالي؛ وحين حاولوا اخضاع ابن ادريس في عسير وتهامة المجاورة، فقدوا عدداً من الجّنود يفوق حجم القوات الادريسية بأكملها.
الغزاة، تاريخياً، لا ينظرون الى اليمن الّا من الزاوية العسكرية: كان مكسباً استراتيجياً بالنسبة الى العثمانيين، وهو مجرّد ساحةٍ لـ«الحرب على الارهاب» بالنسبة الى اميركا اليوم، وتراه الرياض مجالاً للهيمنة والتوسّع، ويعتقد حكّامها أنّ في وسعهم فعل ما عجزت الاستانة وبريطانيا ومصر عن تحقيقه، أو أنّهم سيخرجون من هذا العدوان سالمين. الغزاة لا يهمّهم تاريخ البلد ومستقبله، ولكن ماضي اليمن يكشف أنماطاً تتكرّر: هذه الجبال لا يحكمها وكلاء الأجانب والسلالات التابعة ــ وهي كانت كثيرة ولم يثبت منها أحد ــ فسادة اليمن الحقيقيّون، على مرّ التاريخ، هم امّا ملوكٌ أو ثوّار. ثانياً، دورات الهبوط والصّعود ليست جديدةً على هذا الاقليم. حصل انحدارٌ طويل في اليمن خلال القرن التاسع عشر مثلاً، بعد قرونٍ من الاستقرار والرخاء النسبي، بعد أن انخفضت أسعار القهوة على مستوى العالم وانتشرت زراعتها في المستعمرات الاوروبية؛ مثلما شهد القرن العشرين فشل تجربة الدولة الوطنية وتفكك مشروعها في جنوب اليمن وشماله، موصلاً الى الواقع الحالي. ولكن بعد كلّ مرحلة هبوط، كانت تخرج دعوةٌ أو ثورةٌ أو إمام، تعيد تنظيم المجتمع «من تحت» وتطلق مرحلةً تاريخيةً جديدة. أخيراً، فإنّ هذا البلد، الذي يجمع بين أهمية سنغافورة ومنعة أفغانستان، لن يصبح «هامشاً محتلّاً» بسهولةٍ، بل إن اختصاص أهله على مدى الزمن كان في احتمال العوادي والصّبرعليها، وإسقاء الموت لكلّ غازٍ طمّاع.