لم تبدأ معاناة الشعب السوري مع الحرب الأهليّة، فالسوريّات والسوريّون عانوا وما زالوا يعانون من قمع السلطة ونهبها للمال العام. الحرب ضاعفت تلك المعاناة مرّات جرّاء التهجير، والاعتقالات، وارتكاب المجازر من خلال القتل الجماعيّ للعزّل (بالسكاكين أو المتفجّرات أو البراميل، لا فرق).
إنّ معاناة التهجير للإنسان الذي شاءت الظروف بأن يكون وطنه سورياً، لا تختلف عن معاناة التهجير للإنسان الذي شاءت الظروف بأن يكون وطنه لبنان. معاناة الخطف والذبح والاعتقال والتعذيب والترهيب والخوف والقلق عند هذا وذاك هي واحدة. معاناة هذا وذاك من نهب المال العام والتفقير المُمَنهج الذي يمارسه المتنفّذون في النظام الشموليّ للزعيم الأوحد، والنظام الطائفيّ لزعماء الطوائف المتناحرين، هي واحدة؛ والمعاناة من القمع في البلدين ــ ولو بمستويات نوعيّاً مختلفة ــ هي واحدة. أي أنّ ما يجمع الناس في سوريا ولبنان هو خبرة معاناتهم الإنسانيّة الواحدة من زعماء كانوا ولم يزالوا إلى حدّ بعيد متعاونين في كلّ ما يضرب كرامة المواطنات والمواطنين وحرّياتهم. وما يجمعهم أيضاً هو استغلال كلّ نظام للمواطنين في البلد الآخر، فقد استغلّ النظام السوريّ لبنان واللبنانيين وانغمس في الحرب الأهليّة اللبنانيّة وجرائمها، واستغلّ أفرقاء النظام اللبنانيّ سوريا والسوريّين وانغمسوا في الحرب الأهليّة السوريّة وجرائمها؛ وكان المواطنات والمواطنون في البلدين وقودَ تلك الحروب، وأدوات قمعها، وضحايا الاستغلال. إن ألقى المواطنات والمواطنون في البلدين نظرة هادئة إلى أوضاعهم الحياتيّة وخبرتهم الإنسانيّة الفعليّة، لوجدوا أنّهم أقرب ممّا يبدو لهم حتّى في اللغة وصلات القرابة إذ أنّ معاناتهم واحدة؛ وكلّ غبار الإعلام والشحذ الطائفيّ و«الوطنيّ» يخفي هذه الحقيقة البسيطة والواضحة.
في قلب هذه المعمعة، تواجه القوّات الأمنيّة في البلدين تحدّيات كبيرة، ولهذا علينا أن نعود للأساس، لأهداف الإنسانيّة من الوسائل الأمنيّة في أيّ بلد، حتّى لا تضيع البلاد وأسباب وجودها. كلّ جهة أمنيّة في بلد ما هي وسيلة في يد الحكومة لتطبيق القانون الذي ينبغي أن يحمي الناس وأراضيهم، أو هكذا ينبغي أن تكون، وإلا كانت هذه الوسيلة الأمنيّة تُستعمل من أجل غايات لم تنشأ من أجلها، تكون تخون أهداف وجودها نفسه. ومن المفترض أنّ القانون يُسنّ من قبل ممثّلي الشعب، أي أنّ الشعب في النهاية مصدر هذا القانون الذي تحميه القوى الأمنية؛ ولهذا لا معنى للقانون نفسه إن كان القانون يضرب حقوق الإنسان الأساسيّة، أي إن كان قانوناً جائراً مبنيّاً على القمع و/ أو الاستغلال، و/ أو كان موضوعاً في ظلّ قمع، أو غسيل أدمغة، أو خضوع المشرّعين والشعب للعنف الماديّ أو المعنويّ، أو لعمليّة شراءٍ للضمائر.
في الحرب العالميّة الثانية، دافع النازيّون عن جرائمهم بقولهم إنّهم «اتّبعوا الأوامر». منذ ذلك الحين اتّفقت الدول أنّ هذا ليس عذراً لارتكاب الفظائع، وأنّ مجرّد حصول الإنسان على أوامر من قيادته لا يبرّر أوامرها، ولا يعفيه شخصيّاً من المسؤوليّة القانونيّة (والأخلاقيّة) لأفعاله. ومن هنا، يحاسب القانون، ومن المفترض أن يحاسب، كلّ إنسان يرتكب جريمة أو تعذيباً حتّى ولو أُعطي أمراً رسميّاً بذلك. قانوناً، لا يمكن للإنسان أن يعذر نفسه بالقول بأنّه كان «مجرّد عبد مأمور»؛ هذا، بالطبع، عدا مسؤوليّته الأخلاقيّة (ماذا عن الإيمان؟ أين أصبح الإيمان في بلادنا؟).

من الضروري القيام بتحقيق من خارج المؤسّسة ضماناً لحياديّة التحقيق

إنّ عمليّة قتل محارب لمحارب آخر في معركة ما في حرب ما، هي أمر واقع لا مفرّ منه طالما على هذه الأرض حروب؛ وقتل المجرمين بأحكام الإعدام بعد محاكمات عادلة، موجود ومقبول عند بعض الدول (ولو أنّه ممنوع في العديد من غيرها، ونرجو أن يعمّ المنع)؛ ولكن أن يُعذَّبَ إنسان أو يُهان، أو يُقتل في الاعتقال من دون محاكمة، خلال حرب أم سلم، لهو جريمة نكراء لا يبرّرها، لا أوامر، ولا دين، ولا أخلاق، ولا شرعة، ولا رأي، ولا الجرائم التي قد يكون ارتكبها ذاك الإنسان.
في الوقت نفسه، إنْ تصرّفَ أعضاء في مؤسّسة رسميّة أو غير رسميّة، أمنيّة أو غير أمنيّة، بشكل منافٍ للقانون (أو تنفيذاً لأوامر لا لإنسانيّة حتّى ولو كانت قانونيّة)، فقتلوا أو عذّبوا، فهذا لا يعني أنّ المؤسّسة كلّها تمارس التعذيب والجريمة، وإنّما يعني أنّ الذين قاموا بتلك الممارسات، والذين أعطوهم الأوامر، وغطّوا عنهم، هم المسؤولون، كلّ بطريقة. ولهذا من الضروري القيام بتحقيق من خارج المؤسّسة تلك، ضماناً لحياديّة التحقيق، من أجل الوصول إلى إحقاق الحقّ، وإطلاق الأحكام القضائيّة بحقّ المرتكبين عند ثبات الارتكابات؛ وأيضاً من أجل إطلاق ورشة تغييريّة في المؤسّسة تلك لتلافي حدوث مثل تلك الارتكابات في المستقبل.
ولكن إن كان اتّهام مؤسّسة برمّتها بأنّها مسؤولة عن جرائم قد يكون ارتكبها بعضٌ من أعضائها فقط، هو تسرّع غير منطقي ولا في محلّه؛ فإنّ حماية مؤسّسة وجميع مَنْ فيها من كلّ نقد، ورفض التحقيق الجدّي في ارتكابات ممكنة من بعض أعضائها، هو تطرّف غير منطقي وفي غير محلّه بدوره، لأنّه يشجّع الخارجين الممكنين على القانون في تلك المؤسّسة على تشويهها، واستخدامها لأهداف أبعد ما تكون عن أهدافها المشروعة (حماية الناس، مواطنينَ ومقيمين). إن أفلت وحش القمع والتعذيب من العقاب في بلد، لن يقف على عتبة باب أحد، حتّى هؤلاء الذين يدافعون عنه.
التعذيب أو القتل أو أيّ خروج آخر عن القانون (التحرّش الجنسيّ والاعتداء الجنسيّ، مثلاً)، هو دائماً مسؤوليّة أشخاص محدّدين داخل المؤسّسة التي ينتمون إليها، وليس مسؤوليّة المؤسّسة إلّا بقدر ما هي تغضّ الطرف عن خروجهم هذا، ولا تقوم بتغييرات ضروريّة لإصلاح المؤسّسة من أجل الحاضر والمستقبل. الخارجون عن القانون عادة ما يسعون إلى التهرّب من المحاكمة بزجّ المؤسّسة كلّها في معركة الدفاع عن جرائمهم هم، وتصوير أيّ محاكمة لهم هم بأنّها محاكمة للمؤسّسة كمؤسّسة؛ هذه سياسة تعمية للحقيقة والواقع، تضرب بالقانون عرض الحائط، وتضرب أيضاً بأسباب وجود المؤسّسة: حماية الناس كلّ الناس، مواطنين ومقيمين.
عندما تقع شبهة جريمة (أو ارتكاب ما)، كما يحصل حاليّاً في لبنان، تقتضي الحكمة إجراء تحقيق جدّي حياديّ، ومحاكمة لأشخاص محدّدين (من يُثبت التحقيق مسؤوليّتهم)، وذلك حماية للمواطنين وللمقيمين، وللمؤسّسة نفسها. من حقّ المجموعات ــ في حالتنا اللاجئون السوريّون ــ التي تشعر بأنّه ارتكبت بحقّها أفعال خارجة عن القانون والإنسانيّة، أن تقوم بكلّ عمل سلميّ للمطالبة والوصول إلى إحقاق العدالة. إنّ كلّ مجموعة (وشخص) قد تكون يوماً في موقع تريد فيه أن تطالب بالعدالة لذاتها أو غيرها، فهل تجد من الحقّ أن تُمنع عن المطالبة به؟ كم مرّة تظاهر اللبنانيّون في لبنان وبلاد أوروبا والأميركيّتين، هل كان منعهم من ذلك ليكون محقّاً لو حدث؟ نعم ممنوع على السوريّين التظاهر في بلادهم ولكن ولو حدث أنّم أرادوا التظاهر السلميّ في لبنان، ومُنعوا من ذلك فإنّ الفارق الضئيل ــ ولكن الوازن ــ في الحرّية بين النظام القائم في لبنان والنظام القائم في سوريا، سيأخذ بالاضمحلال أكثر فأكثر. إن كان للبنانيات واللبنانيين أن يقوموا بعمل، فأحد الأعمال التي لها معنى وجديرة بالقيام بها، من أجلهم ومن أجل السوريّين، هي أن يتعاضدوا مع السوريين للمطالبة بتحقيقٍ شفّاف وعادل. هذا وحده يحمي السوريّات والسوريّين واللبنانيّات واللبنانيين من ارتكابات يمكن أن يكون قد قام بها، أو قد يقوم بها، أيّ شخص، أو مجموعة، في المؤسّسات الأمنيّة اللبنانيّة (أو خارجها: شبكة الإتجار بالسوريّات وإجبارهنّ على الدعارة، أين أصبحت؟)، ويحمي تلك المؤسّسات نفسها، ويحمي المواطنات والمواطنين أجمعين في تلك المؤسّسات وخارجها، مِن تحوّل تلك المؤسّسات عن أهدافها الإنسانيّة. إمّا أن يكون الإنسان هو مركز اهتمام الأوطان والمؤسّسات، أو هذه لا تكون سوى فراغ. الوطن يكون وطناً عندما يحترم الإنسان كلّ إنسان. كلّ هزيمة لحقوق إنسان آخر ــ مواطناً كان أم غير مواطن ــ هي هزيمة لحقوق الجميع. إن لم نفهم هذا، سيصل إلينا جميعاً، ضمن وخارج المؤسّسات الأمنيّة، يوماً ما، وحش القمع.
* أستاذ جامعي