في مقالٍ سابق في «الأخبار» (11 تمّوز 2017)، قدّمتُ عرضاً سريعاً للعناية الصحية في لبنان بالمقارنة بما هو معروفٌ ومقبولٌ في المجتمع الطبي العالمي، وذكرتُ أن هناك إمكانياتٍ طبية هائلة في الجسم الطبي اللبناني، لكنّ العنايةَ الصحية مُفتَّتة، وليس هناك تنسيقٌ بين المشتركين في توفيرها من دولة، ومستشفيات، وأطباء، وقطاع تمريض. وعدم توفر هذا التنسيق يؤدي إلى هدرٍ ضحاياه اثنان: المواطن، وميزانية الدولة.
ولم يمضِ وقتٌ طويل بعد نشر المقال حتى أعلنت وزارة العدل الأميركية ملاحقة 412 شخصاً من أطباء وممرضات وموظفين في الإدارة الصحية، وفي حقل التأمين الصحي، بسبب عملية فساد وتزوير ورشوة كلَّفتْ خزينة الضمان الاجتماعي 1.3 بليون دولار. لقد كان القطاع الصحي في لبنان، منذ عشر سنوات، يشكِّلُ 12% من الدخل القومي. هذه النسبة تزداد مع مرور الوقت ـ وهذا معهودٌ في كلّ أنحاء العالم ـ بسبب تطور التكنولوجيا التي أُسرِفَ في استخدامها، الأمر الذي أدى إلى زيادة الهدر في العناية الصحية، وبسبب زيادة نسبة المسنّين الذين هم أكثرُ عُرضةً للأمراض المزمنة.
فما هو السبيل إذاً لتأهيل العناية الصحية في لبنان، ولوقف الهدر الذي هو عبءٌ على الدولة وعلى المواطن؟
هناك شيئان لا بد من المرور بهما، وهما: أنواع العناية الصحية، وأبعاد العناية الصحية.

■ أولاً، أنواع العناية الصحية. العناية الصحية اليوم تأخذ شكلين:

1- التطبيب الجماعي Population Management، ومجاله التشخيص السريع والمعالجة السريعة والكُفُؤة والوقاية اللازمة لأمراض القلب والشرايين، وأمراض الرئتين المزمنة، وأمراض السرطان، وأمراض المفاصل المزمنة، وأمراض الرأس والجهاز العصبي؛ ويدخل فيها أيضاً طب الأطفال، وخصوصاً العناية بالولادات الجديدة.
هذا النوع من العناية يمارسه الاختصاصيون في كل فرع، يحتاج إلى زيارات دورية مُقَرَّرة ومنظَّمة مسبقاً. وهناك مقاييس عالمية لكل نوعٍ من هذه الأمراض، يُلِمُّ بها الجهاز الطبي، ولا سيّما القيادي فيه.
2- التطبيب الإفرادي، وهو تطبيب سريع يلبي الحاجات السريعة التي لا تتطلب موعداً، والتي تقتضيها عوارضُ وقتية وبسيطة كارتفاع الحرارة، والأوجاع، والسعال الحاد، ونزيف الأنف، والإسهال وغيرها... هذا النوع من العوارض يُعالَج في عيادات ومستوصفات خاصة، ولا يحتاج عادةً إلى تحاليل مخبرية واسعة، ولا إلى تظليل، محوري أو مغناطيسي أو نووي. والمولَّج بهذا النوع من العناية مفروض فيه أن يكون سهل المنال؛ وبسبب ذلك، هناك زحمة في طلبه. وأغلب المرضى هم في عمر الشباب، ولا يعانون أمراضاً مزمنة؛ لا، بل هم كانوا قبل هذا العارض في صحة جيدة.

■ ثانياً، أبعاد العناية الصحية:

إن مؤسسة الطب Institute of Medicine تحدِّدُ ستّة أبعادٍ أو متطلَّباتٍ لعناية صحية جيدة، لا بل ممتازة. هذه المتطلَّبات هي:
1- سلامة المريض:
لسلامة المريض الأولوية في كلِّ قرارٍ علاجي: بمعنى أن أي علاج يوصف للمريض يجب ألا يسبب أضراراً إضافية أخرى في حالته الصحية. والأطباء العرب، في تاريخهم، راعَوا هذا المبدأ في ممارستهم العناية الصحية، وحذَّروا من تجاهُلِه.

عملية جمع المعلومات وتخزينها وتحليلها
هي الجرس الطنان
اليوم حول العالم
يُروى أن الخليفة العباسي المتوكل أحضر الطبيب حُنَين بن إسحاق إلى بغداد حين ذاع صيتُه، وأقطع له بوفر. ويقال إنَّ المتوكل أراد امتحان طبيبِه، فقال له: «أريد أن تصف لي دواءً يقتل عدواً نريد قتلَهُ»، فأجابه حُنَين: «ما تعلمتُ غيرَ الأدوية النافعة». وحاول الخليفةُ، تارةً يُرَغِّبُه، وتارةً أخرى يهدِّدُه. فكان جواب حنين: «وأما الصناعة (صناعة الطب) فإنها موضوعةٌ لنفعِ أبناءِ الجنس، ومقصورةٌ على معالجتهم. ومع هذا، فقد جُعلَ في رقابِ الأطباء عهد مؤكد بأَيمانٍ مغلَّظة أن لا يعطوا دواءً قتَّالاً لأحد» ( إبن القفطي: «مختصرُ الدول»).
2- فعّالية العناية الصحية والجدوى منها:
العناية الصحية يجب أن تكون مجدية وفعَّالة وآيلة إلى أن تأتي بالنتائجِ المرجوَّة. وعلى هذا الأساس يتركز الجهدُ والعقلُ والمواردُ لمعالجة أولئك الذين قد يفيدهم العلاج الموصوف. أما الذين يَشكون مرضاً عُضالاً يعرفُ العلمُ بأن لا أمل لهم بالشفاءِ، فالجهد يجبُ أن ينحصرَ في توفيرِ الراحة وتخفيف الآلام عنهم، لا في الإسراف في وصف الأدوية غير المجدية والجنوح إلى المحاولات العقيمة بلا طائل. ولهذا عمدَت المؤسسات الصحية والإدارات المسؤولة عن العناية الصحية، بالتعاون مع شركات الضمان الصحي، إلى إنشاء عيادات صحية تهتم بهؤلاء المرضى وبعائلاتهم لتوفر لهم الراحة الجسدية والنفسية وحتى الروحية، وتحت الإشراف الطبي المناسب. هذه المؤسسات تضمُّ أطباءَ، وممرضات، ومساعدين مختصين، وخبراء في الرعاية الاجتماعية، ورجالَ دين، ومتطوعين عانَوا من قبل حالاتٍ مشابهة. ومن هذه العيادات: العيادة المسكنة Palliative care وعيادة الانزواء Hospice Care.
3- عدم الإسراف في استعمال الأدوات والآلات الطبية التشخيصية، والحرص على المؤن والموارد، وعدم هدر الطاقة Efficiency، بل التصميم على الممارسة الشفّافة، والسرعة في الإنجاز المهنيّ، وبأقل كلفةٍ ممكنة، تجنباً لهدر المؤن الطبية، ومنعاً من توظيف الجهد الطبي في علاج لا طائل منه. ومن المسلَّمات التي يؤمن بها المجتمع الأميركي، مثلاً، والتي ساهمت في استقراره، وتوازنه وتقدمه، أن الإلحاح في الأحوال الطارئة يقتضي تكثيف العمل والإجادة فيه، بأقل كلفة ممكنة، وفي أقصر وقت ممكن. وهذا لا يتحقق إلا بتقريب عمليات الإنتاج بعضها من بعض، لا بل توحيدها. بمعنى أن التجربة المجتمعية تؤدي إلى مسلَّمات في المنهج والعمل يقبلها الكل، ولا تكون عرضة للآراء الشخصية؛ والهدف خلْقُ معايير للمجتمع الطبي (standardization) توفر الوقت والمجهود. وفي الوقت نفسه، تؤمّن عملية التعليم والتثقيف بنقل هذه المعايير والمسلَّمات من جيل الى جيل.
4- توقيت العلاج وعدم التأخر في إعطائه للمريض Timely treatment:
إن تشخيص المرض يجب أن يتبعه علاجٌ آنيٌّ بدون تأجيلٍ أو تلكُّؤ لأن التأخيرَ في المعالجة قد يؤدي إلى مضاعفات في حالة المريض الصحيَّة، وإلى زيادة الكلفة على المريض وعلى الدولة، لا لمعالجة المرض فحسب، بل لمعالجة المضاعفات التي حصلتْ نتيجة المماطلة والتلكُّؤ.
5- التكافؤ في معاملة المرضى؛ ذلك أنَّ مستوى العناية الصحية يجب أن لا يتفاوت من مريضٍ إلى آخر بسبب العرق، أوالدين، أوالمركز الاجتماعي – الاقتصادي، أو الجنس من حيث هو ذكرٌ أو أنثى.
6- على المُعالِج أن يضع خيارات ورغبات المريض وعائلتِه فوق كلِّ اعتبار، ويجب احترامُها. وإن الاستخفافَ بها يؤدي إلى عدم الثقة، وإلى هواجس وشكوك ليست في مصلحة المريض، ولا في مصلحة الطبيب المعالِج، ولا في مصلحة المؤسسة الصحية المُعالِجِة. وقد يؤدي بالمريض إلى رفض المُعالَجَة، وإلى اتّخاذ قرارات حمقاء تؤخر علاجه وتضرُّ بصحته.
والسؤالُ المطروحُ: أيٌّ من هذه الأبعاد الستة مُتَّبَعٌ لا في لبنان فقط، بل في العالم العربي كله؟
يقولُ المديرُ العام لوزارة الصحة في لبنان، الدكتور وليد عمّار، إن هناك إلحاحاً شديداً لإصلاح القطاع الصحي لجعله أكثر فعالية وأقلَّ كلفة، وأكثر مساواةً وتكافُؤاً بين مريض وآخر بغَضِّ النظرعن الجنس والعِرق والدين والمستوى الاجتماعي ـ الاقتصادي. ولبنان هو أول دولة في المنطقة شعر بهذه الحاجة، وخطط لعملية إصلاح جذري للقطاع الصحي. إنّ كلفة العناية الصحية في لبنان وصلت، في وقتٍ من الأوقات، إلى أكثر من 12% من الدخل القومي، قسمٌ كبيرٌ منه تكاليف أدوية وقسمٌ كبيرٌ منه يقع على عاتق المواطن لعدم توفر الضمان الصحي الذي تعرضُهُ شركات الضمان الصحي التجارية المستقلة. والمحسوبيات السياسية تلعب دوراً كبيراً في زيادة الهدر في مجال الرعاية الصحية بسبب الفوضى في انتشار المستشفيات الصغيرة. فأصحاب المستشفيات يُصرون على فتحها في الأماكن ذات الدخل العالي كبيروت وطرابلس طمعاً بالربح العالي، بينما تفتقرُ الأماكن النائية والفقيرة إلى هذه المؤسسات الصحية. والعناية الصحية في المستشفيات الخاصة، من حيث الجودة، هي، في رأي المدير العام لوزارة الصحة، غير متكافئة، وتختلف باختلاف وضع المريض: أغنيٌّ هو أم فقير؛ الأمر الذي يخالف البعد رقم (3) للأكاديمية الطبية.
في عام 1994 قدَّم البنك الدولي منحة لوزارة الصحة اللبنانية لتأهيل القطاع الصحي بحيث تُحصرُ رخص فتح مستشفيات جديدة في المناطق المحتاجة. إلا أن الحكومات اللبنانية أفرطت في ترخيص كثيرٍ من المستشفيات في مناطق يوجدُ فيها فائض من هذه المؤسسات الصحية؛ وأكثرها كان في مدينة بيروت وضواحيها.
وزيادة الهدر أيضاً ظهرت في تكاثر عدد الأطباء المرخص لهم بمزاولة مهنة الطب، وفي تدني كفاءات الأطباء الجدد المتقدمين لفحص الكولوكيوم. ذلك أنّ كثيرين من المتقدمين تخرجوا من معاهدَ في أوروبا الشرقية هي دون المستوى المطلوب، وهم لا يتقنون اللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية، ما يجعل تطبيق البروتوكولات المعنية بجودة العناية الصحية أمراً صعباً. سألتُ زميلي على مقاعد الدراسة، نقيب الأطباء السابق في بيروت، عن جدوى انتشار المستشفيات الصغيرة في بيروت، فقال: «لا جدوى منها. وأغلب الرخص الممنوحة أُعطيت بسبب ضغوطٍ سياسية وطائفية، ولغرضٍ تجاري. هذه الضغوط السياسية والطائفية نراها أيضاً قد أدَّت إلى الترخيص لأطباء لا يملكون الكفاءات العلمية اللازمة لممارسة العمل الطبي. فهناك إفراطٌ في منح الإجازات الطبية: فمن طبيب واحد لكل 1000 مواطن لبناني عام 1998، أصبح لنا الآن (عام 2013) طبيبٌ لكل 200 مواطن لبناني. هذا في الوقت الذي تفتقرُ فيه المستشفيات الى اليد الكفؤة في قطاع التمريض. ففي عام 1997 كان هناك ممرضة واحدة لكلِّ 1600 مواطن لبناني، وهجرةُ الممرضاتِ خارج لبنان بنسبة: (1 من كل 5 متخرجات من مدرسةِ التمريض) يشكل نزيفاً في القطاع التمريضي، ثُمَّ ليسَ هناك سياسة تُنَظِّمُ قطاع التمريض. 50% من الأطباء في بيروت، بحسب نقابة الأطباء في بيروت، لا يتعدّى دخلهم الـ1000 دولار شهرياً. وبسبب هذا التدنّي في الدخل، الذي يولِّدُ الفاقة عند هؤلاء الأطباء، تنتشرُ التحويلات على مختبرات تدفع عمولة للأطباء المُحَوِّلين من أجل فحوصاتٍ قد تكون ضرورية، وقد لا تكون؛ الأمر الذي يؤدي إلى زيادة في الهدر، الهدر الذي تقعُ معظم كلفته على كاهل المريض».
أمام الوضع السياسي القائم والتجاذب الطائفي المستمر، يعتقد المسؤولون في وزارة الصحة أن عملية الإصلاح الجذري تبدو صعبة. ولكن، وكما قيل، فإن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة. هذه الخطوة، في رأيي ــ ومن أجل اتّخاذ القرارات الجذرية ــ تبدأُ بجمع المعلومات.

لكي تُجمعُ المعلومات
لا بُدَّ من الإضبارة
الإلكترونية للمريض


جمع المعلومات

عملية جمع المعلومات وتخزينها وتحليلها هي الجرس الطنان اليوم في كل حركة حول العالم: BUZZWORD. وهي أساس استراتيجية العمل لكل دول العالم، ولكل مؤسسات العمل، سواءٌ أكانت حكومية أم شركات خاصة، وذلك لضرورات اقتصادية وتربوية وثقافية وعسكرية وصحية، وحتى سياسية. اليوم، وكلَّ يوم، تعتمد قرارات الدول والمؤسسات اعتماداً كلياً على المعلومات التي تجمعها، والتي هي في حوزتها. ثمّة دولٌ تتصارع بشراسة لجمع معلومات، بعضها عن بعض. وكلّ فريق رياضي يبني استراتيجيته الهجومية والدفاعية بناءً على المعلومات التي جُمِعَتْ عن الفريق المضاد والمجابِه له. والحروبُ، على بشاعتها، لا تُخاضُ إلا اعتماداً على المعلومات المتجمعة عن نقاط ضعف العدو ونقاط قوته. فعملية جمع المعلومات أصبحت من المسلمات في الأوساط العالمية. وهي لا تقتصر على مفهومها الإحصائي فقط، إذ إنها تنتهي، مع كل المؤسسات، بما يسمّى بالتقرير المُجَدْوَل للأَداء Dashboards الذي يمدّ العاملين في المؤسسة بمعلومات عن مستوى الأداء وتصنيفه تحت لونٍ من الألوان الأربعة الآتية: الأحمر وهو السيّئ، والأصفر وهو تحت المعدل، والأخضر وهو فوق المعدل، والأزرق وهو الممتاز، أي 100%. وهناك حدٌّ أدنى وحدٌّ أعلى يعرفه العاملون في المؤسسة. وبلمحة بصر، يمكنهم أن يُميّزوا ذا الأداء السيّئ، الذي يجب معالجته، من ذي الأداء الممتاز، الذي سيُحتفى به ويُحتذى.
جَمْعُ المعلومات ضرورة أولية للتأهب وللمبادرة وللفعل الناجح، وذلك حين يتحدد الهدف وتتوضَّحُ الغاية. وهو عمليةٌ من المفروض فيها أن تكون شفافة وبعيدة كل البعد عن أية أفكار مسبقة، لأنّها السبيل إلى اكتساب المعرفة في كل المجالات؛ وذلك بدورها التثقيفي للفريق الذي يجمع المعلومات، ويدونها، ويحللها، ومن ثَمَّ يعمّمها على الرأي العام ككل. وهذه المعلومات يجب أن تكون، للقياديين في هذا المضمار، منطَلقاً وحافزاً وقوة لهم نحو الأفضل، أُسوةً بقول أنطون سعاده: «المجتمع معرفة والمعرفة قوة».
الاعتماد على المعلومات يُجنّب المسؤولين اتّخاذ قرارات اعتباطية قد تصلُ أحياناً إلى درجة الرعونة من حيث نتائجها الكارثية.
في أوائل التسعينيّات من القرن الماضي، ظهر ما يسمى: Business Intelligence Systems، وهو مجموعة البرامج الإلكترونية Software Applications، التي تُخزِّن المعلومات الأولية وتنسّقها، وتستنطق ما يتلازم معها من معلومات مخزونة سابقاً، ثم تحللُ كلَّ هذا لتعرضه في تقرير معرفي نهائي، (كما ذكرنا آنفاً) يكون منطلقاً لآفاق جديدة في التخطيط والبحث والممارسة المهنية؛ الأمر الذي يزيد المعرفة ويخدم المجتمع بكُلّيّتِه وبأفراده.
وجمع المعلومات له فوائدُ كثيرة:
1- معرفة ما يجري في بيتك وفي محيطك وفي العالم كله.
2- معرفة ما يمكن أن يتحقق وما هو مُستبعَدٌ تحقٌّقُه، وخصوصاً في عملية العناية الصحية ككل.
3- يركِّزُ انتباهك دائماً على تحقيق الهدف والغاية. وهدف العناية الصحية الممتازة هو خدمة المواطن بفعالية: بأقصر وقت، وبأقل كلفة.
4- يساعدك على إثبات الإيمان بمشروعك التأهيلي للعناية الصحية في لبنان، والسير به قُدُماً، بإصرارٍ وبخُطى حكيمة ثابتة.
5- يساعدك على الثقة بنفسك، وتقدير قوتك الحقيقية وقوة الفريق العامل معك في مشروعك النهضوي تجاه المجتمع المبني على نظرية: «الواحد للكل، والكل للواحد».
6- يساعدُ على تخفيف الكلفة في عملية تأهيل العناية الصحية. والكلفة، هنا، لا تعني معناها الماليَّ المحدود، لكنّها تشمل كلفة العواقب الكارثية التي تنتج عن عملٍ غيرِ مدروس، والتي يجب تجنُّبه. فمن ناحية الدافع الاقتصادي، وعلى مستوى الدولة، فإن أية مخصَّصات مالية لأجل أي مشروع تتطلّب منتهى الشفافية في إنفاقها، ومنتهى المسؤولية والحكمة والانضباط في العمل، كي تأتي النتائج إيجابية؛ فكيف بأنظمة العناية الصحية المفتَّتة في لبنان وفي العالم العربي! وهذا أيضاً يراعي الدافع السياسي للأمر، من حيث أن المخصصات المالية تأتي من الضرائب التي يدفعها المواطن للدولة أو المؤسسة. والمواطن هو المعنيُّ أولاً وأخيراً، وهو صاحبُ الحق في أن يتثبَّت من إيجابية النتائج النهائية.
7- يشجِّعُ على التركيز على التطور والابتكار.
8- يُساعد على التخفيف من الهدر.
9- يُساعدُ على تفهُّمِ الحاجات الإنسانية للمواطن (وهنا تبدو أهمية جمع المعلومات عن حاجات الناس).
10-يكسبُ ثقة الإنسان في تعامل المؤسسة معه.
11-يؤدّي إلى جودة في النتائج النهائية من أجل توظيفها في خدمة المواطن والمجتمع.
ولكي تُجمعُ المعلومات لا بُدَّ من الإضبارة الإلكترونية للمريض. والإضبارة قد تكون مكلفة للطبيب ذي العيادة المستقلة. ولكن هنا يأتي دور وزارة الصحة والدولة في توفير الميزانية اللازمة لتوزيع البرنامج الإلكتروني على العيادات الطبية، وإلزامها به، ومن دون مقابل مالي. والمستشفيات ملزمة أيضاً بتبني الإضبارة الإلكترونية في معالجة المرضى الذين يدخلون المستشفى، وملزمة أيضاً بالمساهمة بنسبة معينة، وبحسب حجم المستشفى، في ميزانية الدولة المخصصة لهذا المشروع. في عام 2014 كان عدد المستشفيات في الولايات المتحدة، التي تستعمل الإضبارة الإلكترونية، حوالى الـ75%. ومنذ ذلك الحين والنسبة آخِذةٌ في الازدياد، لأن الدولة ألزمت المستشفيات في 17 آب 2015 بالإضبارات الإلكترونية في إرسال تقاريرها السنوية عن نتائج مؤشّرات الجودة في العناية الصحية. وبناءً على هذه المؤشرات، ستحصل هذه المستشفيات على أي كمية من المستحقات تجاه خدمتها للمرضى في السنة المعنية ــ وقد أوضحت ذلك في المقال السابق تحت عنوان: Pay-per performance. وهكذا فإنّ الإضبارة الإلكترونية في المستشفيات ذاهبة عاجلاً إلى نسبة 100%؛ ولا مفر من ذلك. والعناية الصحية في الدول المتطورة ذاهبةٌ إلى الإضبارة الإلكترونية.
أما بالنسبة إلى العيادات الخاصة، فقد منحت وزارة الصحة الأميركية عام 2011، وعلى مدى خمس سنوات، كلَّ طبيب ما يزيد على الـ 85 ألف دولار لشراء البرنامج الإلكتروني للإضبارة الصحية، لا بل وضعت عقوباتٍ على الذين رفضوا الإضبارة الإلكترونية بحَسْم 3% من تعويضهم من الضمان الاجتماعي الذي يُدفعُ لقاء خدماتهم الصحية.
والإضبارة مضمونة كخصوصية للمريض، لا يُسمحُ لأحدٍ بالاطِّلاع عليها إلا الدولة والمريض نفسه، يدخل إليها بواسطة كلمة السر Password. وعن طريق المريض، يدخل إليها أيُّ طبيبٍ يعالجه، وأيُّ مستشفى يحلّ فيه في أي مكان من البلاد أو حتى أي مكان من العالم. لا أريد أن أدخلَ في تفاصيل هذه العملية التي هي من اختصاص التقنيين المختصين في علم الحاسوب والشبكة العنكبوتية IT or Information Technologists . فالإضبارة الإلكترونية تساعد وزارة الصحة والضمان الاجتماعي على جمع المعلومات القيِّمة، التي ذكرتُ فوائدها آنفاً، وتعطيهما صورةً حقيقية عن أداء كل مستشفى، وكل طبيب، في ما يتعلق بالعناية الصحية السريرية، وبمسيرة التأهيل للعناية الصحية، وبحصيلة النتائج النهائية لمعالجة كلٍّ من الأمراض المزمنة، وبكلفةِ كلِّ هذه العمليات، ما يخول الدولة، اعتماداً على تحليل المعلومات، تنظيمَ سياستها في الضمان الصحي للمواطن اللبناني، ويساعدها على وقف الهدر. وبتفصيل أكثر، فإن الإضبارة الإلكترونية تعطي فكرة عن معدل الأيام التي يبقى المريض خلالها في كل مستشفى على حدة، وتتيح مقارنة بعضها ببعض وبالمعدل العالمي المقبول في المجتمع الطبي؛ ولكل مرضٍ معدل الأيام المقبولة. الإضبارة الصحية تعطي الدولة والجهاز الطبي فكرةً عن الأدوية المستعملة من حيث كلفة كل دواء وإشكالاته المتوقعة، وتعطي فكرة عن مدى انتشار الأدوية المخدِّرة ونسبة المدمنين عليها لإيجاد سياسة تكافح هذه العادة التي لها تأثيرٌ كبير في المجتمع ككل، خصوصاً زيادة الرعونة عند أفرادٍ معينين تؤدي إلى زيادة حوادث السير، التي قد تكون كارثية على أناس أبرياء.
وهناك تفاصيل عديدة عن أهمية جمع المعلومات ودراستها عن طريق الإضبارة الإلكترونية. والنخبة، ذاتُ الكفاءة العالية في الجهاز الطبي، يجب أن تأخذ دوراً قيادياً في هذا المسعى، سواءٌ عن طريق وزارة الصحة أو النقابة، دون اعتبارٍ للسياسة الضيقة وللمعيقات الطائفية. إنه مشروعٌ وطني بامتياز يحتاج إلى قيادة ذات رؤية، والى فريق عملٍ ملتزم بهذه الرؤية؛ وهذا موضوع نؤجّل البحث في تفاصيله إلى وقتٍ آخر.
* كاتب وطبيب، رئيس سابق لمنظمة الأطباء العرب الأميركيين