مع تصاعد المجازر الدموية الفظيعة التي ترتكبها التنظيمات المسلحة التكفيرية والتي تعتنق السلفية الانتحارية، وفي مقدمتها «تنظيم الدولة/ داعش» و»القاعدة» بجميع فروعها بحق المدنيين، وخصوصاً النساء والأسرى وأبناء الأقليات والمذاهب المخالفة لمذهبهم، حتى لو كانوا من الدين أو الطائفة الدينية ذاتها، تتعالى أصوات الكثيرين من رجال دين وكتاب وإعلاميين وسياسيين مطالبة بما يسمونه «استئصال الفكر التكفيري» و»مراجعة التراث التاريخي الديني بهدف حظر وشطب رموز ووقائع ونصوص ذات علاقة مباشرة بالعنف الديني». والواقع فهذه المطالب والأهداف، في الأغلب الأعم، ليست إلا كلاماً إنشائياً ومناسباتياً لا قيمة علمية أو عملية له.
لنبدأ بتفحص عبارة «استئصال الفكر التكفيري» لنرى أنها تنطوي على مغالطة عبثية لا معنى لها. فالفكر سواء أكان تكفيرياً أم غير تكفيري، لا يمكن استئصاله حتى بالمعنى المجازي، بل يمكن مقارعته ومساجلته فكرياً بهدف دحضه وتفكيكه وتبيان خطئه وتهافته وخطورته على الإنسان والمجتمع، بما يؤدي إلى حظره وتجريمه دستورياً وقانونياً، خصوصاً حين يتحول إلى تحريض مباشر على القتل وحين يكون بمثابة الأساس النظري والمعنوي لتنظيمات مسلحة تكفيرية تستهدف المجتمع أو بعض مكوناته. أما إذا كان المقصود بهذا المطلب هو الاستئصال الجسدي لحَمَلَة هذا الفكر التكفيري وأنصاره لمجرد أنهم يؤمنون به كفكرة نظرية، فهذه دعوة فاشية سافرة لا فرق بينها وبين دعوات داعش والقاعدة لقتل الناس بتهم تتعلق بقضايا الرأي والضمير، ولا يمكن التعامل مع قضايا كهذه حتى لو كانت خطرة إلا بالطرق الفكرية والدستورية والقانونية، طرق ترتقي من السجال والكفاح الفكري النظري إلى الحظر والتجريم الدستوري والقانوني للأذرع المسلحة والإعلامية التي تأخذ بها إلى المواجهة المسلحة لهذه الأذرع.
لن تموت «داعش»
و«القاعدة» وغيرهما إلا بتجريم التكفير الديني

إن الفرق هنا واضح بين التصدي للمسلحين التكفيريين بالسلاح، وهو أمر لا جدال فيه ولا مندوحة عنه لحماية المجتمع من مذابحهم الهذيانية الدموية، وينبغي أن يكون هذا التصدي بمنتهى الحزم والصرامة والعمق حتى يُجهَز على خطرهم في ساحات القتال، وبين التصدي لمن يبشر بالفكر التكفيري الظلامي. وهنا ينبغي أن يكون التصدي بسلاح الفكر ذاته وبالوسائط الإعلامية ذاتها، مثلما ينبغي أن يكون بقوة القانون والدستور. في هذا الصدد، ينبغي أن تعتبر الدعوة لإقامة الدول الدينية التكفيرية والجماعات التي تحاول فرضها بقوة السلاح على المجتمع أموراً محظورة بموجب دستور الدول ويعاقب عليها القانون بعقوبات منصوص عليها وتتلاءم مع حجم الجريمة والخطر الذي تمثله. أما الحركات والأحزاب السياسية السلمية ذات الخلفيات والمرجعيات الثقافية الدينية، التي تعترف بحياد الدولة ومدنيتها وعلمانيتها، فلا علاقة لها بهذه الجماعات التكفيرية شكلاً ومضموناً، بل هي أحزاب سياسية شأنها شأن الأحزاب الأخرى ذات الخلفيات غير الدينية كالأحزاب الديموقراطية المسيحية التي حكمت دولاً أوروبية عديدة بعد أن اعترفت بالدولة العلمانية ووافقت على شروط النشاط السياسي الديموقراطي السلمي. إن الإعلام العربي، وفي مقدمته الإعلام السعودي وخادمه الإعلام «المُتَسَعْدِن» في لبنان ودول عربية أخرى، يصدع رؤوسنا هذه الأيام بضرورة مكافحة «الفكر التفكيري» واستئصاله، وقد اعتبرت هذه المعركة لا تقل أهمية عن المعركة العسكرية. وقد بالغ بعضهم فنادى بضرورة مراجعة أو منع أجزاء من التراث التاريخي الديني والفقهي، واقترح البعض الآخر من الباحثين عن «الورق الأخضر الثمين» تأسيس مراكز للدراسات والبحوث تتخصص في هذا المجال. هذا كله عبث لا طائل تحته ولعب بالكلمات وخداع وتضليل!
إن الحل الحقيقي أو الأسلوب الصحيح في مواجهة التكفيريين وفكرهم ليس في تكرار وتطبيق الرأي الذي قال به المعتزلة قديماً والقاضي بتكفير المكفِّرين وقتلهم مستندين في ذلك إلى حديث منسوب إلى النبي العربي الكريم يقول «مَن كفَّر مسلماً فقد كفر»، وفي رواية أخرى «أيما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما».
ولكن بداية الحل أو التحدي الحقيقي أمام الجميع اليوم هو الآتي: إذا كان هؤلاء المتاجرون بأقلامهم، في أسواق الثقافة والإعلام، وإذا كان أسيادهم في الخليج وفي سائر الدول الدينية وشبه الدينية جادين وصادقين فعلاً في محاربة داعش وجماعات الذبح التكفيري المشابهة لها فليُقْدِموا على عمل مهم واحد سيكون له تأثيره الهائل، ألا وهو: تجريم وتحريم تكفير الإنسان تبعاً لما يؤمن أو لا يؤمن به بوصف هذا التكفير تحريضاً مباشراً على القتل بتهمة الردة!
فهل يجرؤ أولئك الذين تقوم أنظمة الحكم في دولهم على أساس تكفير المذاهب والأديان الأخرى على فعل ذلك؟ هل يجرؤ على فعل ذلك مَن قامت دولتهم بفضل سيوف جماعات تكفيرية لا تختلف عن داعش والقاعدة شكلاً ومضموناً كجماعة «إخوان التوحيد» في الجزيرة العربية في العشرينيات من القرن الماضي؟ هل يجرؤ على ذلك رجال دين وسياسة وإعلام يعتبرون التكفير ركناً من أركان الدين، بل يرتقي به بعضهم إلى مصافي الفريضة الواجبة كالصوم والصلاة في جميع (وليس أغلب) الحركات السياسية الإسلامية السنية والشيعية؟
هل يجرؤ على ذلك من ينص دستور دولتهم على أنها دولة دينية ومن مذهب واحد مع وجود عدة مذاهب في البلاد و»أن هذه المادة الدستورية غير قابلة للتعديل أو التغيير إلى الأبد/ المادة 12 من الدستور الإيراني»؟
هل يجرؤ على فعل ذلك من يعاقب قانونهم الجنائي الناس بالموت بتهمة الردة، وقطع اليد على السرقة وبالرجم على «الزنا»، ويحرم ويعاقب المرأة التي تقود سيارة أو مَن يحكم قانون عقوباتهم بالحبس لشهرين كحد أقصى، على قاتل المرأة في ما يسمونه قضايا «الشرف وغسل العار»، بل، وأحياناً يطلق سراح القاتل معززاً مكرماً؟
هل يمكن أن تجرؤ دول كالسعودية ومعها مجموع دول الخليج العربي، وإيران ومصر ومعها مؤسسة الأزهر، وباكستان والسودان والمغرب والعراق ومعه الحوزات والمرجعيات الدينية الشيعية والسنية، وسوريا والأردن على تجريم وتحريم ممارسة «تكفير المخالف أو المختلف دينياً» وعلى ما يترتب على هذا التكفير من فظاعات بحق الإنسان؟ لم تجرؤ حتى الآن دولة أو مؤسسة عربية أو غير عربية على اجتراح مأثرة كبيرة كهذه، ولهذا سيبقى التكفيريون وجماعاتهم المسلحة في داعش وغيرها في مأمن قانوني ودستوري. سيظلون يسفكون دماء المسلمين وغير المسلمين دون رادع حقيقي!
ولهذا يمكن تكرار التحدي بكلمات أخرى هي: لن تموت داعش والقاعدة وغيرهما إلا بتجريم التكفير الديني وتحريمه دستورياً، وليس للتأخر عن مواجهة هذا التحدي سوى معنى واحد هو سفك المزيد من دماء الأبرياء والتمهيد لظهور جماعات ذبح أخرى ترث داعش والظروف الذي أنتجت داعش!
على الطرف الآخر من متراس مواجهة الفكر التكفيري، ينبري كتّاب ومعلقون ليبراليون لاعتبار المواجهة مع التكفيريين مواجهة مع الدين الإسلامي ذاته، ولهذا فهم يطالبون بإخراج هذا الدين من حياة الناس والمجتمع ورمي كافة الموبقات والفظاعات التي يرتكبها التكفيريون في داعش وشقيقاتها على صفحة الدين الإسلامي واعتباره هو المسؤول عن ذلك. ودليلهم على ما يذهبون إليه هو أن ما تقوم به الجماعات التكفيرية من جرائم اليوم كان لها ما يماثلها في عصر صدر الإسلام، وأن هؤلاء يبررون ويستندون في ممارساتهم إلى نصوص ووقائع دينية في القرآن والسنّة. إن هؤلاء الذين لا يخلو خطابهم من العداء الصريح والتقليدي للعرب والمسلمين من النوع التقليدي «الاستشراقي المعروف»، والذين يقول لسان حالهم: كلكم – أيها المسلمون والعرب - دواعش وتاريخكم وكتابكم المقدس يقولان ذلك، إن هؤلاء يخلطون عن عمد ودهاء حيناً وعن جهل بحقائق الأمور حيناً آخر، بين أمرين لا يجمع بينهما جامع، هما الوقائع التاريخية والسياق التاريخي لتلك الوقائع. كيف ذلك؟
إن أحداث التاريخ القديم الدموية والقاسية والارتكابات التي نصفها اليوم بالمجازر الإجرامية لم يكن ليخلو منها تاريخ أي شعب من شعوب العالم القديم، بل ولا يكاد تخلو منها قصة نشوء وانتشار أي دين أو إمبراطورية في التاريخ القديم، دع عنك أن جرائم العصر الحديث التي ارتكبتها دولة توصف بالمتحضرة والمتقدمة والديموقراطية كالولايات المتحدة فاقت جميع جرائم الماضي القديم بأضعاف مضاعفة. لنتذكر على سبيل التوثيق حملة تفريغ القارتين الأميركتين من السكان الأصليين برصاص الآريين البيض وسيوفهم، لنتذكر حملات الاستعباد التي أفرغت القارة الأفريقية من نصف سكانها الأصليين، ومجزرتي هيروشيما وناكازاكي اللتين أبيد فيهما من البشر ما يعادل سكان شبه الجزيرة العربية كلها في عصر صدر الإسلام. ومثلما نجد أمثلة على سبي النساء والعقوبات البدنية خلال حروب الفتح واحتلال البلدان المجاورة في تاريخ الإسلام، نجد ذلك كله في تاريخ جميع شعوب الأرض وبدرجات مختلفة الشدة والكثافة، وهو أمر مدان إنسانياً دون شك في عصرنا، ولكن ينبغي وضعه في سياقه التاريخي الحقيقي. هذا ليس تبريراً كما يعتقد البعض لممارسات ومجازر الماضي، بل هي محاولة لفهمها وفق سياقها التاريخي، لأن الخطأ الخطير يكمن في أن دعاة الليبرالية الزائفة يكررون خطأ التكفيريين في داعش وغيرها. لندقق في الأمر لنرى:
إن التكفيريين في داعش وغيرها جمّدوا التاريخ العربي والإسلامي كله في لحظة واحدة هي لحظة الواقعة الحدثية المعنية كأن تكون قتل أسير أو سبي امرأة، سالخين تلك اللحظة عن سياقها التاريخي الحقيقي الحي والطويل وناقلين إياها الى سياق معاصر مختلف نوعياً تماماً، وهم بذلك كمن يحاول أن يقتطع شريحة حية من جسد إنسان ليزرعها في جسد إنسان أو حيوان آخر في زمن آخر.
إن التكفيريين والمتعصبين في جميع الأديان لا يؤمنون بجريان التاريخ وتغييرات الحياة وأنماط تجلياتها، بل جمدوها وتجمدوا هم معها عند نقطة واحدة منها، وهم يحاولون صياغة عالم اليوم وفق نموذج مستنسخ من تلك «النقطة». هذا الأمر هو ما يكرر فعله الليبراليون والعلمانيون المتطرفون بقصد أو من دونه، فهم يجارون التكفيريين في مسعاهم ومنطقهم الخاطئ هذا، وينطلقون من نقطة تاريخية جُمِّدَت وسُلخت من سياقها الطبيعي التاريخي ويصفون بها إسلام ومسلمي القرن الحادي والعشرين كلهم. وهم بهذا يدمرون الواقعة التاريخية ذاتها أولاً ومعها دلالاتها العميقة ثانياً، وسياقها الحيّ الحقيقي ثالثاً في الوقت نفسه. لتبسيط ما نقوله هنا نتساءل: ما علاقة وموقع المسلمين ضحايا التكفيريين اليوم في هذا المنطق الاتهامي، هل هم مدانون أيضاً لكونهم مسلمين كالتكفيريين؟ ثم، أين نضع الأمثلة التاريخية على وقائع معاكسة لتلك التي يحتج بها التكفيريون وأعداؤهم المزعومون الليبراليون، فالمعروف أنه بإزاء حوادث قتل أسرى حدثت فعلاً في ذلك العصر، هناك حوادث عفو عنهم حتى ليكاد يكون العفو هو القاعدة والقتل والسبي هو الاستثناء؟
إن الإجرام التكفيري، والذي يسميه الإعلام الغربي والعربي التابع له «الإرهاب الإسلامي» هو ظاهرة عالمية جديدة، لا تمت بصلة لأية ظاهرة مشابهة أخرى، وهي ظاهرة لها أسبابها وظروفها الخاصة وأطرافها المؤسسة والداعمة مثلما لها ضحاياها وأطرافها المقاومة. وهي في كل هذا بحاجة لمن يقرأها ويتعامل معها بعيون معاصرة لا بعيون الموتى التي يستعملها التكفيريون ذاتهم لرؤية عالم اليوم. ويبقى مطلب تجريم التكفير وتحريمه دستورياً وقانونياً هو الخطوة الصحيحة الأولى للوقوف في وجه تسونامي الدم التكفيري الذي تجتاح العالم العربي وأجزاء من عالم الشرق الآسيوي والأفريقي. إنها ظاهرة معاصرة تمت بصلة حقيقية لعالم اليوم وتوازناته وتعقيداته وهو عالم تهيمن فيه وعليه الإمبرياليات الغربية بقوة السلاح والاقتصاد والإعلام أكثر مما يمت إلى وقائع محددة في قصة قيام وانتشار هذا الدين أو ذاك قبل قرون عديدة.
*كاتب عراقي