أُثيِرت ضجة في الجامعة اللبنانية حول سلسلة من الأحداث، مثل تعيين مدير في معهد العلوم الاجتماعية ـ زحلة والبقاع، سنّي الهوية ومكتمل الأوصاف القانونية والأكاديمية. اشتركت في الضجة القوتان المارونيتان الحاكمتان بأعلى الهرم فيهما وعمداء منهما فيها، تصريحاً واعتصاماً وتظاهراً وتهديداً.
وكذلك حول اعتراض عمداء في أعلى سلطة أكاديمية في الجامعة، أي مجلسها، على تعيين موظفة مسيحية ـ فئة ثالثة بدلاً من موظفة سنية، إذ تدخل رئيس أعلى منصب سياسي فيها لإيقاف القرار.
فما الجديد في الضجة، في وقت يعرف فيه الضاجون، اعتراضاً واعتراضاً على الاعتراض، أنّ المحاصصة الطائفية أصبحت بحكم البديهية في الجامعة، كما في غيرها؟
الجديد يأتي على مستويان:
أولاً، هو جديد سياسي يتمثل باقتراب موعد الانتخابات النيابية، وقد قيل فيها الكثير، إعلامياً، وأغفِلت دلالة الموقع في السياسة. فالقوتان المارونيتان تخوضان معركة لموقع «كاثوليكي» في «عاصمة الكثلكة» ضد «اغتصاب السنة»، وهم مركز الثقل في البقاع، وهي في الحقيقة معركة ضد زعامة زحلة التقليدية التي لم تسطع القوتان ومن لف لفهما إلغاءها في الانتخابات البلدية، وقد عمدتا إلى ذلك، ويعمدان اليوم إلى مصادرة تمثيلها.
ثانياً، جديد أكاديمي تمثل بحراك سياسي لعمداء مسيحيين ضد تعيين المدير، واحتجاج عمداء وممثلي أساتذة مسلمين على تعيين موظفة، وصمت الهيئة التنفيذية للرابطة عن كل ذلك، وكل من العمداء وممثلي الأساتذة والهيئة التنفيذية هم أعلى سلطة في الجامعة لـ«كل» أساتذتها وطلابها.
ومع أهمية مناقشة هذين الجديدين، وقد ناقشها واستنكرها آخرون، فإنّ هذا المقال سيطرح فرضية أخرى للنقاش استناداً إلى معطيات هذه الضجة وإلى معطيات أخرى (التشعيب والتفريع)، لُمِح لها قليلاً في الضجة ولم تثر اعتراضاً سياسياً عندما أقدم رئيس الجامعة على فتح شعب لفروع لم تستوفِ الشروط الأكاديمية، مبنى ومختبرات وتجهيزات. وتعارض الفرضية ما يجري مع إحدى وظائف الجامعة: إنتاج نخبة موحَدة وموحِدة، من دون التعرض لتعارضها مع وظيفتي الجامعة المعروفتين، التعليم والبحث، الذي يبلغ الوضوح أعلى درجاته في مجافاة نوعي المعطيات لهاتين المهمتين؛ حين تقدم قوى سياسية على استباحة حرم جامعي، شارعياً وسياسياً، وحين يسعى رأس حرم أكاديمي يفترض أنه من الاكفأ، بحثاً وتعليماً، على تصدر خطاب طائفي وحين تبرر أغلبية أعلى سلطة أكاديمية فتح شعب وفروع في مناطق بحجة «الإنماء»، وهذه ليست مهمتها، وتنسى المهمتين الموكلتين حصراً بها، التعليم والبحث.
فالجامعة ـ أية جامعة ـ يفترض قيامها بوظيفتين/ مهمتين: التعليم والبحث، وهذا المتعارف عليه في قانون تأسيسها، ومنها قانون الجامعة اللبنانية، إلا أنّ ما يُغفل ذكره، لبداهته أو لتعطيله، مهمة أخرى هي إنتاج نخبة موحَدة وموحِدة.
فاختيار الاسم للمؤسسة التي تقوم بمهمتي التعليم والبحث ليس من دون معنى واستهداف؛ فالجامعة، بالعربية، من جمع وهو تأليف المتفرق، وهي، باللغات الأوروبية، من الأصل اللاتيني universitas التي تعني، أيضاً، الاجتماع في وحدة أو من universe التي تعنى العام.
ويعني معنى الاسم وقرنه بمهمتي الجامعة أنّ المهمة الثالثة تكوينية وأساسية، فتأسيس جامعة، أياً كان المؤسس ـ دولة أو حزب أو طائفة ـ يستهدف إنتاج جماعة/ نخبة أولاً، عبر العلاقات المجتمعية بين مكوناتها والمعايير الواحدة لاجتماعها، ونخبة فاهمة، تعلماً وتمحيصاً ثانياً.
وهذه الوظيفة/ المهمة للجامعة تفترض وسائل لإنتاجها:
1- رؤية تحكم البرامج والمناهج قائمة على معايير الانتماء الوطني من جهة ومعايير الفكر النقدي من جهة ثانية، ومعايير الانفتاح على الآخر من جهة ثالثة.
2- حرم جامعي يتيح لهذه الرؤية أن تتحقق عبر العلاقات المجتمعية بين مكونات الجامعة، طلاباً وأساتذة وإداريين وعبر التمايز بين هذه المكونات وبين البيئة المحيطة.
وإذا كانت هذه الوظيفة/ المهمة حاضرة ومدركة عند تأسيس الجامعات في الأيام الغابرة، فإنها أصبحت بديهية عند استواء الجامعات وبخاصة في المجتمعات الحديثة، فهل هي كذلك في المجتمعات الهجينة، ومنها لبنان؟ وبكلام آخر، هل تنجز الجامعات في لبنان هذه المهمة؟
(في لبنان نوعان آخران من الجامعات: جامعات خاصة قديمة ترعاها مؤسسات ابتغت إنتاج نخب تتماشى مع معاييرها وقيمها، وقد حافظت على وحدتها وحرمها إبان أشد الظروف المجتمعية والاقتصادية قسوة، وكان التفريع مؤقتاً وقصيراً حين استدعته ظروف قاهرة، كما في الجامعة الأميركية إبان الحرب، وكان التفريع إعادة إنتاج للأصل، كليات بكاملها، حين استدعته ظروف ديمغرافية، كما في جامعة بيروت العربية وجامعة البلمند، وكانت المعايير الأكاديمية هي الهاجس الأول والأساسي، تعليماً وبحثاً.
جامعات خاصة حديثة يرعاها فرد، في الغالب أو جمعية، ابتغت في غالبيتها الربح، بالدرجة الأولى، ولم يكن لها بالأساس حرماً، وكان التفريع هو القاعدة، ولا يتيح قصر عمرها الحكم على أكاديميتها، تعليماً وبحثاً، وإن كانت المعلومات المنتشرة غير مشجعة).
تفترض طبيعة الجامعة اللبنانية الرسمية أن تكون هذه الوظيفة «إنتاج نخبة موحّدة وموحِدة» لمكونات لبنان حاضرة، كما تفترض حداثة الدولة في لبنان والتكوين الطائفي الغالب لجماعاته أنْ تكون هذه الوظيفة حاضرة وضرورية في وعي القيمين على السلطة السياسية والقائمين (أساتذة وطلاباً) بوظيفتي الجامعة الآخرين، خلافاً للمجتمعات التي أنجزت وحدتها حيث هذه الوظيفة بحكم البديهية.

فرض اندلاع الحرب تراجعاً عن صيرورة إنتاج النخبة التي كانت فاعلة قبل الحرب

وقد كانت هذه الوظيفة/ المهمة واضحة عند التيار الداعم لإقامة الجامعة وطلابها الأوائل، إذ أعلن وزير خارجية لبنان، حميد فرنجية، في عام 1948 «ثم إن لبنان يأمل أن يرى في هذا المكان جامعة لبنانية تكون روحها روح الأونيسكو»، كما أعلن رئيس مجلس الوزراء، رياض الصلح، في جلسة مجلس النواب في 13 شباط 1951. «ليست الجامعة مدرسة للتعليم بل بيئة وطنية تجمع أبناء البلاد جميعاً كما سيجمع الجيش تحت لوائه أبناء البلاد جميعهم... وإني أرجوكم أن تلبوا رغبة هؤلاء الطلاب... لكي تنشئوا لهم جامعة وطنية تصهرهم في بوتقتها وتكون لهم بيئة صالحة» (المقتبسان عن: جورج طعمة، الجامعة اللبنانية في سنواتها الأولى، ص5 و14، وقد ألقى فرنجية الخطاب في حفل اختتام مؤتمر الاونيسكو الثالث في بيروت عام 1948، وقد ألقى الصلح الكلمة أثناء دراسة اعتماد لإنشاء الجامعة اللبنانية، وقد قوبل بالتصفيق)، كما أعلنت اللجنة الأولى لطلاب دار المعلمين في إضرابها في 13 شباط 1953. وهكذا نجد أن قيام الجامعة اللبنانية في العام الفائت، كان بمثابة مقدمة للقضاء على التوجيه الرجعي المقيت، وفاتحة للاستقلال الفكري بعد الاستقلال السياسي... ومدار الإضراب أيضاً تعزيز هذه الجامعة لتكون ملجأ لكل لبناني 4.
كما كانت هذه الوظيفة حاضرة في ستينيات القرن الماضي في حراك الأساتذة والطلاب المتناغم مع تيار يساري فاعل والمقبول من قوى غالبة في السلطة السياسية، ولم تحل التباينات بين القوى الفاعلة بين الأساتذة والطلاب من دون نجاعة الاشتغال على إنتاج هذه النخبة، لا بل كانت دينامية النقاش والحوار، وأحياناً الصدام، فاعلة في هذا الإنتاج فكان مطلب «جامعة وطنية» و«حرم جامعي واحد»، ثم الاتفاق على اتحاد طلابي واحد ورابطة أساتذة واحدة في مرحلة الاستواء. وكان اللقاء في المبنى الواحد والصف الواحد وفي المقهى الجامعي الواحد، ولو بحدود الكلية، وفي الساحة النضالية الواحدة والنقاش الصاخب فيها مدعاة للتعارف، أولاً، ولفهم كل منهم لهواجس الآخر، الطائفية والمناطقية والحزبية، وتخفيف غلوائها ثانياً، ولإرساء المشترك بينهم ثالثاً.
إلا أنّ اندلاع الحرب في 1975 ومجرياتها وتعدد مراحلها وطولها فرض تراجعاً عن صيرورة إنتاج النخبة التي كانت فاعلة قبل الحرب، بفعل عوامل عدة: الأعمال العنفية، التشتت الجغرافي لفروع الجامعة، استنهاض العصبيات الأولية، طائفية وعائلية ومناطقية، صعود القوى الطائفية وخمود القوى اليسارية، اشتراكية وعروبية وديموقراطية، من دون أن يجمدها؛ إذ جهد أساتذة الجامعة ورابطتهم ورئاسة الجامعة، ومعهم السلطة السياسية، بمجلسيها، للحفاظ على وحدة الجامعة فتجنبت الهيئة التأسيسية للرابطة الدخول في المواجهة السياسية حول إقامة الفروع الثانية وعملت مع رئاسة الجامعة على تجاوز التشتت في الجامعة في حراكهم في عامي 1980و1981 بإعلان ممثلي الأساتذة في الفروع الثانية «الانعزاليين» وأعضاء الهيىة التنفيذية «اليساريين» الالتزام بوحدة الجامعة، لا بل دعا أمين التربية، شارل غسطين، في حزب شريك في المعارك العسكرية، الوطنيون الأحرار، أساتذة الفروع الثانية إلى «حوار هادئ تفرضه أجواء الجامعة، بعيداً عن الشارع وسياساته» («النهار»، 10/5/1980). كما بشّر اتحاد الشباب الديموقراطي، اليساري الهوى والقريب من تنظيم سياسي شريك بالحرب بتلاقي الأساتذة ووحدتهم («النهار»، 10/2/1980).
وحاولت الهيئات التنفيذية الأولى للرابطة بعد وقف الأعمال العسكرية تجديد إنتاج النخبة عبر تقديم رؤية وطنية حداثية ديموقراطية لدورها، أولاً، والاشتغال على وحدة الأساتذة ثانياً، وقد نجحت، وعلى وحدة الطلاب ثالثاً، وقد تعثرت، وعلى إقامة الحرم الجامعي رابعاً، وقد نجحت جزئياً، وعلى تجديد القانون الواحد والسياسة الواحدة خامساً، وقد تعثرت.
إلا أنّ شعور ميليشيات المسلمين بالانتصار، بعد إقرار الطائف والرعاية السورية له، واستثمار ذلك في مرافق الدولة وشعور ميليشيات المسيحين بالهزيمة وانكفائها، الطوعي أو القهري، عن مرافق الدولة أبقى الحرب ومنطقها مشتغلاً في الجامعة؛ إنْ بإصرار قوى بين المسيحين على الانكفاء المعبر عنه بالإبقاء على الفروع أو بإصرار قوى بين المسلمين على الاستئثار والمعبر عنه بتوسيع دائرة الخدمات، بتوسيع دائرة التفريع.
ولم يؤدّ استواء حضور القوتين الأكثر حضوراً بين المسيحيين، بعد عام 2005 إلى الحدّ من الشعور بالانكفاء، كما لم يؤدّ حضور هاتين القوتين الى الحدّ من الاستئثار، لا بل بُني على ذلك المحاصصة الفجة.
وهكذا يظهر جلياً خطان، خط صاعد وخط هابط، في وظيفة الجامعة هذه «إنتاج نخبة موحَدة وموحِدة». ويتمثل الخط الصاعد في إدراك قوى وشخصيات سياسية، وهي قوى ذات تمثيل طائفي، دور الجامعة اللبنانية في إنتاج نخبة تساهم في بناء دولة حديثة عبر إنجاز مهمتين وطنيتين: تجاوز الانقسامات التقليدية، إنماء التفكير العقلاني المنفتح، وقد استمرت هذه القوى والشخصيات «التقليدية» على ذلك إبان الحرب (1975-1990). كما تمثل بحراك نخب متعددة المنابت، السياسية والمناطقية والطائفية، في الجامعة والمجتمع نحو قيام الجامعة بهذه الوظيفة، وواصلت في الحرب وبعده ذلك وما زالت، وإنْ مثخنة بالجراح.
ويتمثل الخط الهابط في إدراك قوى وشخصيات نمت إبان الحرب واستقوت بمنطقه وبالمصالح المتحققة منه في إدراك خطورة قيام الجامعة بهذه المهمة وما سينتج عنها من توجهات وحدوية، في الدولة والمؤسسات والمجتمع، تضر بمواقعها وبمصالحها.
وإذا كانت معطيات المقال، إقامة الشعب والفروع في الأقضية لغير سبب أكاديمي والتدخل الفج في التعيين، المثل على إعاقة القوى الطائفية الحاكمة قيام الجامعة بوظيفتها الوطنية وما يستتبعها، فإنّ أمثلة كثيرة تضرب في هذا السياق منذ توقف الأعمال العسكرية، من دون توقف الحرب، بعد عام 1990، وأبرزها:
أولاً، تعمد تأخير تعيين العمداء المؤدي إلى تعطيل عمل مجلس الجامعة، والمعلن عند المعترضين عليه الخلاف على المحاصصة، لكن ما يتجاوز ذلك تعطيل قيام الجامعة بهذه الوظيفة.
ثانياً، عدم إصدار قانون جديد للجامعة، غير المكلف مالياً، هو، أيضاً، تعطيل متعمد لهذه الوظيفة.
ثالثاً، تعمد عدم استكمال بناء الحرم الجامعي، ولو بمجمعات جامعية في المناطق، وكلفة هذه المجمعات من دون ما ينفق إيجارات وسمسارات في الايجارت وتوظيفات في الفروع والشعب، هو تعطيل للتفاعل بين النخبة الشبابية بما يؤدي الى التعارف والتفاعل وانتاج معايير مشتركة.
رابعاً، تعمد الإطالة والدوغما في التفريغ والدخول الى الملاك وما يستتبع ذلك من «الحاجة» الى استتباع المتفرغين لقيادتهم الطائفية، وبخاصة عندما يصر هؤلاء على المحاصصة.
كما يمكن ذكر مثلين على هذا التوجه، خارج إطار الجامعة:
1- إلغاء خدمة العلم، وما يؤشر هذا الإلغاء إلى إضعاف التفاعل بين الشباب الذي يفترض أن يكون تعزيزه مهمة ملحة، بعد الحرب ونماء الطائفية وإنمائها.
2- استمراء إبقاء خدمة الإداريين والعسكريين، باستثناء الجيش، في مناطقهم الذي فرضته الظروف الأمنية خلال الحرب، خلافاً لسياسة واعية انتهجتها الحكومات المتعاقبة، بعد الاستقلال: الخدمة خارج مناطقهم، وما تحققه من تعارف وتفاعل.
ويعني تعطيل القوى الطائفية الحاكمة، بوعي أو من دون وعي، هذه الوظيفة التوحيدية للجامعة عبر التسابق على الحصص وعلى الكسب الانتخابي تجاوز للمعروف وللمتعارف عليه في الشأن السياسي.
فالمعروف والمتعارف عليه و«المقبول» أنْ تسعى كل قوة سياسية لتحقيق مصالحها، لكن المعروف والمتعارف عليه أيضاً، أنْ يكون الصراع وتحقيق المصالح في الدولة والجامعة و... لا على الدولة والجامعة، أي أن يكون الصراع على قاعدة اشتغال هذه المؤسسات وفق منطقها ومهامها، لا على قاعدة نقض منطقها وحرف مهامها.
* أستاذ جامعي