كنت أزعم منذ سنوات بأنّه، في عصر العملات الإسمية (fiat currency)، وفكّ الارتباط بين المال وبين الذهب أو أيّ شيءٍ مادّيّ، فإنّه لا يوجد سببٌ كي لا تتحوّل العملات الالكترونية مثل «بيتكوين» الى مستودعٍ أكثر كفاءةٍ للقيمة، ووسيلةٍ للتبادل، وأنّ دولاً تحاصرها أميركا والغرب مالياً ــــ مثل كوريا وايران ــــ من المفترض أن تلجأ الى هذه العملات لعقد صفقاتها.
الطرح هنا ليس جادّاً بالكامل، فحجم اقتصاد «بيتكوين» لا يزال صغيراً لدرجة أنّ استخدامه من قبل دولٍ وحكومات لن يمكن اخفاؤه، والنّظام لا يزال حديثاً وصغيراً ما يسمح للحكومات الغربية بمنعه أو محاولة تخريبه اذا ما تحوّل الى تهديدٍ سياسيّ (هم يتسامحون معه لأنّ أكثر استخداماته «العملية»، الى عهدٍ قريب، كانت لصالح تجار المخدرات والممنوعات ومبيضي الأموال فحسب).
ولكنّ التقارير اليوم تقول بأنّ شركات المانيّة صناعيّة قد اقترحت بالفعل على الايرانيين أن يجروا الصفقات معها بالـ«بيتكوين»؛ فهم يريدون التجارة مع ايران، ولكنّ البنوك الغربية لا تزال ترفض تحويل أموالٍ أو فتح حساباتٍ لايرانيين، رغم رفع العقوبات شكلياً، فطلبت شركة المانية استخدام الـ»بيتكوين»، الذي لا تتحكّم به حكومة، ولا يحتاج الى مصرفٍ، ويجري التحويل فيه من دون رقابة أيّ بشريّ. في نيسان الماضي، أعلنت الحكومة الروسية أنها قد تعترف بالـ»بيتكوين» كأصول مالية يمكن للدولة أن تشتري بها (بعد أن كانت تفكّر بمنع الرّوس من استخدام العملة الالكترونية) ابتداءً من العام المقبل. في الوقت ذاته، ارتفع حجم «اقتصاد البيتكوين» (أي مجموع قيمة نقود الـ»بيتكوين» التي تمّ إصدارها منذ إطلاق العملة الالكترونية عام 2009) ليلامس 50 مليار دولار الشهر الماضي. بعد أن كان في وسعك أن تشتري «بيتكوين» بأقلّ من 500 دولار في منتصف 2016 (وبأقل من دولارين، قبلها بسنوات)، قفز سعر الوحدة الى 3000 دولار في حزيران 2017. هذا الارتفاع، بالطبع، مردّه دخول مستثمرين ومضاربين أصبحوا يضيفون «بيتكوين» الى محافظهم الاستثمارية، أو يراهنون على كسبٍ سريع، ولا يعكس ارتفاعاً حقيقياً في استخدام العملة للشراء والبيع وحفظ المدخرات، وهو ــــ اذاً ــــ ارتفاعٌ لن يدوم وله سوابق في تاريخ «بيتكوين» (وقد انخفض السّعر هذا الشهر بعد «الفقاعة»، بالفعل، ووصل الى قرابة 2400 دولار للوحدة النقدية بأسعار أول من أمس). من جهةٍ أخرى، فإنّ شراء المستثمرين لهذه الأصول يمثّل، أساساً، رهاناً على أنّها ستزداد أهمية وتكتسب قيمةً في المستقبل.

المال كمؤسسة

من يعتقد أنّ عملاتٍ مثل «بيتكوين» هي «نظرية» وواهية ولا يمكن أن تكون لها قيمة لأنها لا تستند الى «شيءٍ مادّيّ» لا يفهم كيف يعمل النظام النّقديّ اليوم، وتحديداً منذ انهاء التغطية الذهبية للدولار الأميركي عام 1973 (الطريف هو أنّ الحادثة التي دفعت نيكسون الى إعلان فصل الدولار عن الذّهب كان تحدّيّاً فرنسياً على طريقة لعبة البوكر «نريد أن تعطونا الدولارات التي نحتفظ بها في رصيدنا على شكل ذهبٍ، كما تتعهّدون كتابةً على ورقة عملتكم، فنحن لا نثق بأنّ سلوككم المالي يتوافق مع ضماناتكم بأن الدولار يغطيه الذّهب»). أصبح الدولار، وأكثر العملات، سلعةً يحدّد ثمنها السّوق، أي أنّنا نستخدمها ولها قيمة لأننا نستخدمها ونقرّر أنّ لها قيمة، وما هي في النهاية الّا ورق، يصدره مصرفٌ مركزيّ باستنسابه. أكثر الدولارات اليوم أرقامٌ على الكمبيوتر ـــ تماماً كالـ«بيتكوين» ــ ولا تطبع حتّى أوراقاً (لو طالب كلّ أصحاب الأرصدة بالدولار في العالم اليوم بمالهم على شكل «كاش»، وليس ذهباً، لاضطرّ المصرف الفيديرالي الى طباعة كمياتٍ مهولة من الورق، تفوق أعداد الدولارات الورقية الموجودة في السّوق أضعافاً مضاعفة).
حتّى فكرة أنّ العملة اليوم، حين لم تعد ترمز الى معدنٍ ثمين وذي كتلةٍ محدودة، فهي ترمز الى «العمل» الذي يجري داخل الاقتصاد وتستمدّ منه قيمتها، ليست دقيقة. أوّلاً، كما يقول دايفيد هارفي، فإنّ المال الورقي في يديك لا يوازي «عملاً» حصل في الماضي وتمّ تخزين قيمته في هذه الورقة، بل هو «رهانٌ على عملٍ مستقبلي» لم يجرِ بعد ـــ بمعنى أنّ الاقتصاد لو توقّف فجأةً عن العمل، فستنتفي كلّ قيمة العملة الموجودة بغضّ النّظر عن أيّ انتاجٍ سابق (على عكس الذّهب). من جهةٍ أخرى، فإنّ مطابقة قيمة العملة مع اقتصاد البلد الذي يصدرها ليست عملية دقيقة، وبخاصة في عصر العولمة. الطلب على الدولار الأميركي أكبر بكثير من قيمة العمل الذي يجري في أميركا، لأنّه وسيلة لتخزين القيمة ـــ والتبادل أحياناً ـــ في كامل الكرة الأرضية. دولار زيمبابوي، بالمقابل، وصلت قيمته الى الصّفر لأنّ النّاس لم تعد تثق به وبالهيئة التي تصدره.
دوغلاس نورث، وهو من آباء المدرسة «المؤسسية الجديدة» (وتحديداً الفرع الاقتصادوي فيها)، مؤرّخٌ اقتصادي. النظرية الأساسية لنورث تقول بأنّ الهدف من بناء المؤسّسات على مدى التاريخ (ولو بالغنا قليلاً، كامل النشاط البشري الجماعي) هو خفض «كلفة التبادل» الى حدٍّ أقرب الى الصّفر. كلّ تبادلٌ تجريه، من عقد صفقة الى بيعٍ وشراء الى تعهّدٍ في المستقبل الى تملّك غرضٍ، ينطوي على «كلفة تبادل» معيّنة، لا يمكن أن تكون صفراً، والمؤسّسات (من الشرطة الى القوانين الى سجلات الأملاك الى المصارف الى مأمور النفوس) ما هي الّا وسائل لتخفيض هذه الكلفة و«الاحتكاك» الذي ينتج عن كلّ تعاملٍ بشريّ. حين تتاجر مع أقوامٍ لا تعرف لغتهم ولا يجمعك بهم قانونٌ واحد ومفهومٌ عن قيمة الأشياء (كحالة التجار العرب على تخوم افريقيا السوداء)، فإن كلفة التبادل تكون عالية. وحين تشتري أرضاً ولا شيء يثبت أنّها لك، ولا أحد سيثبّت حقّك فيها، فإن التبادل هنا محفوفٌ بالمخاطر. وحين يعطيك أحدهم عملةً وانت لا تعرف إن كانت أصليةً أو مزوّرة، فإنّ حسابات الصفقة بأكملها تتغيّر. المؤسسات ولدت وتشعّبت وأحاطت بنا حتّى تخفّض من هذه المخاطر والأكلاف، وتزيل العشوائية، وتسمح بأشكال تعاملٍ بين النّاس أكثر مرونةً وتعقيداً (كالعقود الطويلة الأمد، مثلاً، التي لا يمكن اجراؤها من غير شبكةٍ كثيفةٍ من المؤسسات). المال والنّقد، بمنطق نورث، هو أحدّ أهمّ هذه المؤسسات البشريّة، لأنها تسمح بتخزين القيمة على شكل «رمزٍ»؛ لا يهمّ إن كان معدناً ثميناً أم ورقةً عليها نسر، المهمّ هو أن تكون قابلة للتحويل بسهولة، ولها ديمومة، وأن لا يتمّ استنساخها أو تزويرها، وأن يكون حجم هذه الكتلة المالية معروفاً ومحدوداً، وانت ـــ والكثيرين غيرك ـــ قد قرّرتم أنّ لها قيمة. الفارق هو أنّ عامل «الثقة» كنّا نركنه، في القرون الماضية، الى الذّهب فيما نضعه اليوم في البنوك المركزية والحكومات وموظفيها (كمثالٍ على ليونة فكرة «المال»، قرأت في مقالٍ منذ سنوات أنّ جزراً في المحيط الهادىء كانت تستخدم الأحجار الصخريّة كعملة، وتحفرها وتنحتها على شكل دوائر، وكلّما ازداد حجم الحجر ارتفعت قيمته. لا قيمة عمليّة لهذه الأحجار، فأنت تضعها في فناء منزلك وتنظر اليها، ولكن الفكرة هي أن الجزيرة تفتقر لمثلها، وعليك احضارها من جزرٍ مجاورة على زوارق، وهي عمليّة شاقّة ولا يمكن التوسّع فيها، ما يحدّ من «انتاج العملة» ويسمح بالتوافق عليها كمعيارٍ للقيمة).
ولكن، بهذه المقاييس تحديداً، يكون «بيتكوين» هو العملة المثالية. إضافة الى قيمته التبادلية وسهولة تحويله ومناعته عن التزوير، فإنّ «بيتكوين» هو برنامجٌ يسيّر نفسه بنفسه، الى ما شاء الله، موزّعاً على ملايين الأجهزة حول العالم، ولا يوجد بشريّ «يمسك الدفاتر» ويتدخّل في العملية. انت لا تخاطر مع مصرفٍ مركزيّ يمكن أن يصدر العملة على هواه، أو يخفض قيمتها فجأةً لمحو ديون حكومته. انت لا تحتاج لأحدٍ ليأذن لك بتحويل هذه الأموال او تصريفها، و«بيتكوين» لا يعرف حدوداً وحكومات وعقوبات، ولا يميز بين الرئيس الأميركي وبابلو اسكوبار. الفضل لهذه الميزات يعود للابتكار التكنولوجي الحقيقي خلف «بيتكوين» والعمود الفقري لكلّ العملات الالكترونية اليوم: الـ«بلوكتشاين» blockchain.

بلوكتشاين

كنت سأشرح مبدأ برمجة الـ«بلوكتشاين» بشكلٍ وافٍ لو أنّني، نفسي، نجحت في فهمها كاملةً. ولكنّ الأساس ـــ على ما يبدو ـــ أنّ «بلوكتشاين» هو «دفتر إلكتروني»، موزّع (مثل ملفّ «تورنت» تماماً) على عددٍ هائلٍ من الأجهزة، تقوم بشكلٍ مستمرّ وجماعيّ بالتحقّق منه ومن كلّ «بلوك» جديد يضاف اليه. الـ«بلوك» يحتوي على كلّ تعاملات «بيتكوين» التي جرت خلال الدقائق الماضية (فلان حوّل مبلغ كذا الى فلان)، وحين يجري التحقّق منه يُضاف الى باقي السّلسلة أو «الدفتر»، ويتمّ تحديث «السلسلة» لدى الجميع (حجم الملفّ اليوم يقارب الـ9 جيغابايت، عليك أن تنزّله لتدخل الشّبكة وتساهم في «استخراج» البيتكوين؛ والبرنامج مصمم بشكلٍ يتمّ فيه انتاج «بلوك» جديد كل عشر دقائق تقريباً). هكذا، انت تقدر على الوصول الى كلّ تعاملٍ جرى في تاريخ «بيتكوين»، وكامل الكتلة الماليّة موجودٌ أمامك، في «دفترٍ» واحد، موثوق، لا يتدخّل فيه بشريّ ويحدّث نفسه بنفسه ولا يمكن التلاعب به. انت حين تمتلك أو تعطي «بيتكوين» فلا شيء «يخرج» أو «يدخل» الى النّظام أو ينتقل الى «محفظتك»؛ البيتكوين موجودٌ على «الدفتر» وانت ببساطةٍ تمتلك رمزاً يشير الى موقع معاملتك على هذه «السلسلة». الخطر الوحيد على مالك هو في أن تنسى الرّمز الذي يعرّف عنك في النّظام، فلا وسيلة لاسترداده: مواطنٌ اوروبي اشترى «بيتكوينات» في بدايات النظام، كاستثمارٍ «صغير» بمئات الدولارات، وحين أصبحت قيمتها بعشرات الملايين، اكتشف أنّه قد أضاع سلسلة الأرقام التي ترمز الى حسابه ومسح قرص الذاكرة الذي كان يحتويها (كما قلنا أعلاه، لا يوجد تدخّلٌ بشريّ في «بلوكتشاين»، أو مكتب «خدمة زبائن»، تتّصل به فيسألك عن اسم أمّك ويستردّ لك رمزك السرّيّ).
كلّما تمّ انتاج «بلوك» جديد، يخلق النّظام «بيتكوين» إضافياً واحداً، ست مرات في السّاعة، ويوزّعه على الأجهزة التي ساهمت في انتاج «البلوك» (لا مساحة هنا للكلام على هذه النقطة، وكيف يزيد النظام من تعقيد مسألة رياضية، على الأجهزة المذكورة أن تحلّها لـ«انتاج» البلوك، باستمرار، لكي يضمن ثبات وتيرة الانتاج رغم ازدياد القوة الحسابية للأجهزة الموصولة على الشبكة). هذا سيستمرّ حتى يصل عدد الـ«بيتكوين» في العالم الى 21 مليوناً ثم سيتوقّف انتاج «بيتكوينات» جديدة الى الأبد. العدد اليوم هو 16.5 مليوناً، واكتمال الكتلة النقدية لن يخلق مشكلة ندرة في التبادل، فـ«بيتكوين» يقسّم الى أجزاء متناهية في الصّغر (واحد على ألف من «بيتكوين»، واحد على مليون، الخ) كلّما زاد استخدامه وقيمته. مؤسّس النّظام والمنظّر لمفهوم «بلوكتشاين» ومن أطلق برنامج «بيتكوين» على الشبكة يُدعى «ساتوشي ناكاموتو»، وهو ليس اسمه الحقيقي، فالمؤسّس افترض أنّ اخفاء هويّته ومنع الناس والسلطات من الوصول اليه شرطٌ أساسيّ لنجاح النّظام. ولكنّ ناكاموتو، أيّاً يكن، قد استغلّ الأيّام الأولى لـ«استخراج» أكثر من مليون «بيتكوين» (حين كان الأمر يسيراً وتقدر على فعله بجهازك الشخصي) ما يجعله اليوم بليونيراً يعيش في الخفاء.
لو انّك استثمرت في «بيتكوين» باكراً، منذ سنوات قليلة، لكان العائد أضخم (بما لا يُقاس) من الاستثمار في بدايات «آبل» أو «مايكروسوفت» أو أيٍّ من الشركات التي يحلم النّاس لو أنّهم اشتروا أسهمها عند التأسيس. التبادل الحقيقي الأوّل لـ«بيتكوين»، حين تمّ دفع عشرة آلاف وحدة من العملة الالكترونية مقابل شطيرتي بيتزا عام 2009، يساوي اليوم قرابة 25 مليون دولار. هناك نقاط ضعفٍ في النظام، من «مؤسسات الصرف» المنتشرة حول العالم والتي تحوّل «بيتكوين» الى عملات أخرى، وهي يمكن اختراقها أو ضياع المعلومات منها، وهذا قد حصل في السّابق؛ وصولاً الى برنامج «بيتكوين» نفسه، وإن كان قد أثبت حصانته الى اليوم واستمرّ نظامه اللامركزي بنجاح (هناك، مثلاً، نزاعٌ قائمٌ حالياً على التحديث القادم للبرنامج بين مجموعتين، وقد يتسبب ذلك بصدور نسختين مختلفتين من برنامج التّصديق، أي انقسام «بيتكوين» ـــ فعلياً ـــ الى عملتين).
عهد «المال الالكتروني» لا يزال في بداياته، ولا حاجة لشرح أنّ موضوع النّقد ــــ دائماً وابداً ــــ هو موضوعٌ سياسيّ. قيمة الدّولار اليوم «سياسيّة» بالكامل، وحتى لو كان الدولار يتساوى مع «بيتكوين» في كونه «وهماً»، فأنت لا يمكن أن تقارن وهماً تدعمه حاملات طائرات بوهمٍ لا وجود له الّا على شاشة كمبيوتر. ولكنّ هذا لا يغيّر أنّ هناك نظاماً يعمل خارج سيطرة أحدٍ في هذه الأثناء، يأخذ فكرة «المال» الى معناها النّظريّ الأكثر تجريداً، ويفسح مستودعاً معولماً لـ«القيمة»، قد يكون الوحيد المتبقّي بعيداً عن أنظار واشنطن.