في أواخر عام 1918 ظهر كتاب بعنوان: «تدهور الغرب» لمؤلف ألماني اسمه أوزوالد اشبنغلر. أطلق اشبنغلر نبوءة حصلت بين عامي 1989-1991 من خلال توقعه «انهيار البلشفية» التي هزّت العالم عبر ثورة أكتوبر 1917 الروسية وفق تعبير جون ريد.
انطلق اشبنغلر في هذا من مقولة وضعها تقول هناك «تشكل تاريخي كاذب» يغطي كقشرة في حالات معينة البنية العميقة لحضارات معينة تكون بنيتها الحضارية ــ الثقافية مكتملة التكوين، ويحصل هذا التشكل إما بفعل غزو عسكري خارجي أو إما من خلال تقليد حضارة أقوى عسكرياً وسياسياً وتقنياً واقتصادياً: يعتبر المؤلف الألماني أن حركة التغريب لروسيا التي بدأها بطرس الأكبر (1682-1725) هي قشرة رقيقة سطحية أتت فوق البنية العميقة لروسيا التي هي ذات طابع سلافي ـ أرثوذكسي منذ إنشاء الدولة الروسية الأولى في كييف عام 972 من قبل «الدوق فلاديمير» واعتناقه المسيحية الأرثوذكسية البيزنطية عام 988، وهو يرى أن البلشفية هي ذروة التغريب الذي بدأه بطرس الأكبر عبر خط يصل إلى لينين عبر محطات (الحركة الديسمبرية ـ 1825) والأديب ليو تولستوي والماركسية بفرعيها المنشفي والبلشفي، وهو يعتبر أن روسيا خلال قرنين من الزمن «قد أُرغمت على أن تدخل تاريخاً اصطناعياً مزوراً لم تكن نفس روسيا القديمة قادرة على فهمه» (الطبعة العربية، دارمكتبة الحياة، بيروت 1964، المجلد الثالث، ص 16).
لم يحصل مع الشيوعية الصينية بمحطتيها مع ماوتسي تونغ (1949-1976) ومع دينغ سياو بينغ (1978-1997) وخلفائه ما حصل مع البلشفية التي انتهت في مجرى استغرق ثلاثة أرباع القرن. أيضاً نجحت الشيوعية الفييتنامية مع هو شي منه منذ عام 1930 وحتى وفاته عام 1969 ثم مع خلفائه حيث نجح الشيوعيون الفييتناميون في أن يكونوا قادة التحرر الوطني ضد الفرنسيين واليابانيين والأميركيين ثم أن يكونوا قادة التوحيد القومي لفييتنام المجزأة عام 1975 ثم بعد هذا أن يقودوا عملية التحديث الرأسمالي تحت قيادة الحزب الشيوعي كما في الصين ما بعد عام 1987 حيث يقود الشيوعيون الصينيون أكبر ثورة رأسمالية لم تشهد البشرية مثيلاً لحجمها منذ الثورة الصناعية الإنكليزية بالقرن الثامن عشر. من خلال التجربتين الصينية والفييتنامية، وأيضاً تجربة الحزب الشيوعي الإيطالي الذي تفاعل أيضاً مع التربة المحلية الممزوجة فيها القومية الإيطالية مع الهوية الثقافية ـ الحضارية الرومانية الكاثوليكية، هناك إثبات عملي بأن الماركسية هي منهج معرفي تحليلي لمكان وزمان معينين وفي إطار تفاعل المحلي ــ الخارجي حيث ينتج ــ أي المنهج ــ برنامجاً سياسياً، وليست عقيدة صالحة لكل مكان وزمان. هذا البرنامج السياسي، وبوصف السياسة مكثفاً للاقتصاد والاجتماع والثقافة، لا يمكن أن ينجح على المستوى القريب والمتوسط والبعيد إذا لم يكن ناتجاً عن تفاعل المنهج المعرفي التحليلي مع التربة المحلية المتمثلة في البنية الحضارية ـ الثقافية. مع التجربتين الشيوعيتين الصينية والفييتنامية جرى تلقيح الماركسية مع البنية الحضارية ــ الثقافية، الآتية من الكونفوشية والبوذية والتاوية عند الصينيين والبوذية والتاوية عند الفييتناميين، لإنتاج ماركسية مخصوصة تفاعلت مع القومية المحلية وليتم تكريسها لمكافحة المحتل الأجنبي، حيث نجحت لاحقاً في البلدين في مهام «التحرر الوطني» و«التوحيد القومي» و«التحديث وتجاوز التأخر». نجح لينين وستالين في تحديث روسيا ولكن التجربة البلشفية أنتجت بنية اجتماعية ـ اقتصادية ـ ثقافية، أصبحت متناقضة مع البنية السياسية ـ الدولاتية، ما جعل هناك تناقضاً منذ الخمسينيات بين البنيتين حتى تمت إزاحة البنية الثانية من قبل الأولى بفترة 1989 ـ 1991. لم يحصل هذا في الصين وفييتنام، على الأرجح أن ما طرحه أوزوالد اشبنغلر هو الذي يفسر ذلك.

سقط مصطفى
النحاس باشا زعيم أكبر تجربة ليبرالية عربية في حفرة التعاون مع الأجنبي

يتحدث اشبنغلر عن حالة ثانية من «التشكل التاريخي الكاذب» حصل مع «الحضارة العربية»، التي يسميها أيضاً بـ«الحضارة المجوسية»، بفعل الإسكندر المقدوني والرومان والبيزنطيين، ولينتهي هذا في معركة اليرموك عام 636 ميلادية ماسحاً ما بدأ مع المقدونيين عام 331 قبل الميلاد ثم مع سيطرة روما على الشرق في معركة أكتيوم 31 قبل الميلاد من تشكل لثقافة هيلينستية، وليعيد الإسلام وصل واستمرار تاريخ الشرق القديم في فارس وبلاد الرافدين والشام وفي عموم المنطقة الممتدة من نهر السند إلى مراكش مع ماردوخ ـ يهوه ـ أهورا مازدا (إله الخير عند الزرادشتية): «امتص الإسلام الطوائف الفارسية واليهودية والمسيحية من العالم المتمدن والأرقى عقلانياً» (ص 100)، «الإسلام لم يكن دين الصحراء، بل جاء نتاجاً لاكتساح المؤمنين به المتحمسين، هذا الاكتساح الذي كان بمثابة انهيار كتل من الثلوج، حمل معه المسيحيين واليهود والمازاديين... ومعظم العرب الذين هاجموا القسطنطينية عام717 لأول مرة كانوا قد ولدوا مسيحيين، وقرابة عام 650 اختفت فجأة تماماً الآداب البيزنطية» (ص185). ذاب المسيحيون الشرقيون، وبخاصة اليعاقبة والنسطوريون، في الإسلام. يعزو اشبنغلر عدم قدرة المسيح على فعل ما قام به محمد إلى بولس الرسول: «فكنيسة يسوع قد فصلت فصلاً اصطناعياً عن منابعها وأصولها الروحية وشدت إلى جوهر أجنبي وعلماني» (ص 63) مع ذهاب بولس إلى عالم أثينا ــ روما.
في التاريخ العربي الحديث في القرن العشرين، يلاحظ أن التيارات التي تفاعلت مع البيئة المحلية بخصائصها الاقتصادية ــ الاجتماعية (المشكلة الزراعية) والحضارية ـ الثقافية (القومية العربية التي تمتح من الإسلام ليس بوصف الأخير ديناً بل كثقافة) والسياسية (مقاومة الاحتلال والغزو والاستيطان) هي التي نجحت في أن تعوم عربياً: البعث وعبد الناصر والإسلام السياسي. فشلت الليبرالية التي كان منظرها الأول، أحمد لطفي السيد، مؤيداً ومتعاوناً مع الاحتلال البريطاني، ثم سقط زعيم أكبر تجربة ليبرالية عربية في حفرة التعاون مع الأجنبي، أي مصطفى النحاس باشا زعيم حزب «الوفد» في مصر، لما فرضته الدبابات البريطانية رئيساً للوزراء في يوم الرابع من شباط/ فبراير 1942 ضد إرادة الملك فاروق. الشيوعيون العرب ضربوا رأسهم وجسمهم في الحائط بسبب تأييدهم لقيام دولة اسرائيل في عامي 1947 و1948 بحكم تبعيتهم للسوفيات، وهو أمر قادهم أيضاً في سوريا لمعارضة وحدة 1958 بين سورية ومصر. لم تكتمل تجربة الحزب الشيوعي السوري ــ المكتب السياسي منذ انشقاق الثالث كم نيسان 1972 عن السوفيات وخالد بكداش في الوصول إلى تفعيل الماركسية كمنهج معرفي ـ تحليلي مع «البنية الحضارية ـ الثقافية» واقتصر مسار الحزب على تبني «العروبة» و«قضية فلسطين» و«فك التبعية للسوفيات». تم تغليب السياسي على الفكري من دون المزج بينهما أو إدراك أن الثاني هو المفتاح وأن الأول هو الباب.
مع بدء انحسار «الإسلام السياسي» منذ سقوط حكم «الإخوان» في مصر في يوم الثالث من تموز/ يوليو 2013، وتبوأ «السلفية الجهادية» زعامة الإسلاميين بدلاً من «الأصولية الإخوانية» وهو من العلامات الكبرى لتلك العملية الانحسارية، هناك فراغ سياسي عربي، ما دامت الحركة العروبية، بطبعتيها الناصرية والبعثية، في حركة انحسار أيضاً، وما دام الماركسيون في حالة إغماء بفعل صدمة انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي بين عامي 1989 ـ 1991: لن تستطيع الحركات السياسية التي تقطع مع التربة المحلية عبر محاولة جعل فترة 331 قبل الميلاد ـ 636 ميلادية هي «التشكل التاريخي لبلاد الشام»، مثل «القوميون السوريون» الذين بدأوا كتجربة حزبية منذ عام 1932 وكانوا من الطائفة الأرثوذكسية أساساً في سوريا ولبنان، أن يعوموا اجتماعياً، ولا من يريد (مصر أو سوريا أو العراق أولاً): هل يستطيع الماركسيون العرب تكرار ما فعله ماوتسي تونغ وهو شي منه؟... الماركسية والتي أنتجها كارل ماركس سليل الحاخامات اليهود لأبيه وأمه، تشبه الإسلام واليهودية، كفكر تركيبي لعناصر الاقتصاد ـ الاجتماع ـ الثقافة ـ السياسة، في سلسلة تمتد من ابن رشد ــ موسى بن ميمون ــ اسبينوزا ــ ماركس.
* كاتب سوري