الأزمة الخليجية أضفت على الفوضى القائمة في المنطقة بعداً جديداً، عبر ضمّ دول الخليج إليها، ولو بشكل مضبوط ومحصور في الصراع السياسي بين حكوماتها. الانشغال بالداخل صرف اهتمام هذه الحكومات عن أزمات المنطقة، وبدلاً من أن تستمرّ في لعب دورها كفاعل أساسي فيها تحوّلت هي الأُخرى إلى مسرحٍ لها، عبر «الحصار» الذي فرضته السعودية والإمارات والبحرين ومصر على قطر بسبب دورها التدخّلي الفاعل في الخليج والمنطقة عموماً.
هذا التغيُّر فَتَح لأوّل مرة منذ بداية انهيار الإقليم أُفقاً لإنهاء الصراع في الدول التي تسبّبت السياسات الخليجية في تحطيمها. هكذا، حُيِّدَت العناصر العسكرية التابعة لها وسُرِّع في إبرام التسويات بين دول الإقليم الكبرى المتضرّرة من تدخّلاتها (تركيا، إيران،... إلخ)، فدخلنا في مرحلة جديدة عنوانها الاتفاق على إخراج الخليج من التسوية أو جعل مساهمته تتفّق مع قدرته على التأثير، وهي حالياً «في حدود الصفر».

تسويات على حساب الخليج

في هذا السياق أُقرّ اتفاق أستانا الذي رعته روسيا بالاتفاق مع تركيا وإيران، وتمّ بموجبه تحريك التسوية عسكرياً، عبر ضمّ المجموعات المقاتلة الفاعلة إليها، وهي في معظمها لا تتبع لأيٍّ من دول الخليج، بحيث إذا تحرّكت التسوية سياسياً لا يكون لهذه الدول نفوذ فعلي على الأرض يسمح لها بإملاء شكل الحكم الجديد أو طبيعة المساهمة السياسية فيه. الولايات المتحدة لم تكن بعيدة عن هذا التغيير، فهي سواءً بانسحابها لمصلحة روسيا في نهاية ولاية أوباما أو بضبطها لوتيرة الصراع الخليجي ــ الخليجي حالياً تكون عملياً قد أنهت حقبة التحكّم الخليجي المطلق بمصير دول الإقليم. صحيح أنها من جهة أخرى تقود «لمصلحة بعض دول الخليج» سياسة مواجهة مع إيران ولكنها مواجهة محكومة بسقف لا يتعدّى مشاغلة هذه الأخيرة في أماكن نفوذها خارج البلاد، وبالتالي المواجهة هنا تتفادى تغيير النظام وتكتفي بدلاً من ذلك بالتصدّي لسياساته الإقليمية والدولية. وهذا بخلاف السياسة المتبعة مع دول الخليج حالياً لا يعطّل التسويات التي تساهم بها إيران، بل يقلّل من حجم هذه المساهمة لمصلحة دول حليفة للولايات المتحدة مثل تركيا أو حتى لمصلحة روسيا التي ترى إدارة ترامب في نفوذها الكبير داخل سوريا حاجزاً أمام الطموحات الإيرانية هنا. في الحالتين ثمّة تحييد للدور الخليجي، عبر منعه من المساهمة الفاعلة في التسوية، لمصلحة دول ترى الولايات المتحدة وروسيا أنها قادرة بفعل الحجم والتأثير والموقع الجغرافي على كبح مفاعيل الصراع، والذهاب به نحو مخارج تحفظ وجود الدولة، ولا تكون في الوقت ذاته على حساب أيٍّ من «المجموعات» التي تحكم سوريا حالياً.

سياسة إضعاف المنظومة

عندما تدبّ الخلافات في المنظومة التي قادت في السنوات الستّ الفائتة سياسة تحطيم دول الإقليم لا تتراجع هذه السياسة فحسب، بل تنتقل الفوضى التي تسبّبت بها إلى داخل المنظومة نفسها، وتصبح بحاجة في ظلّ انعدام القدرة على ضبط الصراع إلى من يتولّى «التحكيم» فيما بينها. هنا يأتي دور الراعي الأميركي الذي فضّل في عهد ترامب إضعاف المنظومة - عبر إذكاء التناقضات داخلها - على إبقائها مستقرّة وقادرة على لعب أدوار فاعلة في محيطها كما كانت تفعل إدارة أوباما. ترامب بخلاف هذا الأخير لا يرى في المنظومة الخليجية ما يراه في تركيا أو إيران أو إسرائيل من قدرة على لعب أدوار لضبط الصراع في الإقليم بالتنسيق مع إدارته أو مع روسيا، ولذلك يقود سياسة لا تضع دول الخليج في اعتبارها، وتتعامل معها في أفضل الأحوال بمنطق الحماية لقاء الدفع. وهي فلسفة لا تقوم على عناصر جيوسياسية، ولا ترى في هذه الدول مرتكزاً لصناعة سياسة إقليمية يمكن الاعتماد عليها لحماية المصالح الأميركية في المنطقة والإقليم. وهذا يعني أنّ إضعافها الآن عبر تأليب السعودية والإمارات على قطر ثمّ التدخل لاحقاً للتحكيم بينها مرتبط بسياق إخراج هذه الدول جميعاً من التصوّرات الاستراتيجية لمستقبل المنطقة، والإبقاء عليها فقط لمساعدة الولايات المتحدة في الإيفاء بالتزاماتها المالية. «التحكيم» الذي يحصل حالياً سيقود إلى إضعاف المنظومة برمّتها، ولن يخرج أحد منه منتصراً، وفي حال خرجت السعودية أقوى، فسيكون خروجها محكوماً بالتركّز الشديد للسلطة الذي قاد إلى حرب اليمن، وأفضى بالتزامن مع الصعود الإماراتي إلى فوضى شاملة في السياسات التي يقودها مجلس التعاون الخليجي لمصلحة الولايات المتحدة.
* كاتب سوري