«الليبرالية الجديدة» هي نوع من أنواع السياسات الاقتصادية، أخذت قوة دفعها على مستوى العالم الرأسمالي الصناعي المتقدم كنوع من رد الفعل إزاء أزمة «التضخم الركودي» التي ضربت الاقتصادات الغربية في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، إثر فوْرة أسعار النفط التي أعقبت حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973.
قبل ذلك بنحو 40 عاماً، وفي غمار أزمة الكساد الكبير في أوروبا وأميركا (1929 ـ 33) ظهر مذهب اقتصادي داخل الفكر الرأسمالي الدولي، دشّنه عالم الاقتصاد البريطاني كينز، يقوم على تدخل الدولة في الاقتصاد، لمقاومة الكساد والبطالة عبر رفع مستوى الادّخار المنتج والاستثمار والتشغيل، انطلاقاً من أن الاقتصاد القائم على المشروعات الخاصة غير قادر في حدّ ذاته على تحقيق التوازن الكلّي بصفة تلقائية عند مستوى «التشغيل الكامل» أو قريباً منه، وفق ما دأبت على تأكيده الأدبيات الرأسمالية التقليدية. واعتبر كينز ـ في المقابل ـ أن زيادة معدل التوظف من خلال الإنفاق العام للدولة والتوسع في المشاريع العامة، داخل الاقتصاد المصاب بالركود، كفيل بحقن هذا الاقتصاد بجرعات منشطة تبدأ من زيادة الدخول الفردية والأجور، تعقبها زيادة في النفقات الاستهلاكية، وعن طريق ما أسماه «المضاعف» تحدث زيادات متتالية في مستويات الدخول حتى تصل إلى زيادة نهائية في مستوى الدخل الوطني تبلغ أضعاف الزيادة الأولية في الإنفاق العام الاستهلاكي العام والخاص.
اعتباراً من أوائل الثلاثينيات وجدت أفكار كينز سبيلها إلى التطبيق العملي في أوروبا والولايات المتحدة، وخصوصاً في هذه الأخيرة من خلال ما سمي «السياسة الاقتصادية الجديدة» New Deal التي اتبعها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت.
ومنذئذ ــ أواسط الثلاثينيات ــ وحتى أواسط السبعينيات، على مدى 40 عاماً، جرى اتباع سياسات اقتصادية في الدول الصناعية الغربية قائمة على ما يطلق عليه (سياسات دولة الرفاهة) من خلال قيام جهاز الدولة بدور رائد في مضمار حفز الزيادة في دخول الأفراد ومستويات معيشتهم، ابتداء من رفع معدلات التشغيل وزيادة مستويات الأجور وبناء نظم فعالة للتأمين الاجتماعي والصحي والتأمين ضد البطالة ودعم الغذاء الأساسي والقطاع الزراعي، إلى غير ذلك من سياسات توسعية نشطة في المجال الاقتصادي، إنتاجاً وتشغيلاً واستثماراً واستهلاكاً وتصديراً.
في منتصف السبعينيات، حدث الانقلاب الكبير في محاور السياسات الاقتصادية للدول الصناعية، في محاولة للاستجابة لتحديات أزمة التضخم الركودي، كما أشرنا.
وقد حدث «الانقلاب» على سياسات الرفاهة الاجتماعية التي قادتها «الدولة» في العالم الرأسمالي ـ وعلى أنقاض المذهب «الكينزي» نهض مذهب آخر من باطن الفكر الرأسمالي نفسه لينتشر باسم «الليبرالية الجديدة»، على سبيل التناظر مع «الليبرالية القديمة» التي سبقت ظهور الكينزية عبر منحنيات مختلفة، وتعرجات حادة، منذ ظهور كتاب آدم سميث عام 1776 بعنوان «بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم».
تمثل «الليبرالية الجديدة» امتداداً من نوع ما لليبرالية القديمة، من حيث الاستناد إلى الركائز الأساسية للرأسمالية دون (شوائب) كينزية، بالعودة إلى آليات السوق الحرة، وإعطاء الأولوية للقطاع الخاص «الكبير غالباً» على حساب الدور التنظيمي القوي للدولة وعلى حساب الطبقات العاملة، تشغيلاً ودخولاً وإنفاقاً ورفاهاً.
كان «نبي» الليبرالية الجديدة البازغة هو ميلتون فريدمان المفكر الاقتصادي الأميركي الحائز جائزة نوبل في علم الاقتصاد، والذي دشّن مذهباً معارضاً للكينزية وقاد تياراً اقتصادياً كاملاً سمّي تيار «النقديين الجدد» كامتداد للنظرية الأصلية أو «الأصولية» التي يمثلها الفكر الاقتصادي التقليدي ــ أو «الكلاسيكي» ــ في شقّه النقودي، القائل بأن كمية النقود تحدّد مستوى النمو الاقتصادي.
قوام المذهب الليبرالي الجديد، وفق النسخة المستحدثة لفريدمان ما يلي:
إن سبب التضخم هو زيادة الإنفاق الاجتماعي في الموازنة العامة للدولة، والتي تؤدي إلى «العجز» في الموازنة، أو تؤدي إلى تفاقمه، ومن ثم تضطر الحكومات ــ هكذا يقول ــ إلى محاولة سد العجز عن طريق وسائل التمويل التضخمي، وفي طليعتها إصدار النقود من دون غطاء مناسب (= الإصدار الجديد) وزيادة حجم الدين الحكومي وديون الهيئات العامة عبر الاقتراض العام، فيرتفع مستوى السيولة النقدية، ما يؤدي إلى تصاعد المستوى العام للأسعار.
هذه السلسلة الفكرية المترابطة تعلق الجرس في رقبة القطّ ــ الذي هو هنا: الفئات محدودة الدخل والطبقات العاملة، باعتبار أن تكريس شطر مؤثر من إنفاق الدولة لرفاهية هذه الفئات هو الذي يسبب الاختلال في التوازنات النقدية والمالية للاقتصاد.

التحول الهيكلي للاقتصاد باتجاه تنمية القطاعات الإنتاجية هو في مقدمة البرنامج اليساري


لم يهتم ميلتون فريدمان بزيادة إنفاق الحكومات الغربية على التسليح والعسكرة وعلى الحروب العدوانية والتدخل في شؤون الدولة الساعية إلى التنمية والاستقلال، وحبك المؤامرات الاستخبارية وانتهاج سبيل المغامرة في السياسات الخارجية ــ ولم يهتم ميلوتن فريدمان بضرورة زيادة معدلات الضريبة على الشرائح الدخلية العليا للأفراد وأرباح الشركات ــ بل دعا وأضرابه إلى خفض الضرائب على تلك الشرائح من الدخول والأرباح فيما يسمى Tax cuts ومن ثم أُطِلق العنان للسياسات الاقتصادية القائمة على عسكرة الطلب الحكومي والطابع الاحتكاري للعرض، عبر صيغة «احتكار القلّة» من الشركات العملاقة عابرة الجنسيات.
لم يهتم النقديون الجدد والليبراليون الجدد بهذا كله، وكان ديْدنهم إلقاء اللوم والتبعة على الفقراء وعلى الدور الاجتماعي للدولة الذي يؤدي ــ في عرفهم ــ إلى تصاعد الديون العامة الداخلية والخارجية.
وجرياً على سنّة الليبراليين الجدد، وخاصة لمواجهة أزمات الديون في العالم النامي ــ التي انفجرت إثر انخفاض أسعار البترول والمواد الأولية مرة أخرى، وخصوصاً منذ 1986 ــ كان المنهج المتبع هو إجبار الدول النامية المدينة على اتباع سياسات تقشفية هدفها «اعتصار» جهد الفئات الفقيرة، وتوجيه الفائض الاقتصادي الوطني لسداد الديون الخارجية، بعد مراكمة الأرباح للفئات الغنية، وتحويل الشطر الأكبر من الدخل القومي إليها في صورة أرباح وفوائد وريوع مختلفة.
كانت أكبر أزمة للديون في العالم الثالث هي أزمة ديون المكسيك التي وصلت عام 1985 إلى حد تعذر سداد الديون وطلب تأجيل السداد (موراتوريوم Moratorium) ــ وكان أن اهتبلت الدول الصناعية الرأسمالية الفرصة، فأوكلت إلى «صندوق النقد الدولي» مهمة تدبير حزم تمويلية إنقاذية أو إسعافية للدول المدينة، مقابل التزامها بتطبيق نهج اقتصادي ليبرالي جديد، نقدي ــ جديد، قائم على ضمان سداد الديون، وضمان عدم التوسع في طلب المعونة من الخارج. وكان المفتاح لهذه السياسات هو «التقشف العام»، عبر خفض نفقات الدولة الاجتماعية على الطبقات المنتجة المسماة بالفقيرة. وسميت البرامج المتفق عليها مع الصندوق ــ وفق ذلك ــ ببرامج التثبيت أو الاستقرار أو التصحيح الهيكلي أو التكيف، أو ما شئت من الأسماء المرادفة، ولكن جوهرها واحد: التقشف، الانحياز للسوق الحرة عبر استبعاد دور الدولة والنهج التخطيطي، ومن خلال محاباة أصحاب الأعمال الكبيرة عبر خفض مستويات الضرائب وتقديم التسييرات والحوافز الضريبية على اختلافها، وإطلاق حرية أصحاب الأعمال وأرباب المهن العليا في فرض الأسعار وعوائد الخدمة دون ضوابط حقيقية، وإطلاق العنان للشركات الكبيرة ذات الموقع الاحتكاري في الأسواق (احتكارات القلة oligopoly)... كل ذلك بالإضافة إلى «اعتصار» جهد الفقراء، من خلال خفض مخصصات الدعم السلعي الموجّه للفئات الفقيرة والطبقات المتوسطة، وزيادة الضرائب «غير المباشرة» المفروضة على المبيعات والاستهلاك والقيمة المضافة، والتي يقع عبؤها الرئيسي على المستهلك النهائي... بالإضافة إلى الخفض المبرمج ــ أو عدم التوسع المبرمج ــ في مخصصات الخدمات الاجتماعية بما يتكافأ مع أهميتها المركزية في سلّة الحاجات الاجتماعية الأساسية للناس، وبخاصة التعليم والصحة.
بذلك يتحقق في عرفهم مواجهة العجز في الموازنة العامة للدولة، وتكوين احتياطي نقدي ولو بالاقتراض الأجنبي، ما يؤدي ــ كما يقولون ــ إلى الاستقرار الاقتصادي أو (التثبيت) ومن ثم ضمان النمو الاقتصادي في الأجل الطويل.
نقل «صندوق النقد الدولي» حزم السياسات المذكورة باسم «برامج التكيف الهيكلي» خلال الثمانينيات والتسعينيات وأوائل القرن الجارية، من بلد نام إلى بلد آخر، مقابل تدبير حزم الإقراض أو مقابل إعطاء «صك حسن السلوك» المشجع للمقرضين الكبار في العالم الصناعي الرأسمالي المتقدم اقتصادياً.
ومن دولة نامية إلى أخرى جرت سياسات «الصندوق» على النسق نفسه، تحت راية تحقيق التوازنات النقدية ــ المالية للاقتصاد ــ أي «التوازن الاسمي» باختصار Nominal. والرافعة الأساسية لسلة السياسات هذه في المجال النقدي هي رفع أسعار الفائدة، وخفض سعر صرف العملة المحلية. ويؤدي رفع أسعار الفائدة ــ فيما يذكرون ــ إلى جذب المدخرات نحو الجهاز المصرفي وسوق المال من جهة أولى، وتقليل الإنفاق الاستثماري «غير الضروري» من جهة أخرى.
أما خفض قيمة العملة المحلية فيؤدي ــ في عُرفهم ــ إلى خفض أسعار المنتجات المحلية حال تصديرها، ما يزيد التصدير بالتالي، ورفع أسعار السلع والخدمات الأجنبية حال استيرادها، ما يشجع على خفض الواردات، ويؤدّي بالتالي إلى نوع من التوازن في الميزان التجاري وميزان المدفوعات إلى حد كبير.
أما السياسات المالية ــ الليبرالية الجديدة ــ فقوامها تقليص إنفاق الحكومة الاجتماعي ــ على الدعم الأساسي والتعليم والصحة ــ مقابل انخفاض مستويات ومعدلات الضريبة المفروضة على الشرائح الدخلية العليا.
هذا البناء الفكري الضخم، الذي تم نقله إلى مصرنا العزيزة مؤخراً، سواء بدفع من «الصندوق» أو بغير دفع منه، يتجاهل الأخطاء الكامنة في هيكل هذا البناء. فالتوازن الإسمي أو النقدي يتم في هذه الحالة ــ إذا كان يتم أصلاً ــ من دون اهتمام موازٍ بالتوازن للاقتصاد العيني أو الحقيقي، أي التوازن القائم على التوسع المبرمج في القطاعات الإنتاجية الأعلى قدرة على توليد الناتج بكفاءة في الأجل الطويل، وهي الصناعة التحويلية والزراعة الأساسية والخدمات القائمة على العلم والتكنولوجيا.
لذلك تتم السياسات النقدية والمالية في بيئة غير منتجة وغير إنتاجية. فارتفاع أسعار الفائدة وتراكم المداخرات لدى الجهاز المصرفي في صورة ودائع لأجل، يحدّ من استثمارها المنتج لأشخاص القطاعين العام والخاص الراغبيين والقادرين على الإنتاج وفق خطة قومية شاملة مفترضة.
وإن خفض قيمة العملة المحلية يؤدي إلى رفع أسعار الواردات ــ في الاقتصاد المصري المعتمد بدرجة عالية على الواردات من جميع الأنواع: استهلاكية ووسيطة واستثمارية ــ ما يؤدي إلى اتصال موجات متتابعة من ارتفاعات الأسعار. ومع انسحاب الدولة من الوظيفة الاقتصادية ــ الاجتماعية، تصعد الأسعار انطلاقاً من ارتفاع هوامش الأرباح لاحتكارات القلة، من دون ضوابط حقيقية لتحديد تلك الهوامش من قبل الدولة، ما يضع العبء الرئيسي على المستهلك النهائي ــ من بين كاسبي الأجور والمرتبات غير القادرين بطبيعة الحال على تعويض أثر التضخم على مستويات دخولهم الحقيقية.
وفي كلمة، يؤدي خفض قيمة العملة المحلية إلى رفع قيم الواردات دون أن يؤدي إلى تطوير الصادرات، نظراً إلى ضيق قاعدة الأنشطة الاجتماعية، وغياب خطة اقتصادية فعالة تحدد أولويات صارمة للإنتاج بدءاً من تصنيع المنتجات التي تحل محل الواردات تدريجياً على مدى زمني معقول.
أما خلل هيكل الضريبة لمصلحة الأغنياء، وتقليص أو إلغاء الدعم الموجه للأغلبية الاجتماعية (80% أو 90% من السكان) فإنه يؤدي إلى تفاوت اجتماعي واسع النطاق عميق. وأما إطلاق آليات السوق الحرة دون تدخل فعال من الدولة، وفتح باب الخصخصة، مرة أخرى، بدلاً من توسيع قاعدة النشاط المنتج للقطاع العام فإنه يؤدي إلى تعميق الركود. وبذلك يتآلف التضخم السعري مع الركود الإنتاجي لتقوم «حلقة خبيثة» و«دائرة شريرة»، لا فكاك منها إلا بانتهاج سياسة نقيضة لليبرالية الجديدة، وفق برنامج متناسق لليسار. وهذا ما نشير إليه بإيجاز في مقالنا المقبل ــ وهو الأخير في هذه السلسلة.

برنامج اقتصادي لليسار مقابل البرنامج «النيوليبرالي»

«لا يفلّ الحديد إلا الحديد». هكذا قالوا، ونحن نقول: إن حديد «الليبرالية الجديدة» القاسي لا يفلّه إلا حديد اليسار، فما حديد أو جديد اليسار؟ وهل من بنود فارقة وعلامات فاصلة في برنامج لليسار، يصلح رداً مقترحاً لمواجهة إخفاق الليبرالية الجديدة، تلك التي انتشرت كانتشار النار في الهشيم مؤخراً في مصر، سواء كسياسة أو كتيار فكري، يشتغلان على مستوى التطبيق وعلى صعيد تكوينات النخبة المثقفة وخاصة منها تلك العاملة في مهنة البحث الاقتصادي والتعليم الجامعي سواء في جامعات العاصمة ــ حكومية أو خاصة ــ أو جامعات «الأقاليم»...؟
في ما يلي نرصد أهم النقاط التي يمكن إثارتها في هذا الشأن:
1- استعادة معالم الوظيفة الاقتصادية ــ الاجتماعية للدولة في مجال «الحنوّ» على أبناء الغالبية الاجتماعية للشعب، من خلال العمل ــ عبر الزمن ــ على تلبية الحاجات الاجتماعية الأساسية، المادية منها والروحية، حاجات الغذاء والسكن والكساء والدواء، والتعليم والصحة والنقل والاتصال الإبداعي.
2- استعادة جوهر المنهجية التخطيطية، عبر تخطيط الإنتاج والاستثمار والتشغيل والتجارة الخارجية، لمقابلة متطلبات التحول الهيكلي للاقتصاد باتجاه صيرورة اقتصاد مصر «اقتصاداً صناعياً جديداً» ثم «اقتصاداً مصنّعاً حديثاً»، في إطار الثورة العلمية ــ التكنولوجية المتجددة.
3- الانطلاق من الإرث «الكارثي» للتخفيض الدراماتيكي لقيمة العملة المحلية منذ مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، سعياً إلى تشجيع التحول نحو بناء قطاعات إنتاجية وتصنيعية بديلة للواردات، اعتماداً على ارتفاع تكلفة الاستيراد مقابل تكلفة المنتجات المحلية. ويتطلب ذلك ــ من بين أمور أخرى ــ سياسة متناسقة نشطة لدعم مستلزمات الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي.

يجب التحول عن أوهام ما يسمى «الاقتصاد الحر» إلى الاقتصاد الموجّه

4- يلاحظ ضعف الإمكانيات التصديرية، برغم انخفاض أسعارها المحتملة في الخارج بفعل خفض سعر صرف العملة المحلية مقومة بالعملات الأجنبية، وذلك بالنظر إلى انخفاض مرونة الجهاز الإنتاجي المحلي. لذلك يتعين أن تقوم الدولة بإعطاء الأولوية لتوسيع طاقات الإنتاج المحلي، بما فيه القطاعات التي يمكن توجيهها للتصدير، بدلاً من التفكير في مجرد خفض قيمة العملة Devaluation.
5- ضرورة العمل على توسيع الطاقات الإنتاجية لمشروعات القطاع العام إلى جانب تشجيع القطاع الخاص الصغير والمتوسط في القطاعات الأعلى إنتاجية، وفق المخطط الإنتاجي والصناعي الذي تضعه الدولة وتصمّم من أجله حوافز إيجابية وسلبية لتوجيه المنظِّمين صوب الأولويات المحدّدة، من حيث الحوافز الإيجابية والسلبية، ومنها ما هو ضريبي أو ائتماني ونقدي وصرفي ومصرفي... إلخ.
كل ذلك، بدلاً من صرف الجهد الذي تبذله حالياً الدولة النيوليبرالية (بالحوافز الضريبية المتنوعة و«الشباك الواحد») للعمل من أجل مجيء المستثمر الذي لا يجيء...!! فيما قد يشبه ما أشار إليه صمويل بيكيت في مسرحيته الشهيرة «في انتظار غودو»!
6- وضع سياسة ضرائبية كفوءة من خلال تطبيق التصاعد الفعال لشرائح الضريبة، بما يكفل الحصول على حق المجتمع من رجال المال والأعمال والمهن الحرة العليا، واستخدام حصيلة الضريبة «المباشرة» لتمويل الدعم والخدمات الأساسية لغالبية المجتمع المنتجة.
إن المنطلقات الأساسية لبنود هذا البرنامج اليساري واضحة تماماً: أولها تحقيق التحول الهيكلي للاقتصاد باتجاه تنمية القطاعات الإنتاجية، وبخاصة الصناعات التحويلية، وبصفة أخص الصناعات المنتجة للسلع والخدمات التي تحل محل الواردات عبر عمل مرحليّ ممنهج.
لا بأس لدينا من العمل على تحقيق التوازن للموازنة العامة للدولة، ولكن ليس من خلال اعتصار جهد الغالبية الاجتماعية، وإنما بالتوزيع العادل للأعباء، وفق تفاوت القدرات، بما يحقق الإنصاف equity.
ثانية المنطلقات، العمل على التقدم من الإنصاف ــ على طريق العدالة الاجتماعية Social Justice بشكل تدريجي ــ عن طريق مزج الإنصاف بالمساواة equality بمعنى تكافؤ الفرص، وبخاصة الفرص التعليمية والتدريبية والصحية، لاكتساب رأس المال المعرفي المؤهل لكسب الدخول المنتجة.
ثالثة المنطلقات، التحول عن أوهام ما يسمى «الاقتصاد الحر» و«السوق الحرة» إلى الاقتصاد الممنهج أو الموجّه، المخطط تخطيطاً قومياً شاملاً، يراعى منطق قوى السوق مع توظيفها لخدمة الأولويات التنموية بمعناها الشامل. يدخل في ذلك ضرورة تدخل الدولة بوضع سياسات فعالة وأدوات تنفيذية لنظم التأمين الاجتماعي والصحي، و«التعليم للجميع»، و«إدارة المواهب» للمتفوقين. كما يدخل في ذلك تحديد هوامش الأرباح والنفقات وضبط المستويات السعرية وفق المعايير الصحيحة، بصرامة لا تخطئها العين البصيرة.
* أستاذ في معهد التخطيط القومي في القاهرة