الجدار ولا سلاحكم يا منتحلي صفة الوطنية والدين والقِيَم والأخلاق. أنا ابن عين الحلوة، أعلن أن وجودكم المسلّح بيننا شرٌ مطلق وأن جدار العار قد يكون علينا أهون وطأة من سلاحكم.
لقد فقد السلاح في المخيمات، ومنذ عشرات السنين، كلّ دورٍ وطني محتملٍ له، وتحوّل تدريجيّاً إلى عبءٍ ومن ثم إلى أذيّة شاملة جعلت من العيش في المخيم جحيماً لأهله. صار هذا السلاح باباً لكل شاردٍ وواردٍ ليتدخّل بشؤوننا وليسخّرنا في خدمة أهدافه ومصالحه حتى لو أدّى هذا إلى انتحارنا الجماعي.
بالأمس اعترضتم على بناء جدار العار. لا بأس، لكن ما هو بديلكم؟ تحويل المخيم إلى ساحة حرب لترويع السكان الآمنين؟ أاقتحام بيوت الناس ودكّ الجدران التي تأويهم؟ أتتلذّذون بترويع الأطفال والنساء وكبار السن؟ أتتمتّعون بقطع الأرزاق وتعطيل المدارس والحياة العامة؟ أتهجير أهل المخيم هو ما تصبون إليه وقد نجحتم في ذلك إلى حدٍّ بعيد؟ من أي طينة إجرامية جُبِلتُم؟ أما من ذرة ضميرٍ لديكم؟
صحيح أن الجدارَ مُستنكَر ولكنه ليس إلا عارضاً من عوارض سياسة التمييز العنصري والإهمال التي اتبعتها السلطة اللبنانية، ما أدى إلى وضع الجيش أمام خيار أمني محض. علماً، أن الحل الحقيقي هو سياسي واجتماعي واقتصادي وحقوق-إنساني، والسلطة اللبنانية أبعد ما تكون عن التفكير بحل عادل يخدم المصالح اللبنانية الفلسطينية المشتركة.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن الجدار عارٌ على السلطة اللبنانية ولكنه لا يزيد الأذى الواقع على سكان المخيم إلا من الناحية المعنوية. فالأماكن المخصصة لبناء الجدار ممنوعٌ على السكان الاقتراب منها منذ أن حوصر المخيم. توجد في المخيم مداخل محددة للسيارات والمشاة حيث يتم الدخول والخروج عبر نقاط تفتيش تابعة للجيش اللبناني. المخيّم محكم الإغلاق، وعندما يجري الحديث عن تسلل أحد الخارجين على القانون إليه أو خروجه منه، يستغرب سكان المخيم كيف يتم ذلك رغم الحراسة المشددة والسياج والأسلاك الشائكة وكذلك الجدار القائم أصلاً في بعض المناطق حول المخيم. البعض يشيع أن قوى لبنانية نافذة تسهّل الأمر. خلاصة القول إذا كان الجدار هو الوسيلة الوحيدة لمنع تسلل الخارجين على القانون فأهلاً وسهلاً به شرط الكَفْ عن اتهام المخيم، بعد إقامة هذا العازل، بأنه يؤوي أو يصدّر "إرهابيين".
منذ أكثر من عشر سنوات وأنا أدعو عبر المقالات التي كتبتها إلى التخلي عن السلاح في المخيمات باعتباره بات مُنْسلِخاً عن انتمائه الفلسطيني ومُجيَّراً للغير منذ زمن بعيد. لقد تحوّل هذا السلاح إلى نقطة جاذبة للاستغلال من قِبَل جميع الجهات الفاعلة على الساحة اللبنانية المحلية منها والإقليمية والدولية. فالمخيم لا يملك أيّ مقومات ليشكّل "كنتوناً" مستقلاً. مساحته بالكاد تتجاوز الواحد كيلومتر مربع وليس لديه أي مقوِّمات اقتصادية أو اجتماعية وكذلك أمنية إلا كجزء لا يتجزأ من لبنان. إن أمن المخيم من أمن البلد عموماً والعكس صحيح، وخلاف ما يظن البعض فإن قوته تكمن في اندماجه مع المحيط لا في امتلاكه السلاح وإدارة أمنه ذاتياً.
أما ما يتم تداوله بخصوص تنظيم السلاح في المخيمات فلا يعدو كونه محاولة لإبقاء الوضع على ما هو عليه، وللأسف نرى السلطة اللبنانية مشاركة في هذه المسرحية. ما عاد أهل المخيم يطيقون سماع نكتة "تنظيم السلاح" السمجة التي تردّدها القوى الفلسطينية عند كل إشكال أمني، متظاهرةً بالحرص على المخيم فتجتمع وتشكّل لجاناً، ويقوم مسؤولوها بجولات في المخيم وأياديهم متشابكة مع بعضها البعض بعد أن يكونوا قد استمتعوا بولائم المصالحة، وذلك ليوهموا الناس بأنهم باتوا على الصراط المستقيم. تجربة فوضى السلاح تؤكّد ما نقول ويزيد ذلك تأكيداً تعدد القوى وتشرذمها المتزايد وتعميم ظاهرة المربعات و"الزواريب" الأمنية، حتى بات بمقدور أي مجموعة صغيرة أن تنجح في إقامة "كنتونها" الخاص. قبل الحديث عن تنظيم السلاح يجب النظر إلى من سيحمله والهدف من ذلك؟ الأولية لتهيئة الإنسان قبل اقتناء السلاح، فمن ليس أهلاً لذلك يصبح سلاحه خطراً عليه وعلى مجتمعه ونعمةً لعدوّه.
كفى لعباً بالنار. كفى لعباً بمصير الناس. كفى لعباً بأرواح أبناء جلدتكم. نحن لا نريد السلاح من أصله لأنه ما عاد يمتّ للوطن أو للدين أو للأخلاق أو للإنسانية بصلة. اتركونا وشأننا وكونوا على يقين أننا سنتدبّر أمرنا على أفضل ما يكون. لا حل للوضع الأمني في المخيم إلا بالتخلي عن السلاح وتسوية أوضاع من كان يحمله بحسب القوانين اللبنانية مع التشديد على ضرورة تحقيق تسوية شاملة تضمن العدالة وتأخذ بعين الاعتبار الظروف التي أجبرت البعض على الانخراط في صفوف المجموعات المسلحة.
يدّعي كلّ من يحمل السلاح أنه يقوم بذلك دفاعاً عن أمته ووطنه وشعبه وأنه مستعد للتضحية بنفسه والاستشهاد من أجل ذلك. لقد جاء وقت الامتحان الحقيقي: أنتم أمام خيار إنقاذ أمتكم وشعبكم ووطنكم. لستم بحاجة إلى خوض معارك طاحنة ولا تزنير أنفسكم بأحزمة ناسفة. لستم بحاجة إلى تجاوز الحدود لتحرير فلسطين. أنتم بحاجة فقط إلى قرار الرجل الشهم. أنتم بحاجة إلى تجاوز أنفسكم وأنانيتكم. أنتم بحاجة إلى الكفِّ عن اعتبار أنفسكم أوصياء علينا بقوة السلاح لا بقوة الصلاح والخير. انظروا إلى المصلحة العامة للمخيم وأهله وقدِّموها على مصالحكم وأهوائكم. سلاحكم سلاح شر والتخلّص منه انتصارٌ للخير على الشر.
* كاتب وباحث فلسطيني