ليس من قبيل الصدف أن تتعالى الأصوات اليوم خوف الوقوع في المنزلق الخطير لانهيارات جدّية تتعرّض لها الحضارة الإنسانية.فإذا كان كوكبنا الأرضي يخشى عليه وعلى مناخه الطبيعي من تقلبات ناشئة عن ثقب أو فتحةٍ في طبقة الأوزون، فإن تبدّلات وتطورات وانحدارات مرعبة يعيش العالم اليوم قلق وقوعها بسبب ما هو ناشئ من ثقوب وفراغات يعانيها الضمير العالمي... وكل ذلك تحت عنوان «أزمة الحضارة».

تُرى، ونحن نتحدّث عن الحضارة المأزومة، هل يمكن أن نشير إلى حضارة بعينها، وبالتالي فإن العصر فيه أنواعٌ من حضاراتٍ أُخر إذا قصدناها اكتشفنا الملجأ؟
أم أن الحضارة في كل عصر، خاصة إن كان العصر عصرَ الكونية والعولمة الشاملة – هي واحدةٌ لا تتعدّد؟
ثم في أي جنبة من جوانب الحضارة تقع الأزمة؟ هل هي في الإمكانات العلمية والتقنية؟ هل هي في الأنظومات السياسية والقانونية السائدة؟ هل هي في النظرة للوجود والحياة والإنسان؟
أم أنها أزمة في المعنويات والقيم التي تدمِّر كل إنجازٍ وعلى كل صعيد؟
وقبل هذا وذاك هل يمكن لنا أن نبعِّض النظرة للحضارة والأزمات الحضارية؟ أم أن وقوع الخلل في أي جنبة من جوانبها سيطال كل الأبعاد الأخر؟ وبالتالي فإنه سيطيح بكل المرتكزات والسياقات والدلالات والنتائج التي تقوم عليها الحضارة؟
أسئلةٌ كثيرة، أظن قويّاً أنها لا تحتمل منّا المبادأة والتسابق في صياغة الأجوبة، فشؤون الإنسانية أصعب وأعمق وأبعد غوراً من أن ننالها بمرتجلاتٍ من الأفكار والعبائر والمفاهيم.. ولعلّ هذه الصعوبة هي التي شكّلت الحاجة المسيسة للجوء إلى الدين بما يمثل من مشروع إنساني قدّمه ربُّ الإنسان وإلهه الذي لا يعزُب عن علمه شيء ولا مصلحةٌ، ولا سبيل لرفعة الأبعاد الحياتية والحيوية في الداخل البشري وفي مظهر تجلياتها الاجتماعية والسياسية والفكرية والحضارية الراشدة إلا وتناولها... كما أن هذه الصعوبة لا تعفينا من البحث، ففارقٌ بين البحث المفتوح على كل الاحتمالات، وبين الارتجال الذي يتصنّم أمامه رواده لسهولة مقصده ومستقره.
ومن منافذ الاحتمالات هذه عودةُ الدين إلى ساحة الحضور الريادي على قاعدة نبذ الحصرية الدينية (بالمعنى المعرفي والطائفي للكلمة)، واستقدام التعاضد على قاعدة التعددية الدينية (بالمعنى المعرفي أيضاً والمشروط بتقديس الهوية والخصوصية)...

خطر الفكر هو في جموده وفي فقدان أصحابه القدرة على الاقتحام


وهذا ما أعاد طرح أسئلة من قبيل:
ــ ما هو مدى إمكان الحديث عن جبهة إسلامية مسيحية، علماً أن تبايناً عقيديّاً – بالحد الأدنى – حاصلٌ بين الديانتين؟ وهل هذه دعوةٌ لإعادة اجتهادٍ عقيدي كلامي ولاهوتي ينظّم – بالحد الأدنى أيضاً – نظام القيم وفلسفة الوجود الإنساني؟
ــ ثم إذا كانت الأزمة الحضارية اليوم عنوانها الغرب، أليست المسيحية هي الرحم الحاضن الذي تولّدت منه هذه الحضارة الغربية؟
ــ وإذا أردنا أخذ موقف ديني مما هو سائد، فهل هذا يعني استدراجاً نحو طرح الدولة الدينية، وهي الفكرة التي لا يوافق عليها الكثير من أهل الديانتين؟
إن هذه الأسئلة وغيرها كثير قد جاءت لتُعبِّر عن قلق ينتاب الطرفين وحملت جملةً من المداخلات المشحونة بلغة هجومية وإن من باب الدفاع عن الذات، أو احترازية تستكنّ فيها كل عناصر النظرة المتوجسة خيفةً من الآخر، خاصةً أن الأمم وأهل الأديان هم مظهر التاريخ الذي ينتمون إليه.
والتاريخ هنا، حمل جملةً من التحقيبات والحقائق المؤسسة لمرتكزات العلاقة الإسلامية ــ المسيحية.
فالمسيحية التي قام لاهوتها وموقفها من الأديان السابقة عليها ضمن رؤية تفيد أن حركة النبوة إنما هي بشارات على طريق المخطّط الإلهي لظهور الخلاص المتمثّل بالمسيح والمسيحية، لم يصدق على الإسلام ما ظهر بعد المسيحية. وحسب القديس كبريانُس (من آباء الكنيسة الأولى ت 285) أن الذي يناله الخلاص هو من اتخذ الكنيسة أمّاً والمسيح أباً، ناقلاً لتدعيم فكرته قول المسيح في إنجيل متى «من لم يكن معي كان عليَّ».
هذا ويستفيد البابا أوربانوس الثاني في مجمع كليرمونت عام 1095 م من هذه النظرة لتبرير الحرب الصليبية.
كما أن المسلمين اعتمدوا على النص القرآني ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾، لاعتبار المسيحية فترة زمنية قد انقضت. وهذا ما شكّل عائقاً في وجه المسيحية عن تشكيل لاهوت يقبل بوحيانية الديانة الإسلامية التي جاءت بعد المسيحية، وعائقاً أمام المسلمين عن قبول المسيحية كدين يمكن القبول باعتناقه... وسادت روح التبشير والتبليغ في علاقة الطرفين متنقلة من رحابة المودة والرحمة التي ضجَّ بها القرآن في نصوصه ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾. هذه المودة التي ارتكزت حسب الآية إلى ثلاثة أبعاد هي:
أ. كونهم قسيسين؛ أي علماء بالكتاب.
ب. ورهباناً؛ أي أصحاب زهد ونزوع نحو فضّ العلاقة مع الحياة الدنيا وبهارجها.
ج. وأنهم لا يستكبرون في الموقف من الآخر سواءً أكان ذاك الآخر وجهة نظر أو كياناً اجتماعيّاً ودينيّاً.
ونفس هذه الروح من المحبة لكل خلق الله حملتها كلمات السيد المسيح.
ثم بعد علاقة المودة والتأثّر طرأت روح من التنظير في الشؤون العقيدية واللاهوتية لمنع الآخر عن التأثير، وحفظ الذات من التأثر، وهي ما ولّدت مفاهيم الاقتتال وسياسة التحارب، بل هي التي أخرجت جملةً من المفاهيم عن حركيتها وفاعليتها الإنسانية لتأخذ فيما بعد أبعاداً تؤسس للفرقة والتباعد والمواقف السلبية؛ من جملة هذه المفاهيم مفهوم أو مصطلح «أهل الكتاب»، ومفهوم أو مصطلح «أهل الذمّة».
هذان المصطلحان اللذان يحملان في النصوص الأولى كلّ دلالات العائلة الروحيّة ـ الدينية الواحدة، والتي يكون كل طرف فيها مسؤولاً عن الآخر بعهدةٍ وذمةٍ من الله سبحانه وتعالى.
ثم أخذت صيغاً سياسية أخرى... وأوجدت مناخات من سوء الفهم والتعاطي.
وإذا كان الماضي قد شهد مخاوف من هذا القبيل، فإن اليوم يحمل نوعاً آخر من المخاوف على الذات تتأتّى من خارج الفكر والنسيج الديني الإسلامي منه أو المسيحي.
فالغرب وحضارته المتمثّلة بالريادة الأميركية والأخطبوط الصهيوني الذي يمسك بالعديد من المفاصل الحسّاسة حتى بتنا نسمع بالمسيحية الصهيونية وتأثيرها على اليمين المتطرّف في البيت الأبيض. وهكذا فإنّ الإسلام كما المسيحية باتا على قدر سواء من مخاطر الادعاءات والهرطقات الجديدة، بل والتحدّيات الحضارية التي إن بدأت بإعلان «موت الإله»، ثم «موت الإنسان»، فنهاية التاريخ لهذه الحضارة وانعدام المعنى؛ فإنها بدأت تعيش أيضًا التخبّط في كيانها الداخلي، فالحريات العامة وحقوق الإنسان ومبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية صارت مجرد ألفاظ وقالب فارغ من كل مضمون، بل مجرد مدعىً تكذّبه تفاصيل القرارات والأحداث الدولية – الأميركية المتعلقة بمناطق العالم العربي والإسلامي... فالمتتبّع لتفاصيل المجريات في العراق والخليج وفلسطين وسوريا ولبنان، وكيف تدير الولايات المتحدة الأميركية حركة الصراع لا بدّ أن يصل أننا قادمون على مرحلة من عودة الاستعمار المباشر للإمساك بمنابع النفط والمخزون الاقتصادي في المنطقة، كما وتمكين إسرائيل من فرض السيطرة على دول المنطقة وشعوبها... الأمر الذي سيشكّل خطراً وجوديّاً على أصل الديانتين وتراثهما الديني والروحي بل وعلى القيم الإنسانية التي كانت تنادي بها الحضارة الغربية. وهذا ما يدعو إلى ضرورة القيام بعمل جبهوي وبروح من الممانعة والتصدّي والمقاومة... وصولاً إلى حفظ الفكر الديني ونظام القيم والعلاقات الإنسانيّة المقدّسة في الفكر الديني.
ونحن هنا وفي هذا السياق نضع جملة من الملاحظات:
أ. إن الدعوة إلى تشكيل جبهة إسلامية ــ مسيحية لا يعني ترك الإنجازات الفكرية والاجتماعية والسياسية والإنسانية التي قام بها كل فريق على حدة... بل إنه ينبغي أن يشكّل مدماكاً جديداً على طريق التراصّ والتكاتف في مواجهة الرياح العاتية التي أخذت تبعثّر كل محاسن السلوك الحضاري في المجتمعات الإنسانية.
ب. إذا كان الناظم في العلاقة بين الأديان يقوم في السابق على أساس الحصرية بسبب الخشية والخوف من اختراق الآخر من أهل الدين الإسلامي أو المسيحي، فإنّ مصدر الخطر هذه المرة يودّ النيل من أصل الظاهرة الدينية بمعناها الإنساني والوحياني، وهذا ما يقضي التفاتاً من الجميع للحفاظ على الجوهر الديني ضمن مشروع تعدّدي مرن وواثق... إذ في كل دين وحياني حيثية تمتّ للخصوصية، وأخرى تنتمي للأفق الإنساني الشامل والمفتوح على كل علاقة وصداقة ومودة ووئام، فالناس كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله.
ج. المشاركة العملية والميدانية في تقديم نمطية دينية متوحدة في مواجهة الاستبداد بكل أشكاله، وإبراز البعد الإلهي والإنساني لنعمة الحرية التي لا تضاهيها في الفكر الديني إلا نعمة الهداية.
د. العمل على دفع الأمور باتجاه فك الارتباط القائم بين النسيج الغربي والتمدّدات الصهيونية فيه، والتي تأخذه باتجاه المنحدر الخطير والمهول.
هـ. إعادة تشكيل معجم اصطلاحي للمناحي الحيوية المتداخلة بين الديانتين وإشكاليات الحضارة القائمة، الديمقراطية/ الحرية والإرادة/ المقاومة والإرهاب/ أهل الذمة والكتاب/ الخلاص/ الحقوق/ القيم/ الأخلاق وغير ذلك...
و. إثارة القضايا الإنسانية المحقة والعادلة، والالتفات إلى المركزية الدينية الجامعة لفلسطين والقدس، كمكانٍ قدسي له حيثية هذه القضايا المقدّسة.
ز. إحياء الروح المعنوية الزاهدة برهبانيتها العارفة المبادرة صاحبة الإرادة الشاهدة والسلوك الشهيد على طريق تحقيق النهضة والعزّة...
أخيراً، أختم لأقول: إن كل عمل يبدأ رغبة ثم فكرة، وخطر الفكر هو في جمودها، وفقدان أصحابها القدرة على الاقتحام... وإلا فما من فكرة تحمل عند أهلها مقوّمات القناعة، وتمتلك فيهم عواطف الولاء، وتنعكس عندهم في خطط ومشاريع وأعمال إلّا تحولت إلى أفق من النهوض...
واليوم فكرة أن الخلاص الحضاري يحتاج إلى روح دينية ــ إنسانية تحمل الكثير من فرص النجاح، وما علينا إلّا أن نجرّب، وكما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «إذا هِبْتَ أمراً فقعْ فيه، فإنّ شدّة توقّيه أكبر مما تخاف منه».
والسلام عليكم...
* رئيس معهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة