إلى كل الشرفاء في الإدارة العامة اللبنانية
سادت منذ ثمانينيات القرن الماضي، قراءة للدولة وإدارتها العامة، باعتبارها تجمّعاً للأشرار، لا يعوّل عليها في تقديم منافع عامة أو تحقيق التنمية، صاغها التيار النيو-ليبرالي، وتبنّتها المؤسسات الدولية. هنا قراءة مغايرة لدور الإدارة العامة في التنمية، تقدم صورة متألّقة عن البيرقراطية الحكومية، وتُظهر أن حضور هذه البيرقراطية هو شرط لا بد منه لكي تتحقّق التنمية. هذا واقع قائم في بلدان كثيرة في العالم، وأهمها بلدان شرق آسيا.

النيو-ماركسيون والمؤسساتيون والنفعيون الجدد

أحد أهم الإسهامات التي قدمتها النظرية الاقتصادية للتنمية، إظهارها بالاستناد إلى الوقائع التاريخية، أن أهم عامل في تحقيق التنمية، هو وجود إدارة حكومية فاعلة. تولى بلورة هذه المقاربة رهط من المفكرين منذ مطلع القرن العشرين. وثابر آخرون على ذلك، مثّلوا بعد الحرب العالمية الثانية تيار «المؤسساتية المقارنة» (comparative institutional approach). وتمثّل هذا التيار منذ الثمانينيات بجيل جديد من الباحثين الذين درسوا التجربة الآسيوية.
كان لا بد لتيار «المؤسساتية المقارنة» من أخذ مسافة مع النيو-ماركسية التي طغت في ميدان اقتصاديات التنمية، عبر «نظرية التبعية» (dependency theory) حتى مطلع الثمانينيات، وركّزت على دراسة الدولة بوصفها ساحة صراع. وكان لا بد من أخذ مسافة أخرى مع التيار الثاني، الذي سيطر على أدبيات التنمية منذ أواخر السبعينيات، الممثّل بـ «النفعيين الجدد» (new utilitarianism) الذين وفّروا النظرية التي استندت إليها سياسات التنمية النيو-ليبرالية، الرائجة منذ ذلك التاريخ.

الانطلاق من نقد «نظرية التبعية»

استعاد الباحثان إيفانز وستيفانز، في نص صدر عام 1988، الأدبيات حول التنمية منذ الستينيات، والمواقف التي عبّر عنها النقاش آنذاك بين مدرسة التحديث (modernization approach) ومدرسة التبعية (إيفانز وستيفانز، 1988). طغى حضور شخصيتين فكريّتين في ذلك النقاش.

وفّر حزب الكيومنتانغ للإدارة الحكومية عنصر التماسك الداخلي

أخذت المدرسة الأولى من ماكس فيبر تركيزه على البنى الفكرية، واستنتجت أن الأفكار والبنى الفكرية التقليدية هي سبب التخلّف (المصدر نفسه: 715). واستندت المدرسة الثانية إلى الماركسية، ووجدت في الشروط المادية الممثلة بالتقسيم الدولي للعمل على أساس مركز وأطراف، والذي فرضته الإمبريالية في مرحلتي الاستعمار وما بعد الاستعمار، سبب التخلّف. ذهبت المدرسة الأولى إلى أن على الدول المتخلفة أن تنسج على منوال الدول المتقدمة للخروج من التخلّف. وذهبت المدرسة الثانية إلى أن سبب التخلّف هو علاقة دول الأطراف بدول المركز، وأن على الأولى أن تقيم قطيعة مع النظام الرأسمالي الدولي كشرط للخروج من التخلّف (المصدر نفسه: 717).
كان ألبرت أوتو هيرشمان قد أجرى هو الآخر عام 1981 مسحاً للأدبيات في ميدان «اقتصاد التنمية» الصادرة من الخمسينيات إلى السبعينيات، صنّف فيه هذه الأدبيات ضمن ثلاث مجموعات، تقف على طرف منها المدرسة المسيطرة (économie orthodoxe) وتقف على الطرف الآخر، المدرسة النيو-ماركسية (هيرشمان، 1984: 45). صنّف هيرشمان المدرسة الأولى من خلال معيارين، أولهما عدم اعترافها بوجود بنى مختلفة في البلدان المتخلّفة تقتضي سياسات مختلفة نوعياً للتعاطي معها (mono-économisme)، والثاني، اعتبارها أن ثمة منفعة متبادلة من التعاون بين شمال العالم وجنوبه. وصف المدرسة الثانية باعتبارها ترى اختلافاً جوهرياً في بنى الطرفين، يمنع دول الأطراف من النسج على منوال المركز في السياسات التنموية التي تعتمدها، وبأنها لا ترى أي إمكان للتعاون بين طرفي العالم هذين لتحقيق التنمية (داغر، 2005).
بيّن إيفانز وستيفانز أن الصيغة القديمة لـ«نظرية التبعية» التي كانت متداولة خلال الستينيات والسبعينيات أصبحت متقادمة ولا يمكن الأخذ بها لدراسة العلاقة بين شمال العالم وجنوبه، وذلك لسببين. السبب الأول هو أنها «اقتصادوية»، لا ترى العلاقة بين هذين الطرفين إلا بوصفها تعكس سيطرة الشركات الاحتكارية الغربية على دول العالم الثالث (إيفانز وستيفنز، 1988: 725). والسبب الثاني هو أنها تنفي إمكان تحقيق أي اختراق تنموي من قبل دول بعينها في العالم الثالث. لكن هذا هو ما حصل بالفعل في دول شمال-شرق آسيا، أي كوريا الجنوبية وتايوان بالتحديد، التي أعادت صوغ علاقتها مع بلدان المركز. لم ينفِ الباحثان أهمية الأسباب الجيو-سياسية في تفسير النجاح الذي تحقّق للبلدين (المصدر نفسه: 727). أي كونهما في مواجهة النموذج الشيوعي، واستفادتهما الكبيرة من فتح الأسواق الأميركية أمام صادراتهما. إلا أنهما ركّزا في الوقت عينه على شرط أكثر أهمية في تفسير نجاح البلدين، هو مقدرتهما على إقامة بنى إدارية جديدة للدولة كان لها الفضل الأول في تحقّق هذا النجاح.

التوقّف عن دراسة الدولة بوصفها ساحة صراع

في منتصف الثمانينيات، وفي عز اكتساح النيو-ليبرالية للعالم كموقف أيديولوجي معادٍ للدولة، وكسياسات تنمية جديدة تمثّلت آنذاك بسياسات التصحيح الهيكلي، أصدرت جمهرة من الباحثين كتاباً حول كيفية استعادة دور الدولة في التنمية كمحور نقاش وتحليل (سكوكبول وريشماير وإيفانز، 1985). تكرّر طبع هذا الكتاب حتى بلغ عدد طبعاته عشراً في أواخر التسعينيات. تمحورت مداخلة إيفانز وريشماير في الكتاب حول الشروط التي يجب أن تتوفّر في الدولة ليكون دورها فعّالاً في التنمية (إيفانز وريشماير، 1985). رأى الباحثان أن الانتقال بالنقاش من مسألة كون الدولة ساحة صراع، إلى التركيز على تعريفها بوصفها بنى إدارية ومؤسسات إدارية، هو شرط تقديم شيء جديد ذي فائدة لدراسة دورها في التنمية (المصدر نفسه: 46).
اختارا أن يدرسا الدولة بوصفها فاعلاً جماعياً (corporate actor)، بدل أن يستمرّا في النسج على منوال من يرون الدولة منصّة تتبارز فوقها القوى والمصالح الاجتماعية المختلفة. وقد اختارا في ذلك النأي عن القراءات النيو-ماركسية للدولة، لمصلحة القراءة الفيبرية لها. كان مايكل مان قد انتقد بدوره هذه الخاصية للأدبيات حول الدولة التي راجت حتى مطلع الثمانينيات وحصرت همها بتعريف الدولة كساحة صراع (مان، 1984 و 2003: 110).

النفعيّون الجدد والمؤسساتيون

في نصه التأسيسي الرائع الصادر عام 1995، عرض إيفانز مقاربتين لتعريف الدولة بوصفها إدارة، وتعريف دورها في التنمية (إيفانز، 1995). المقاربة الأولى هي التي راجت منذ منتصف السبعينيات، وأسهمت ببلورتها جمهرة من الاقتصاديين النفعيين الجدد، وكان لها الأثر الكبير منذ مطلع الثمانينيات، لأنها شكلت المرجعية الفكرية التي استندت إليها سياسات التنمية النيو-ليبرالية الطابع، تحت اسم «توافق واشنطن». وهي أقامت تعارضاً بين الدولة والسوق، ورأت أن تدخل الدولة في الاقتصاد يعيق عمل قوى السوق، واعتبرت انكفاء الدولة وانسحابها من الاقتصاد هو شرط تمدّد علاقات السوق.
والمقاربة الثانية هي التي عبّرت عنها إسهامات مفكرين منذ مطلع القرن العشرين، وأظهرت حاجة اقتصاد السوق لتدخّل الدولة لجعله ممكناً، وذلك بدءاً من ماكس فيبر، مروراً بـ كارل بولانيي وبمنظّرين رئيسيين ضمن «اقتصاد التنمية» كـ ألكسندر غرشنكرون وألبرت أوتو هيرشمان، وصولاً إلى الباحثين الذين عملوا على جمع الوقائع حول نموذج شمال-شرق آسيا للتنمية، وبلورة مفاهيم جديدة انطلاقاً من هذا الواقع، لفهم كيفية تدخل الدولة الناجح في الاقتصاد، ومنهم أليس أمسدن وروبرت واد وبيتر إيفانز نفسه.
صنّف إيفانز اهتمامات مفكري هذا التيار تحت ثلاثة عناوين. عالج بولانيي السياسات التي أتاحت نشوء اقتصاد السوق وتطوره. وعالج فيبر البنى الإدارية أو البيروقراطية الحكومية، التي لم يكن ممكناً من دونها أن تتوسّع الرأسمالية وتتعمّم. وعالج مفكرو ما بعد الحرب العالمية الثانية، كـ هيرشمان وغرشنكرون، العلاقة بين الدولة وبين النخب الاستثمارية، التي أظهرت عدم إمكان تحقّق التنمية في البلدان «الآتية متأخرة إلى التصنيع»، إذا لم توفر الدولة حوافز للمستثمرين من القطاع الخاص للانخراط فيها.

الإدارة الحكومية كما وصفها ماكس فيبر

تبدو مساهمة ماكس فيبر في وصف الإدارة الحكومية الغربية غير قابلة للتجاوز. وتظهر أهمية هذه المساهمة في أن الإدارة الحكومية الغربية باتت تكنّى بصفة «الإدارة الفيبرية» (veberian)، بناءً على التوصيف الذي قدمه فيبر لها. ولعل أفضل طريقة لتوضيح إسهام فيبر في وصف هذه الإدارة الفعّالة، هو المقارنة بينه وبين المقاربات الأخرى للإدارة الحكومية، التي تقدّم بها التيار النفعي الجديد. فالإدارة الحكومية عند هذا التيار مكونة، بصرف النظر عن الزمان والمكان، من إداريين يبحثون عن المنفعة الشخصية ويقدمون منافع وتسهيلات لمن يدعمونهم من خارج الإدارة، أكانوا سياسيين أو أصحاب أعمال. وذلك من خلال صلاحياتهم في توزيع الموارد العامة، أكانت وظائف أو عقوداً أو غير ذلك، أو من خلال صلاحياتهم في بلورة وإصدار تشريعات توفر منافع وريوعاً لهؤلاء السياسيين وأصحاب الأعمال، كالرسوم الجمركية أو الاحتكارات الخاصة، على سبيل المثال (إيفانز، 1995: 23). أي أن الموظفين الحكوميين وفق هذه المقاربة هم مجموعة أشرار لا يستطيعون تقديم منافع عامة، ولا يمكنهم أن يحققوا المصلحة العامة أو يسهموا في الخير العام.

تبدو مساهمة فيبر
في وصف الإدارة الحكومية الغربية
غير قابلة للتجاوز

أظهرت الدراسات منذ الثمانينيات ضعف هذه القراءة للإدارة العامة وانحصارها في نموذج واحد، الأمر الذي يجعلها غير قادرة على الإحاطة بتنوّع الواقع الإداري لدول العالم. بل إن هذا النوع من القراءات سلّط الاهتمام أكثر على مساهمة ماكس فيبر الفذّة في تعريف الإدارة الحكومية. أول خصائص الإدارة الحكومية كما وصفها فيبر، هو انبناؤها على قاعدة الاستحقاق. وقد اعتمدت البلدان الغربية قاعدة المباريات الوطنية المفتوحة للجميع، لتنسيب الموظفين الحكوميين. يحظى هؤلاء بعد تنسيبهم بخاصيّتين إضافيّتين، أولهما أنهم يتمتعون بأمان وظيفي يكرّسه إمكان ممارستهم لمهنتهم على مدى ثلاثين أو أربعين عاماً. وثانيهما، أنهم يحظون بحق الترقّي الوظيفي لبلوغ أعلى المستويات الوظيفية بالمباريات داخل الإدارة. وإذا تم العمل بهذه القواعد على وجه الدقّة، فإن الإدارة الحكومية تتحوّل إلى المكان الأفضل لبناء الأهلية المهنية وتوفير أفضل الخبراء (المصدر نفسه: 30). تثبت التجربة منذ مئتي عام على الأقل وحتى الآن، أن الإدارة الحكومية في الغرب التي بنيت بهذه الطريقة، كانت المسؤولة عن تحقّق النمو الاقتصادي والازدهار في هذه البلدان.

المسؤولية الإضافية المترتبة على الدولة التنموية

انطلق فيبر في توصيفه لتكوين الإدارة ودورها، من واقع البلدان الغربية حيث هناك نخب استثمارية فاعلة. لا تحتاج هذه الأخيرة سوى إلى أن تتحمّل الإدارة الحكومية مسؤوليتها في تأمين جو استثماري سليم. إلا أن المفكرين الأوائل ضمن «اقتصاد التنمية» تنبّهوا إلى حقيقة أن بلدان العالم الثالث تفتقد وجود نخب جاهزة لممارسة دورها الاستثماري، وأن على الدولة أو الإدارة العامة، أن تتولى خلق هذه النخب. أي أن دور الدولة يتجاوز ما جاء به فيبر، ألا وهو مواكبتها للنشاط الاستثماري الخاص.
وفي دراسة غرشنكرون لتجربة «التصنيع المتأخر» في روسيا القيصرية، أواخر التاسع عشر، بدا دور الدولة جوهرياً لجهة تأمين الرساميل الكثيفة التي تتطلبها الشروط التكنولوجية للاستثمار آنذاك، ويعجز عن توفيرها المستثمرون الأفراد. أما هيرشمان، فقد اختصر دور الدولة في «تعظيم القدرة على اتخاذ القرار الاستثماري» للنخب الاستثمارية، التي تعجز بمفردها عن تبيّن الإمكانات المتاحة، وتعجز بمفردها عن تحويل رغبتها بالاستثمار إلى استثمارات فعلية (المصدر نفسه: 31). ورأت أليس أمسدن في تتبعها لتجربة «التصنيع المتأخّر» في شرقي آسيا بعد الحرب العالمية الثانية، أن الدعم الحكومي الموفّر للمستثمرين، ممثلاً بالحماية الجمركية والتمويل الطويل الأجل وغير ذلك، كان شرط تحقّق هذا التصنيع (المصدر نفسه: 38).

الدولة تخلق القطاع الخاص

في استعراضه للأدبيات التي تناولت العلاقة بين الدولة والمجتمع (state-society relation)، ميّز إيفانز بين طريقتين في هذا المجال. وضع جويل ميغدال المجتمع في مواجهة الدولة، من خلال وصف جهد المتنفّذين المحليين التقليديين لاكتساب سلطة محلية (social control) على حساب الدولة ممثلة بالإدارة الحكومية، مستنداً في ذلك إلى تجربة عبد الناصر في مصر. أي اختار أن يدرس حصراً همّ اكتساب السلطة عند المتنفّذين هؤلاء. وهي علاقة بين الدولة والنخب لا مردود تنموياً لها (المصدر نفسه: 37).
أما ما فعله هيرشمان وغرشنكرون، ثم الجيل الثاني من الباحثين الذين درسوا التجربة الآسيوية، فهو التركيز على العلاقة بين الدولة وبين النخب الاستثمارية، كما سبقت الإشارة. وهي بدت طريقة مجدية أكثر لمعرفة دور الدولة في التنمية. وقد أظهر هؤلاء الباحثون أن هذه العلاقة التي أثمرت مشاريع مشتركة (joint projects) بين الطرفين، كانت لها نتائج باهرة على صعيد «التصنيع المتأخّر» والخروج من التخلّف (المصدر نفسه: 41). وقد أتاحت خلق قطاع خاص فاعل كان محرّك التنمية في هذه البلدان.
رأى الباحثان إيفانز وريشماير في نصهما لعام 1985 شرطين لتدخّل فاعل من قبل الدولة بوصفها فاعلاً جماعياً، في التنمية، هما تماسك الإدارة العامة الداخلي (cohesion)، واستقلاليتها (autonomy) تجاه المجتمع (إيفانز وريشماير: 51). كان فيبر الأول في الإشارة إلى حاجة الإدارة الحكومية إلى أن تكون في عزلة نسبية عن الضغوطات التي تتعرّض لها من خارجها، لكي تتمكن من ممارسة دورها. وقدّم إيفانز في نصه لعام 1992، إثباتاً بالوقائع على أهمية توفّر شرطي التماسك الداخلي والاستقلالية، لكي تتمكّن الدولة من ممارسة دورها الفاعل في التنمية (إيفانز، 1992). وقد اتّخذ من تجارب اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان دليلاً على ذلك.
حقّقت اليابان هذا التماسك، من خلال الشبكات داخل الإدارة التي ربطت بين الموظفين الحكوميين الكبار (gakubatsu)، واستندت إلى تجربتهم المشتركة منذ أيام الدراسة والعلائق الشخصية بينهم، وخلقت «عصبية» إدارية (esprit de corps) جعلت كل فرد منهم يرى الوصول إلى الأهداف المشتركة للإدارة تحقّقاً لطموحاته الشخصية (إيفانز وريشماير: 56؛ إيفانز، 1992: 154). ووفرت النخبة العسكرية التي جاء بها الجنرال بارك إلى الإدارة عام 1961، اللحمة لهذه الأخيرة، التي انضافت إلى خصائصها «الفيبرية»، لرفع مستوى فعاليتها إلى الحد الأقصى (المصدر نفسه: 156). ووفّر حزب الكيومنتانغ للإدارة الحكومية عنصر التماسك الداخلي الذي هو الخاصية المشتركة لهذه التجارب التنموية الثلاث (المصدر نفسه: 159).
سمّى إيفانز الخصائص الإضافية هذه التي جعلت الإدارة أكثر تماسكاً وأكثر فعالية في التجربة الآسيوية، «العناصر من خارج البيروقراطية للبيروقراطية»، أو «الأسس غير البيرقراطية للأداء البيرقراطي» (non-bureaucratic foundations of bureaucratic functioning) (إيفانز وريشماير: 59). وأتاح وجود هذه العناصر الإضافية، إطلاق صفة «الفيبرية المعزّزة» (reinforced veberianism) على الإدارة الحكومية الآسيوية (إيفانز، 1992: 153).
وقد اقتضت المشاريع المشتركة بين الدولة والنخب الاستثمارية، أن تكون الإدارة الحكومية في علاقة يومية مع القطاعات الإنتاجية وممثليها. وفّرت «المؤسسات الوسيطة» التي تجمع ممثلي الحكومة مع ممثلي القطاع الخاص هذا الشرط في اليابان. وكان الأمر على النحو ذاته في كوريا وتايوان، ولو أن العلاقة بين الطرفين في هاتين الحالتين، عكست سلطوية أكبر من طرف الإدارة تجاه القطاع الخاص.
وفّر إيفانز في دراسته لحالات اليابان وكوريا وتايوان، وقائع تثبت أن توفّر شرطي التماسك الداخلي للإدارة واستقلاليتها، هو ما حمى التجربة برمتها من الفشل وحقق نجاحها الباهر. وإلا لكانت الإدارة العامة تحوّلت مطيّة عند النخب الاستثمارية الجديدة التي أسهمت هي نفسها في خلقها، وتحوّل أفرادها إلى مرتشين همهم إرضاء هذه النخب مقابل تحقيق منافع فردية لأنفسهم. وفي حالة كوريا، لم يؤد «انغراس» (embeddedness) الإدارة الحكومية في النسيج الاقتصادي، والذي عبّر عن نفسه بالعلاقة مع عدد قليل من الشركات الكبرى، إلى أي تغيير في طبيعة العلاقة بين الطرفين. أي بقيت الإدارة العامة معنيّة بتحقيق المشروع الوطني الذي انتدبت له، وعصيّة على أية محاولات لشراء أفرادها أو جعلهم يقدّمون عنصر الانتفاع الشخصي في تعاطيهم مع القطاع الخاص (المصدر نفسه: 158). وأظهرت تجربة تايوان أن الإدارة الحكومية كانت قادرة أن تعرّض الشركات التي سبق أن خلقتها ووفّرت لها كل أشكال الدعم، لصدمات المنافسة الخارجية، من خلال إزالة الرسوم الجمركية التي تحمي أسواقها، لدفعها إلى تحسين فعاليتها الإنتاجية وتطوير تنافسيتها في المواجهة مع الخارج (المصدر نفسه: 162).
لا تكتمل هذه الصورة الجميلة للبيروقراطية الحكومية، التي ليست طرحاً طوباوياً بل واقع قائم في التجربة الآسيوية، إلا بمقارنتها مع نماذج الإدارة النهّابة (predatory) في أنحاء العالم الثالث. وقد أعطى إيفانز نموذج الإدارة الحكومية أيام موبوتو في الكونغو، مثالاً على ذلك. وقد تحوّلت هذه الإدارة آنذاك، إلى سوق للبيع والشراء، حيث يعرض الموظفون الحكوميون على أصحاب المصالح الخاصة، ما يناسبهم من عقود ومشاريع، مقابل الإنتفاع الشخصي(المصدر نفسه: 151) . وقد تحوّلت الدولة إلى طرف لا يستطيع المستثمرون الجادّون توقّع قراراته. وامتنع هؤلاء عن الإستثمار، وتحوّلت الدولة إلى أهم عائق أمام التنمية.

التصنيع المتأخّر

إختصرت أليس أمسدن «التصنيع المتأخّر» الذي حققته دول شمال-شرق آسيا، باعتباره مغايراً لذلك الذي حققته البلدان الأوروبية «الآتية متأخّرة إلى التصنيع» في النصف الثاني من التاسع عشر، والذي كان يقوم على الإبداع (innovation)، أي اختراع وتسويق سلع وطرائق تكنولوجية جديدة. أظهرت أنه كان كافياً لتحقيق هذا التصنيع، استيراد الآلات من الغرب (borrowing) وإعادة تفكيكها وتركيبها للتمكّن لاحقاً من إنتاجها بدل الاستمرار باستيرادها (learning by doing) (أمسدن وهيكينو، 1993). وقسّم لينسو كيم الديناميكية التكنولوجية إلى ثلاث مراحل، الأولى بينها تقوم على تقليد السلع الموجودة على قاعدة المحاكاة (duplicative imitation). وتقوم الثانية على قاعدة «التقليد الذي ينطوي على إبداع» (creative imitation). وتقوم الثالثة على اختراع سلع وطرائق تكنولوجية جديدة على قاعدة «الإبداع الأصيل» (original innovation) (كيم، 2001(. وأظهرت أمسدن أن كل تجارب «التصنيع المتأخّر» للقرن العشرين، تقع ضمن المرحلتين الأوليين.
وأظهرت التجربة الإيرانية كإحدى آخر تجارب «التصنيع المتأخّر»، أن الحصار الدولي المفروض على هذا البلد لم يمنعه من التحوّل إلى دولة صناعية. وأظهرت هذه التجربة وجود عامل هام في تسهيل عملية «التصنيع المتأخّر»، يتمثّل بدور «المكاتب الاستشارية الهندسية» المنتشرة في الغرب، التي تتيح بشروط السوق، حيازة البلدان النامية للمعرفة التكنولوجية التي يتطلبها إنتاج قطع غيار بالإمكانات والموارد المحلية (local contents). وهو ما يتيح لهذه البلدان، أن تعوّض امتناع الشركات الكبرى الغربية عن نقل المعرفة التكنولوجية لها.

الدولة التنموية في القرن الحادي والعشرين

أخذ إيفانز بالاعتبار التحوّلات التي طرأت على الاقتصاد العالمي، والمساهمات النظرية التي قدمتها نظريات التنمية والنمو المختلفة، لرسم صورة الدولة التنموية للقرن الواحد والعشرين (إيفانز، 2008). ركّزت نظريات التنمية على أن «إنتاج الآلات» (capital goods) هو هدف التنمية الفعلية. أظهرت العقود المنصرمة تراجع حصة الصناعة في القوى العاملة في البلدان الأكثر نجاحاً في تحقيق تصنيعها المتأخّر، وأولها الصين وكوريا، بالإضافة إلى دول أخرى أقل نجاحاً كأفريقيا الجنوبية والبرازيل. وذلك لمصلحة تطوّر نشاطات الخدمات من كل نوع. تولّى هذا القطاع توفير العدد الأكبر من مواقع العمل الجديدة في هذه البلدان (المصدر نفسه: 10).
جعلت نظرية النمو الباطني المنشأ (endogenous growth)، وأهم أعلامها بول رومر، من المعرفة التكنولوجية (technological knowledge) مصدراً أولاً ورئيسياً للنمو. ينجم عن اكتساب هذه المعرفة، «أفكار» جديدة يمكن تحويلها إلى مخترعات (innovations) وتسويقها. وأظهر الاقتصاديون النيو-كلاسيكيون الذين ركّزوا على دراسة المؤسسات، أنها أساسية لفهم سياقات النجاح أو الفشل في التنمية. ومن هؤلاء داني رودريك ودارون أساموغلو. وحاججت النظرية التي تركز على بناء الإمكانات لدى الأفراد، أو التنمية البشرية، أو «التمكين» (capability theory)، وأهم أعلامها أمارتيا سن، على أن هذا هو هدف التنمية في الأساس.
استخلص إيفانز من الواقع ومن نظريات النمو، أن على الدولة التنموية في القرن الواحد والعشرين أن تركّز على بناء المؤهلات البشرية كمصدر رئيسي للتنمية. يكون عليها أن تلعب دوراً أساسياً في «تمكين» رأس المال البشري الوطني، من خلال التعليم والتدريب، وتعزيز قدرة هذا الأخير على إنتاج «الأفكار»، التي يمكن أن تتحوّل إلى خدمات أو سلع جديدة، وتكون مصدراً للنمو. ليس ثمة تعارض بين «التصنيع المتأخّر» والتركيز على بناء المؤهلات البشرية. بل أن الدولة التنموية للقرن العشرين، كانت الأفضل بما لا يقاس في ميدان الاستثمار في التعليم، وتأهيل رأس المال البشري الوطني لتحقيق «التصنيع المتأخر».
بيّن إيفانز أن توفّر المقدرة الإدارية لدى الدولة، أمر أكثر أهمية في شروط القرن الواحد والعشرين، مما كان عليه الأمر في القرن العشرين. أكّد على مركزية الدولة كمؤسسة تنموية (المصدر نفسه: 18). لكن مهمات الدولة التنموية للقرن الواحد والعشرين أكثر تشعباً وتعقيداً، لأن علاقتها لم تعد محصورة بالنخب الاستثمارية، كما كان الأمر في القرن العشرين.

* أستاذ جامعي

المراجع

Amsden Alice, Takashi Hikino, “Borrowing technology or Innovating: An exploration of the Two Paths to Industrial development”, in R. Thomson (ed.), Learning and Technological Change, Macmillan, 1993, pp. 243-266.
Evans Peter, "A comparative Institutional Approach", in P. Evans, Embedded Autonomy: States and Industrial Transformation, Princeton Univ. Press, 1995, pp. 21-42.
Evans Peter, "The State as a Problem and Solution: Predation, Embedded Autonomy and structural Change", in S. Haggard, R. Kaufman (eds.), The Politics of Economic Adjustment, Princeton univ. press, 1992.
Evans Peter, “In Search of The 21st Century Developmental State”, Working Paper, N. 4, The Centre for Global Political Economy, Univ. of Sussex, December, 2008, 22 pages.
Evans Peter, Dietrich Reuschemeyer, Theda Skocpol (eds.), Bringing the State Back In, Cambridge: Cambridge University Press, 1985.
Evans Peter, John Stephens, “Studying Development since the Sixties: The Emergence of a New Comparative Political Economy.” Theory and Society, 17, 1988, pp. 713–45.
Evans Peter, Rueschemeyer Dietrich, “The State and Economic Transformation: Toward an Analysis of the Conditions Underlying Effective Intervention”, in Peter Evans, Dietrich Reuschemeyer, and Theda Skocpol (eds.), Bringing the State Back In, Cambridge: Cambridge University Press, 1985, pp. 44-77.
Hirschman Albert Otto, "Grandeur et décadence de l’économie du développement", in A. Hirschman, L’économie comme science morale et politique, Gallimard-Le seuil, Paris, 1984.
kim Linsu, “The dynamics of Technological Learning in Industrialization”, in International Social Science Journal, 2001, 33 pages.
Mann, Michael, “The Autonomous Power of the State: Its Origins, Mechanisms and Results” in Archives Européennes de Sociologie, vol. 25, 1984, republié in Brenner, Jessop, Jones and Macleod (eds.), State/Space: A Reader. Oxford: Blackwell Publishing, 2003, pp. 109 – 136.

ألبر داغر، "كيف نستفيد من الأدبيات حول التنمية في النقاش حول مستقبل لبنان الاقتصادي"، مقالة في النهار ، 18/4/2005، أعيد نشرها في ألبر داغر، أيّة سياسة صناعية للبنان: مقاربة مختلفة لدور الدولة في الاقتصاد، «المركز اللبناني للدراسات»، 2005، 197 صفحة ، ص. 12 – 18.