يبدو أنه لا نهاية تلوح في الأفق لضوضاء ما بعد الانتخابات في أميركا. فهذه الضوضاء قد ألقت بظلال من الحزن، واللهو، والصدمة على سلسلة كاملة من المسائل. ويستمر توالي قصص إلينا تدور حول الترويج لأنباء لا أصل لها ومزاعم في شأن تدخل روسي في الانتخابات وإدلاء مهاجرين غير شرعيين بأصواتهم فيها، وقيام السعوديين بإيداع الأموال في حسابات هيلاري المالية لتغيير الجغرافيا السياسية الإقليمية لصالحهم، والادعاءات بأنه كان بإمكان بيرني ساندرز أن يلحق الهزيمة بترامب لو لم يسحقه حزبه.
ولو غصنا في ما هو أبعد من الاستعراضات المسرحية في مرحلة ما بعد الانتخابات، نرى أن الأوان قد آن لإلقاء نظرة جدية من منظور الجغرافيا السياسية على رئاسة ترامب التي ستبدأ قريباً. فما الذي تنبؤنا به البيئة الجغرافية السياسية العالمية الحالية عن الولايات المتحدة في ظل ما ينذر بإدارة ستُحدِث تحولاً في الإطار المفاهيمي للسياسة الأميركية؟ وكيف يمكننا قراءة وتفسير السيل المتواصل من الهجمات على ترامب وفريقه؟ وما الذي ترمز إليه هذه الهجمات؟
ربما يكون للرئيس المنتخب موقف رجعي حيال عدد من القضايا الأساسية في حقل السياسة الخارجية مثل الاتفاق النووي الإيراني، واتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وصعود الاقتصاد الصيني. ولكنه محاط بفريق من المستشارين، يمتلك، على رغم التشويه الذي تتعرض له صورته، فهماً متنوعاً ومعقداً لماهية التحديات، سواء الاقتصادية أو الجيوبوليتيكية، التي تواجهها الولايات المتحدة على المسرح العالمي.


فريق جديد

فلنأخذ، على سبيل المثال، ستيفن بانون، كبير استراتيجيي ترامب ومستشاره الأقدم. فبانون قادم من كلٍّ مِنْ وول ستريت والمشهد الإعلامي متحلياً بقناعة وإدراك راسخين لطبيعة الضرر الذي ألحقته مؤسسة المحافظين الجدد بالولايات المتحدة وموقعها في العالم منذ رئاسة جورج دبليو بوش. إن النقد الذي يوجهه بانون للنخبة السياسية المولعة بإشعال فتيل الحروب القابعة في واشنطن هو السبب الرئيسي للإفراط في شيطنته. وحتى بعدما بات جلياً أنه لم يكن قط معادياً للسامية أو لإسرائيل، فإن تشويه صورته في هذا الشأن مازال جارياً على قدم وساق. ومن شبه المؤكد أن بانون سيؤيد سياسات ترمي إلى الحد من فقاعة المال في وول ستريت، وسد الهوة المتسعة بين الفقراء والأغنياء، والدعوة إلى سياسة خارجية أكثر واقعية تستند إلى حقائق الجغرافيا السياسية بدلاً من الميول الإيديولوجية المتشددة.

لا تزال العائلة المالكة السعودية تستمد مشروعيتها في الحكم
من النخبة الوهابية

أما الجنرال المتقاعد مايكل فلين، الذي اختاره ترامب كمستشار للأمن القومي، فلقد كان هدفاً دسماً للمؤسسات الإعلامية الرئيسية بسبب تصريحاته النارية حول الإسلام. حسناً، ندرك جيداً أنه قد أدلى بتصريحات غير صحيحة سياسياً بالمرة حول الإسلام والمسلمين، ولكننا نعرف تمام المعرفة أيضاً بأن الإسلام، وهو أحد الأديان العظيمة في العالم، يتعرض للاختطاف أيضاً، أو أنه وفقاً لبعض علماء الإسلام، قد اختُطِف فعلاً من قبل جهاديين ميّالين إلى العنف، مسؤولين عن إلحاق الموت والدمار بعدد لا يُحصَى من البشر، معظمهم من أبناء جلدتهم المسلمين.
ماذا عن موقف فلين حيال الحرب المستمرة في سوريا وتأثيرها في المنطقة؟ حسناً، لقد تحلى بما يكفي من الشجاعة لكي يدعو إلى القضاء على «داعش»، وما يسمى بـ«جبهة النصرة»، التي خضعت لعملية تبديل لاسمها قبل وقت ليس ببعيد، فضلاً عن غيرهما من الجماعات الجهادية الوهابية. وفلين لا يؤمن بإشاعة الخوف من روسيا وبشيطنة موسكو. فلقد تحلى بما يكفي من الشجاعة لكي يدعو إلى التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا لاستئصال شأفة الجماعات الجهادية العنيفة المتعطشة للدماء في سوريا وإعداد البلاد لنسق جديد من الحكم من دون الأسد. ويرمي فلين بشكل أساسي إلى الحيلولة دون ظهور ليبيا ثانية في منطقة الهلال الخصيب. كما أنه دعا إلى الحيلولة دون ارتماء تركيا، وهي حليف رئيسي في منظمة حلف «شمال الأطلسي»، في أحضان الروس والصينيين عبر التأكيد لإدارة الرئيس إردوغان بأن فتح الله غولن، رجل الدين التركي الذي يعيش في منفى اختياري في بنسلفانيا، لن يعود منتصراً إلى أنقرة لكي يبني نسخته من «داعش». ربما يكون فلين عاطفياً في التعبير عن رأيه، ولكنه ليس جاهلاً بالشؤون الدولية.
وقبل الانتقال إلى غير ذلك من التطورات الدولية والتحديات الجيوسياسية المهمة، فلنُلقِ نظرة على مرشح الرئيس المنتخب لمنصب وزير الخارجية، ريكس تيللرسون. إن هذا المخضرم في شركة إكزون يجلب معه خمسة عقود من عقد الصفقات والتفاوض مع الحكومات في أنحاء العالم. وواقع أنه أدار بنجاح شركة طاقة عملاقة ينبئ بالكثير عن فهمه للجغرافيا السياسية الدولية والشؤون الخارجية، وبالتالي عن مهاراته في تمثيل الولايات المتحدة ومصالحها على المسرح العالمي. إن رؤى تيللرسون المناهضة للعقوبات كأداة للسياسة تشي باستعداده لسلوك سبيل دبلوماسي يتسم بالشدة مع خصوم الولايات المتحدة ومنافسيها. إن حضور إكزون القوي في روسيا، وعلاقة تيللرسون الشخصية مع بوتين، وفهمه العميق للشرق الأوسط ودور إيران كلاعب إقليمي بالغ التأثير، كل ذلك يعني أن بمقدوره التواصل مع أصدقاء أميركا وخصومها على حد سواء بما يعود بالنفع على المصالح الأميركية طويلة الأمد ومصالح العمال الأميركيين.


الجغرافيا السياسية: لمحة عامة

ثمة اتجاهات عظمى لا رجوع عنها تستحق عناية إدارة ترامب عن كثب، نوجزها فيما يلي:
صعود الصين عالمياً وفقاً لمبادرتها الموسومة «حزام واحد، طريق واحد»؛ تحالف بكين المعقد والمتنامي باطراد مع روسيا في بقاع أوراسيا؛ تنامي نفوذ إيران في الشرق الأوسط وخارجه؛ ميل باكستان الجيوستراتيجي إلى الصين على قاعدة مشروع التنمية الضخم الموسوم «الممر الاقتصادي للصين وباكستان» والذي تبلغ كلفته 51 مليار دولار؛ تهاوي السياسات الخارجية السعودية وما نجم عن ذلك من جراح ألحقتها السعودية باقتصادها من تلقاء نفسها؛ وحالة الفوضى التي تعصف بالسياسة الخارجية والجيوسياسية التركية؛ والذعر المتنامي الذي ينتاب دول أوروبا الشرقية حيال تحالفها مع الغرب؛ والتهديد الذي تشكله الجماعات الجهادية الوهابية للاستقرار الأوروبي.


آسيا

كيف تسير أمور الولايات المتحدة في آسيا؟ بادئ ذي بدء، لقد آن الأوان للنظر إلى الاستراتيجية الإقليمية الموسومة «محور لآسيا» والتي أثيرت حولها ضجة كبيرة، على أنها طريق مسدود لا يؤدي إلى أية نتائج ملموسة بالنسبة إلى الولايات المتحدة. فمنذ الإعلان عنه في عام 2012، لم يتحقق هذا المحور، بينما الصين عاكفة على توسيع نطاق نفوذها الإقليمي عبر بناء مؤسسات أمنية واقتصادية متعددة الأطراف. وعلى نطاق أوسع، ما زالت الصين منهمكة في بناء نظامها العالمي الموازي بمكوناته الرئيسية التالية:
«منظمة شانغهاي للتعاون» لمواجهة «الأطلسي»؛ و«بنك التنمية الجديد» و«البنك الآسيوي للبنى التحتية والاستثمار» لمواجهة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي؛ و«المجموعة العالمية للتقييم الائتماني» لمواجهة موديز وستاندارد آند بورز؛ و«اتحاد المدفوعات الصيني» لمواجهة ماستركارد وفيزا؛ و«نظام الدفع بين المصارف عبر الحدود» لمواجهة نظام السويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك)؛ والبريكس لمواجهة مجموعة الـ7.
ومع وصول مبادرة «حزام واحد، طريق واحد» الصينية، أو «مبادرة الحزام والطريق»، إلى ذروة نشاطها، يتعين على ترامب وفريقه أن يجدوا طريقة للتواصل مع الصين. ويمكن تحقيق ذلك عبر الانضمام إلى «البنك الآسيوي للبنى التحتية والاستثمار» وحتى عبر حث الشركات الأميركية على المشاركة في مختلف مشاريع البنى التحتية الضخمة ضمن «مبادرة الحزام والطريق»، عوضاً عن النظر إلى هذه المبادرة كسبيل يؤدي إلى صراعات حتمية.


آسيا الوسطى وجنوب غرب آسيا

وفي آسيا الوسطى، ثمة هاجس أمني متنام يتمثل بانتشار تنظيم «القاعدة» وغيره من الجماعات الوهابية العازمة على زعزعة استقرار المنطقة. وقد أدى هذا الهاجس إلى ترتيبات أمنية بين الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى، وأفغانستان، والصين. وتعتقد المؤسسة الأمنية الصينية بأن عناصر في العائلة السعودية المالكة وأفراداً سعوديين أثرياء يؤججون صعود جماعة على شاكلة القاعدة في المنطقة. وبات هذا الوضع خطيراً إلى درجة أن بكين شيدت مواقع عسكرية متقدمة على الحدود الطاجيكية ــ الأفغانية لصد الجماعات الجهادية وحماية مشاريع قيد الإنشاء للبنى التحتية. وتجدر الإشارة إلى أن الوجود الأميركي في آسيا الوسطى قد شهد تراجعاً متواصلاً إلى درجة أنه بات اليوم من المستحيل الإشارة إلى أي مبادرات دبلوماسية أو اقتصادية أميركية رئيسية في المنطقة.


الشرق الأوسط

وإلى الجنوب من آسيا الوسطى، في الشرق الأوسط، لم يتمخض التحالف المهتز وغير الملائم والمُشَكَّل من قطر، وإسرائيل، والسعودية، وتركيا ضد إيران وحلفائها عن أية نتائج لحد الآن. وقد بات الوضع سيئاً إلى درجة أن قادة إسرائيل قد قرروا إقامة تحالف مع السعودية. وينبغي تذكير القيادة الإسرائيلية بأن العائلة المالكة السعودية ما زالت تستمد مشروعيتها في الحكم من النخبة الدينية الوهابية التي تستمر بدون خجل في اعتبار اليهود بأنهم في مرتبة أدنى من البشر.
وفي مكان آخر من المنطقة، تواصل تركيا انحدارها إلى مصير مجهول مع وقوف حكومة إردوغان موقف الحائر أمام عدد لا يُحصى من الأزمات الأمنية. فالهجمات التفجيرية تستمر في حصد أرواح المواطنين الأتراك العاديين في حين أن الاقتصاد يتدهور في دوامة بفضل هروب رأس المال إلى الخارج. هل ستقرّ القيادة التركية بأن سياستها الخارجية في حقبة ما بعد الربيع العربي كانت مُدمِّرَة؟ الظاهر أن ذلك لن يحدث في أي وقت قريب.
إن الشرق الأوسط بحاجة إلى قيادة أميركية تتواصل مع اللاعبين الإقليميين الرئيسيين سعياً وراء إعادة تأهيل الاقتصاد وإطلاق مبادرات تجارية وترميم حياة الناس. والانحياز في المنافسات الجيوسياسية المحمومة في المنطقة سيؤدي إلى تدهور وضع خطير إلى ما هو أسوأ، الأمر الذي قد تدفع الولايات المتحدة كلفته بالأموال والأنفس.

علامَ تدلُّ الهجمات؟

إن الهجمات التي لا هوادة فيها ضد الأعضاء والمستشارين المُقتَرَحِين لإدارة ترامب وتلطيخ سمعتهم هي تكتيك ضغط تمارسه مؤسسة المحافظين الجدد في واشنطن، ومن ضمنهم المؤيدون المتشددون لسياسة خارجية تقوم على العَسكَرَة، لحَمْلِ الرئيس المنتخب على تعديل مسار سياسته الخارجية وتبني نبرة صقورية متشددة تستند إلى مبادئ تغيير الأنظمة والتي ستكلف الأميركيين أموالاً وأنفساً فضلاً عن الفوضى الإقليمية.
إن البيئة الجيوسياسية المُبَيَّنَة أعلاه تستدعي صياغة سياسة متعددة الأطراف. فالعمل العسكري لن يجلب حلاً للصورة المعقدة التي شرحناها أعلاه. إن إدارة ترامب القادمة لا تحتاج إلى رصد موارد باهظة الكلفة من أجل محور خاص بآسيا أو بأي جزء محدد من العالم، من دون الأخذ بنظر الاعتبار ما يترتب على ذلك من آثار على المصالح الأميركية بعيدة المدى. يتعين على أميركا أن تبحر في نظام عالمي ناشئ وأن تلعب دوراً حيوياً فيه عبر تحديد قواسم مشتركة مع غيرها من اللاعبين، على المستويين الإقليمي والدولي.
(هيئة تحرير مؤسسة «فورين بوليسي كونسبتس» للاستشارات في تورنتو، كندا)