حين يراقب ملايين المصريين عملتهم تتهاوى، إثر توقّف المصرف المركزي عن الدّفاع عنها، ويتحسّسون ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وأنّ القيمة الشرائية لرواتبهم وأصولهم قد بُترت بشكلٍ قاسٍ، قد يعتبر البعض (وهو محقّ) أنّ خفض قيمة العملة هو سياسةٌ تضرب معيشة الطبقات الفقيرة، وقد يستنتجون تالياً أنّ الدّفاع عن سعر الصّرف وربطه بالدولار ــــ كما كان الحال في السابق ــــ هو سياسةٌ أكثر «تقدميّة» وعدالة، وهنا الخطأ.
يعتبر علي القادري أنّ السؤال المركزي يبدأ في مكان آخر، يسبق الخيار بين تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار أو تركه حرّاً من دون تدخّل. وأن «اللعبة انتهت» فعلياً منذ أواخر السبعينيات، حين أطاعت الدولة العربية توصيات صندوق النقد واعتمدت سعر صرفٍ موحّدٍ للعملة يحدّده السوق، وأقرّت ــــ بالمثل ــــ معدّلاً واحداً للفائدة؛ فهي قد تخلّت هكذا عن قدرتها على إدارة الإقتصاد وتنميته، ومن هنا بدأ الخطب. حتّى أنّ الخيار بين الدّفاع عن العملة أو ترك السّوق يخفضها يصبح نافلاً بعد أن تخسر سيادتك الإقتصادية وتتحول الدّولة الى مجرّد مضاربٍ على النقد الوطني كأي مصرفٍ محليّ أو عالمي (أوردت اسم الكاتب في مقالٍ سابق، خطأ، «علي قدري» بسبب التهجئة الانكليزية للإسم، فوجب التصويب والإعتذار).

أن تسلّم المقود

يحاجج القادري بأنّه، في بلدٍ فقيرٍ خارجٍ من الإستعمار لا يملك قاعدة صناعية وتنقصه الرساميل ولا يوجد فيه طلبٌ مرتفعٌ ينشّط الاقتصاد، فإنّ التحكّم بالتجارة الدّوليّة وبالسّوق المالي، وتوجيه الاستهلاك والاستثمار بحسب الحاجات والمتطلّبات ووفقاً لخطط موضوعة، هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق التنمية، وللموازنة بين رفع الانتاج والطّلب في آن (أي توجيه رساميل صوب الإستثمار المجدي مع الحفاظ على مستوى معيشة الطبقة العاملة وحمايته من التضخم). عبر اعتماد أسعار صرفٍ مختلفة، واستخدام نسب متباينة للفائدة لتحفيز انماطٍ من الإستثمار وتثبيط أخرى، والتّحكّم بالاستهلاك والاستيراد ونزف العملة الصعبة، يصبح ممكناً أن تحافظ على أسعارٍ منخفضةٍ للغذاء والنّقل وحاجات الطبقة العاملة، بينما تمنع هروب الرساميل وتحويل الانتاج المحلّي الى سيّارات أجنبية أو حساباتٍ مصرفية في الخارج. حين قامت الدّولة العربية (تحت ضغط «إرشادات» صندوق النقد والبنك الدولي) بتحرير التجارة مع السوق الدولية، وتحرير صرف العملة وتوحيده (بمعنى أنّه صار في وسعك تحويل الجنيهات الى دولارات بسهولة، لأي سببٍ، وبسعر صرفٍ موحّد، واستيراد البضائع التي ترغبها، ايضاً بسعر الصرف ذاته)، انسحبت الدّولة العربية فعلياً من مجال الإقتصاد وانطلقت «الدورة النيوليبرالية».
«الدورة النيوليبرالية» هنا، كما جرت في الشرق وفي الغرب، هي بمعنى انتقال الثروة من مجمل المجتمع ومن القطاع العام وتركّزها في يد أقليّة وعلى شكل ثروات خاصّة. في مصر، يقول القادري، هبطت قيمة العمل والأجور بمعدّل الثلث كنسبةٍ من الثروة الوطنية (أي مقابل «أصول الأثرياء» وارباحهم، كالعقارات والاستثمارات المصرفية) خلال أقل من عقدين من «الإصلاحات». القادري يعتبر أن تعبير «إصلاحات» مخادع أصلاً، فالمنظمات الدولية وخبراؤها كانوا يعلمون جيّداً أنّ أنظمة على شاكلة حسني مبارك وعلي عبد الله صالح غير قادرة، بنيوياً، على إصلاح بلادها وتنميتها؛ ولكن تدمير القطاع العام ودمج دولنا في النمط النيوليبرالي (أي تسهيل النهب وهجرة الرساميل وتدوير الثروة لصالح الأثرياء) جرى خلف واجهة برّاقة اسمها الإصلاح والتحديث. على الرغم من أن كل المؤشرات الفعلية للتنمية، كانتاجية العمّال والطلب الداخلي والقاعدة الصناعية، انحدرت بوضوح طوال فترة «الإصلاح»، غير أن الاقتصاديين الدوليين كانوا يعزون الأمر لا الى انسحاب الدولة، بل الى تدخّلها، واستمرار الدعم على السلع الأساسية، وعملة وطنية قيمتها أكبر مما يجب أن تكون عليه.
هنا نعود الى موضوع سعر الصّرف. حين تحرّر الدولة التجارة الخارجية وسوق الصرف، يقول القادري، تتبقّى لديها أدواتٌ محدودة للغاية للتدخّل في السوق والتحكم بجريان الرساميل. كل ما يمكن للدولة العربية فعله، منذ الثمانينيات، هو أن تستخدم سعر الفائدة للحفاظ على الرساميل داخل البلد ومنعها من الهرب جماعياً وكسر الاقتصاد (ولكن من دون امكانية لتوجيهها)، وأن تلجأ الى الفائدة المغرية وضخّ السيولة من أجل الدفاع عن سعر العملة وإبقائها ثابتةً نسبة الى الدولار (كما كان الحال في مصر حتى أشهر قليلة). سياسة التثبيت هذه، يؤكّد علي القادري، ليست موجّهةً لخدمة مصالح الفقراء وقدرتهم الشرائية (وإن خفّفت عنهم، عرضاً، بعضاً من أثر تقلبات السوق)، ولا هي موجّهة، بالقطع، لتحفيز الاستثمار المنتج والتوظيف، بل هي أساساً تهدف الى الحفاظ على قيمة أصول الأثرياء (محليين وأجانب)، وتحديداً في سوق العقار. بمعنى أنّ من يشتري عقاراً فخماً في مصر يمكنه أن يضمن قيمته (لأن سعر صرف الجنيه أمام الدولار ثابت على المدى البعيد، والدولة تضمن ذلك) وأن يبيعه متى شاء ويحوّله الى دولاراتٍ يرسلها الى الخارج، محتفظاً بالأرباح لو ازدادت قيمة عقاره، فالعقار هو من الأصول التي تتأذى بشكلٍ كبير من انخفاض العملة المحلية (بتعابير أخرى، ما حصل في مصر هو أنه قد سُمح لقيمة العمل بالانخفاض، بينما تمّ الدفاع عن قيمة العقارات والحسابات المالية).

تنمية للأثرياء

على طول العقود الماضية، كانت قيمة مداخيل المصريين تنخفض، فيما أسعار الغذاء والمواد الأساسية ترتفع (أقله بسبب تطور سعرها العالمي)، ومستوى حياتهم ينهار فيما الدولة لا توجّه رساميلها القليلة للإستثمار، بل للحفاظ على «استقرار الإقتصاد الكلّي» وتأمين بيئةٍ مناسبة للأثرياء المحليين والأجانب لشراء الأصول المصرية وبناء «دريم لاند» ومراكز التسوّق. وما هبوط العملة المصرية مؤخّراً الّا حلقة في هذه السّلسلة، ونتيجة لعقودٍ طويلة من استنزاف الاقتصاد وهدر موارده. قدّم الاقتصادي الماركسي الهندي برابهات باتنايك رأياً مكمّلاً في مقال له عن البنى التحتية في العصر النيوليبرالي، نشرته هذا الأسبوع مجلة «مونثلي ريفيو». مثلما أن الأسعار والفائدة وقيمة العملة هي نتيجة قرارات سياسية في العمق، فإن الاستثمار في البنى التحتية هو ايضاً قرارٌ سياسيّ. في عصر النيوليبرالية، مع انسحاب الدولة من الاستثمار وتوجيه الاقتصاد، جرى الإعلاء من قيمة الانفاق على «البنى التحتية»، باعتباره استثماراً «محايداً» مرغوباً وايجابياً على الدّوام، حتى استبدلت البنى التحتية فكرة الاستثمار في الانتاج.
المشكلة، يكتب باتنايك، هي أنّ البنى التحتية ليست محايدةً بالمرّة. الإنفاق على مطارات واوتوسترادات ليس كالإنفاق على مدارس وطرق ريفية. وكما قال كارل ماركس عن القطار الذي بناه البريطانيون في الهند بأنه «من غير فائدة» للهنود العاديين (لأنه موجّهٌ لخدمة مصالح البريطانيين ودورة أعمالهم حصراً)، فإن أكثر البنى التحتية التي تموّلها الدولة الليبرالية هي من طبيعةٍ مماثلة. مع ظهور طبقة محظية في كلّ مجتمع جنوبيّ في العصر النيوليبرالي، تضمّ المستفيدين من الاقتصاد المعولم وايضاً شريحةً من الطبقة الوسطى مرتبطة بهم (القلّة التي تعمل لدى شركات أجنبية برواتب كبيرة، مثلاً، وموظّفو المنظمات الغربية، الخ)، تنتج هذه الفئة «حاجات» معيّنة للبنى التحتية. يزداد بشكلٍ كبيرٍ، مثلاً، عدد من يسافرون جواً في الهند (لأن عشرات ملايين الهنود صاروا يسافرون كالغربيين)، فتبني الدولة مطاراتٍ برّاقة بمقاييس عالمية. يزداد عدد السيارات لدى هذه الطبقة، فتبني الدولة طرقاً سريعة لخدمتهم. هذه البنى التحتية، كالسياسات المالية الليبرالية، هي جزءٌ من اقتصادٍ سياسيّ يخدم القلّة على حساب الأكثرية. على الهامش: يكتب تيموثي ميتشل عن عملية مشابهة حصلت في مصر في المجال الغذائي، حيث أدّى نشوء طبقة «معولمة» في البلد، وصعود أذواق وعادات جديدة في الطّعام تتطلب أكل اللحم يومياً، الى ارتفاعٍ هائل في استهلاك الحبوب، لأنها صارت تستخدم علفاً للحيوانات التي تؤمّن، بدورها، اللحوم للطبقة الوسطى. لم يعد الانتاج المحلي من الحبوب كافياً، بعد أن كان في مصر فائض لقرونٍ طويلة، وازداد الاستيراد بشكلٍ كبير، وارتفعت أسعار القمح على الجميع وخسرت مصر أمنها الغذائي حتّى يأكل أثرياء مصر الستيك والهامبرغر (اللحوم هي من أقل الوسائل فعالية لانتاج الغذاء، نظراً الى كمية الحبوب التي تحتاجها لإنتاج كيلوغرامٍ واحدٍ من اللحم، ولهذا السبب كانت الكثير من المجتمعات غير الرعوية، حتى عقودٍ قليلة، تعتبر أنه من الطبيعي ــــ حتى ولو كنت موسراً ــــ أن تستهلك اللحم مرّة في الأسبوع أو أقل).

خاتمة

حين نتكلّم على أنّ الأسعار في الاقتصاد «مركّبة» وليست طبيعيّة، أو أنّ قيمة العملة، في جزءٍ أساسيّ منها، هو «وهمٌ» تقرّره السياسة قبل السوق، فالهدف هو ليس الوصول الى خلاصات «ما بعد حداثية»، بل بيان أنّ أمام الشعوب خيارات في بناء معاشها، بعيداً عن «قوانين» النظرية الكلاسيكية وقناعات الاقتصاديين النيوليبراليين. بالمثل، حين نتكلّم على الدّولة كراعٍ للهيمنة وكحاجزٍ أمام التنمية، فإنّ الهدف هو ليس الوصول الى خلاصات «فوضوية» تدعو الى حلّ الدولة الحديثة، أو تحاجج بعدم ضرورتها. في الحقيقة، كما يؤكّد علي القادري، فإنّ الدولة في بلدٍ فقيرٍ كبلادنا، هي العامل الوحيد القادر على حشد رساميل استثمارية وتوجيهها، وتوفير السيولة والقروض بشكلٍ دائمٍ حيث يجب، وتشكيل ضمانةٍ للمصارف والمستثمرين على المدى الطويل؛ والموازنة، في الوقت ذاته، بين هذه الضرورات وبين حاجات الطبقة العاملة، والمحافظة على مستوى معيشتها وعزلها عن عاديات السوق (هذه المهمّات، كلّها، لا يمكن للقطاع الخاصّ تنفيذها).
المشكلة بعد كلّ ما جرى على بلادنا في السنوات الماضية، وهذا ينطبق على مصر كما ينطبق على لبنان والعراق وغيرهما، هي أنّ مستوى النهب والإفقار الذي حصل يعني أنّه لم يعد يكفي اليوم أن «تعيد توجيه» السياسات، وتأخذ قرارات استثمارية صحيحة، وتعدّل أسعار الصرف والفائدة، وتضع الأمور «على الطريق القويم». حجّة علي القادري هي أنّ الطبقات العاملة العربية لا يمكنها أن تتعافى الّا بعد سياساتٍ راديكالية لإعادة التوزيع، وأن الثورة والأصول في المجتمع قد تركّزت الى درجة أنّه لا يمكن تسيير الاقتصاد من دون «تحريرها» (عبر التأميم أو المصادرة أو غير ذلك)، أي أن يستعيد الشعب بعضاً مما سرق منه. لهذا السبب لا يوجد اليوم حلٌّ سهلٌ أو تدرّجي؛ وإن كان البعض يستذكر مجدداً شعار «الاشتراكية أو البربريّة»، نظراً الى ما تفعله الليبرالية المعاصرة بالمجتمعات، فإنّ العودة الى العدالة، في حدّ ذاتها، قد لا يمكن أن تتحقّق من دون قدرٍ معتبر من البربرية والعنف.