«يمكن ألا نفكر في المستقبل، لأننا قد نخطئ في تصوراتنا عنه»، هكذا يقول الفكر الوضعي. فيمكن للمستقبل أن يشوش أية خرائط، ويجبر أية بوصلة على التذبذب فهو سيأتي بصورة حتمية وحازمة. إنه يولد ككل شيء حي بأكثر الأساليب قسوة وقوة، وعلى حين غرة.
غير أن العمل الفكري الحي والواجب، هو دراسة الحاضر، والتعاطي مع الواقع عبر الإحصائيات، وحساب العوامل الجديدة وتحليل النزعات التي تظهر، وتبيان نتائج القوى على الساحة العالمية، فذلك هوما يؤمن الطريق نحو المناقشة العقلانية لخارطة النظام الدولي القائم.
إن قراءة النظام العالمي ليست فقط في تجميع الحقائق والأرقام والإحصائيات، وإنما باختيار الظواهر ذات الدلالات الأشد تأثيراً، وتحديد ما هو سائد ويحتل المرتبة الأولى في تحديد معايير القوة الدولية.

معايير القوة الدولية:

تقوم قوة الدول اليوم على أساس ما يمكن تسميته «الحيتان الأربعة»: السيادة الاقتصادية والقوة العسكرية والفاعلية السياسية بالإضافة إلى التفوق العلمي ــ الثقافي. وقليلة هي البلدان التي استطاعت أن تلبي هذه الشروط في التاريخ العالمي. ففي أوروبا عام 1500، يمكن القول إن البرتغال حققت ثلث هذه الشروط إلى حد ما، وبعد نصف قرن من ذلك حققتها إسبانيا وحوالي عام 1620 حققتها هولندا، أما فرنسا فقد تمكنت من تحقيق هذه الشروط في كل من عامي 1690 و1810، في حين حققت بريطانيا ذلك بين أعوام 1890-1815، وقد حاولت المانيا مرتين الوصول إلى الزعامة الدولية في القرن العشرين لكن دون نجاح. وتشكل الولايات المتحدة الاميركية حالة خاصة إذ تمكنت بعد الحربين العالميتين والحرب الباردة من الوصول الى وضعية الزعامة العالمية بثقة كبيرة بفضل الحجم العملاق لاقتصادها وفاعلية أسواق رأسمالها وهيمنتها الإعلامية والتكنولوجية.

الهيمنة الدولية للولايات المتحدة إقتصادياً

يقوم النظام العالمي الاقتصادي اليوم على ثلاثة مراكز قوى رئيسية: أميركا الشمالية (الولايات المتحدة خصوصاً) ــ أوروبا الغربية ــ وجنوب شرق أسيا (الصين واليابان خصوصاً). وبرغم المنافسة الاقتصادية الشديدة، تبقى الولايات المتحدة العملاق الاقتصادي الأكبر بناتجها الإجمالي المحلي البالغ نحو 17،968 تريليون دولار وبمعدل نمو للناتج المحلي بلغ 2،6%، ولتأتي الصين في المرتبة الثانية حيث بلغ ناتجها الإجمالي المحلي نحو 11.385 تريليون دولار بمعدل نمو 6،8% تليها اليابان في المرتبة الثالثة بناتج إجمالي محلي يبلغ 4،116 تريليون دولار.

تمتلك
الولايات المتحدة اليوم نحو 10000 جامعة ومعهد بحث علمي

والمنافسة الاقتصادية لا تتحدد فقط من خلال مقادير النواتج الاجمالية المحلية، بل هناك معيار أساسي آخر، هو توزع الناتج المحلي على الأفراد فبينما يبلغ نصيب الفرد بأميركا حوالي 56152 دولارا، فنجد أنه في الصين لا يتجاوز 8126 دولارا.
إن الولايات المتحدة الأميركية لا تملك أقوى اقتصاد في العالم فقط، وإنما الأكثر فاعلية. فقد عزز النهوض المستمر رغم الازمات الوضع السيادي للاقتصاد الأميركي في عمليات التبادل العالمية والمؤسسات المالية و قيادة الاقتصاد الدولي. يخلف الاقتصاد الأميركي إلى اليوم المنافسين المحتملين وراءه بمسافة كبيرة وتفوقها الاقتصادي يعد مقنعا بشكل كاف.

معيار القوة العسكرية ــ التكنولوجية

تقوم قوة الولايات المتحدة اليوم على قاعدة عسكرية هائلة لم يضعفها انتهاء الحرب الباردة والمحادثات عن «فوائد السلام». والمبالغ الطائلة التي تستمر واشنطن بإنفاقها على الحاجات العسكرية الضعيفة الأثر في ظل الاقتصاد النامي والجبار. فالصناعة العسكرية التي استندت إلى عشرات السنين من الميزانيات الحربية السخية، تتفوق من دون أدنى شك على الصناعات العسكرية في أي بلد آخر، ويمكن في هذا الإطار مراجعة الانفاق العسكري الأميركي ومقارنته ببقية الدول.
فنجد أن ميزانية القوات المسلحة الاميركية تتبلغ حوالي 597،5 تريليون دولار، لتليها الصين بانفاق عسكري يبلغ 145،8 تريليون دولار، أما روسيا فتأتي في المرتبة السابعة نفقة تبلغ حوالي 42،8 تريليون دولار، بحسب قائمة المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية.
مع ملاحظة أن النفقة العسكرية الأميركية الضخمة لا تشكل عبئاً حقيقياً على الاقتصاد، فحجم التصدير العسكري الأميركي يفوق التصدير العسكري لجميع الدول الاخرى التي تصدر الاسلحة مجتمعة، وحجم المبيعات السنوية من الأسلحة الأميركية اليوم يبلغ حوالي 50% من كل التجارة العالمية مقارنة بـ7،26% في السنوات العشرين السابقة. وذلك ما يجعل الولايات المتحدة أكبر منتج وتاجر سلاح في العالم. وكما يقول بريجنسكي «أية محاولة اليوم لمنافسة الولايات المتحدة عسكرياً ميؤوس منها... ولذلك السبب لا أحد يحاول ذلك»، فخلال الألف سنة الأخيرة لم يكن هناك أبداً فارق ضخم لهذه الدرجة في المجال العسكري بين الدولة رقم 1 والدولة رقم 2 في العالم. فبأكثر من 395 قاعدة عسكرية ضخمة وأكثر من 500 قاعدة عسكرية صغيرة في أكثر من 35 دولة وبأساطيلها البحرية السبعة، تفرض الولايات المتحدة اليوم مراقبة إقليمية في جميع الأقاليم المفتاحية على مستوى العالم.
وبالنسبة للفاعلية السياسية وبحسب التعريف المقدم من الرئيس كلينتون فإن «الدبلوماسية والقوة العسكرية تعتبران وجهين لعملة واحدة»، وفعلاً الولايات المتحدة تعد اليوم اللاعب الانشط سياسياً على الساحة الدولية فهي البلد الوحيد في العالم الذي يسهم إيجابياً في جميع المسائل والصراعات العالمية من دون استثناء (وإيجابي هنا تعني: الدور الفاعل والملموس ــ وليس حكم قيمة). فلا وجود لمسألة يمكن تسميتها بأنها «خارج مجال اختصاص الديبلوماسية الاميركية»، عبر جيوش سفاراتها ودبلوماسييها (الدولة الأولى عالمياً من حيث ضخامة سفاراتها) ومساهماتها المالية الضخمة في جميع المؤسسات الدولية (فهي المساهم الأكبر في كل من هيئة الامم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد). كل ذلك يجعلها تمتلك قوة ونفوذا سياسيين ليس لهما أي منافس.
عدد الأوراق البحثية والعلمية وبراءات الاختراع التي تنشرها الولايات المتحدة سنوياً يبلغ حوالي 310206 أبحاث وبراءات اختراع، لتليها الصين مباشرة بما يقارب 142645 بحثا وبراءة اختراع، أي أقل من النصف. فالولايات المتحدة تمتلك اليوم ما يقارب 10000 جامعة ومعهد بحث علمي، والعالم كله لديه 7768 جامعة . ذلك ما يمهد لأميركا اليوم هيمنة علمية وتكنولوجية ريادية في جميع المجالات الحساسة والتقنية مضافاً إليها هيمنتها الثقافية والايديولوجية ورواج نمط الحياة الاميركي و«الاستعمار المطبخي» الذي تحدث عنه صامويل هنتنغتون عدا عن امبراطوريات الاعلام وشركات الانترنت العملاقة.
إذا كان من «الخطأ» التفكير في المستقبل، فإن عدم التمكن من قراءة الواقع الحالي جريمة. فعالم القرن الواحد والعشرين يخفي الكثير من الخبايا التي يعني عدم قراءتها، الوقوع ضحية الاحداث المتطورة.
*كاتب سوري