يقوم الجيش اللبناني منذ فترة ببناء جدار اسمنتي حول مخيم عين الحلوة، وبصرف النظر عن جدوى ومبررات هذا الجدار لا يختلف اثنان على أنه يمثل ثقافة عنصرية إقصائية قائمة على الشك والخوف والعزل.
وهو نقيض ثقافة الجسور التي تقوم على الثقة والحقوق والانفتاح. وفي القرن الواحد والعشرين تمثل إسرائيل ثقافة الجدران بوصفها دولة لليهود فقط وتعزل مواطنيها عن الفلسطينيين. وإن وجود هذا الجدار حول مخيّم عين الحلوة يبرّر سلوك إسرائيل العنصري والعدواني تجاه الفلسطينيين ويدعمه.
شهد لبنان خلال الأسبوع الماضي سجالاً حول الجدار وتناوله كثير من الأقلام العربية والغربية بكثير من النقد، ما دفع الجيش اللبناني لإيقاف العمل فيه لإعادة النظر بوجوده. فاجأتنا أمس محطة LBC بإعادة طرح موضوع الجدار بقساوة ضمن برنامج «بسمات وطن» من خلال أغنية هزلية بعنوان «جدارك عين الحلوة». تؤشر الأغنية إلى مستوى عنصري غير مسبوق تجاه الفلسطينيين. فبعيداً عن كلماتها الهابطة والتافهة، أظهر مخرج البرنامج شربل خليل جهله الكبير بقضية فلسطين وبالمخيمات. في الأغنية الكثير من الإسفاف والتطاول والتجاوزات: أولها تبرير بناء الجدار، وثانيها إهانة المدافعين عن حقوق الإنسان، وثالثها منسوب عنصري يتمثل بالأحكام الجمعية المسبقة على اللاجئين الفلسطينيين بوصفهم يؤوون الإرهاب.
تبدأ الأغنية بالدفاع عن إقامة الجدار تحت ذريعة حماية البلد من الإرهاب: «جدارك عين الحلوة واقف ورح يبقى عايش - ت يحمينا من بلوة - اسمها إرهاب وداعش». في المقطع الثاني يتطاول المخرج على المدافعين عن حقوق الإنسان بكيل الإهانات لكلّ من يناهض وجود الجدار ويطالب بإزالته فيقول: «انت ياللي قايم ضدو - وطالب الدولة تهدو - افهم نتفه وبوزك سدو».
ثم يتناول المقطع الثالث جمهور اللاجئين في مخيم عين الحلوة ويصمهم بالإرهاب كون مخيمهم لا يصدر إلا المتفجرات على حد زعمه: «عين الحلوة ما بتدمع - الا تي ان تي وسي فور».

المخيم مفتوح على جواره اللبناني بكل ما للكلمة من معنى

ثم يعود المقطع الرابع والأخير للطلب بوقاحة بتصوين المخيم من كل الجهات من دون أن يكون في ذلك أي عيب أو عار: «منصونها tout autour - لا عنصرية ولا عار - وبكرا ان طلع انفجار- شو رح بتبرر يا حمار». وتخلص الأغنية إلى أن في ذلك حماية للبنانيين والفلسطينيين على حدٍّ سواء: «يا اخواتنا اللي بالعين - حلوتكن باقية حرة - الجدار تا يحمي الميلين - اللي جوا واللي برا».
إن وجود جدار حول المخيم هو عقاب جماعي لأكثر من 80 ألف فلسطيني يعيشون خلف هذا الجدار والذين من بينهم مثقفون وفنانون ومعلمون وأطباء ولبنانيون وسوريون وهم بأمسّ الحاجة إلى مساحة من الحقوق المدنية التي تحرمهم منها القوانين اللبنانية التمييزية.
وهذا الجدار لن يعزّز الأمن بل سيزيد المخاوف ويعمّق الغربة ويضاعف البؤس والحرمان لقاطني المخيم. وهو غير مقبول إنسانياً ولا أخلاقياً ولا قانونياً حسب المعايير المحلية والدولية. وهو عار على لبنان. من جهة ثانية لا يعكس هذا الجدار واقع العلاقات اللبنانية ــ الفلسطينية اليوم، فالمخيم مفتوح على جواره اللبناني بكل ما للكلمة من معنى يتفاعل معه ويؤثر ويتأثر فيه. فإضافة إلى علاقات المصاهرة بين الشعبين اللبناني والفلسطيني وعن دور اللاجئين الفلسطينيين في الدورة الاقتصادية لمدينة صيدا والجوار، شهدت العلاقات الفلسطينية ــ اللبنانية مؤخراً تنسيقاً وتعاوناً أمنياً ساهم في حلّ كثير من المعضلات في المنطقة وعلى الساحة الداخلية اللبنانية.
إن لهذه الأغنية مدلولات عنصرية بمنسوب عال يتنافى مع مفهوم الأمن وبناء الثقة التي يسعى الفلسطينيون واللبنانيون لبنائها. كما ترشح عن جهل المخرج بأنّ الدواعش لا يصنعون في المخيمات ولا هم متغلغلون فيها. فمخيم عين الحلوة كسائر مخيمات الجنوب محاط بحواجز للجيش اللبناني من كل جهة وتقوم هذه الحواجز بإجراءات أمنية مشددة، إذ تخضع الداخلين والخارجين من والى المخيم لعملية تفتيش مركزة، ناهيك عن كاميرات المراقبة التي تعمل على مدار الساعة. إن الادعاء الدائم بدخول أو وجود مجموعات إرهابية في المخيم هو بحد ذاته اتهام لمؤسسة الجيش بالتواطؤ مع هذه المجموعات في الوقت الذي يبذل فيه الجيش جهداً مضاعفاً لاستئصال هذه الظاهرة وحماية الوطن من خطرها. ولو تبنينا أفكار المخرج خليل العنصرية لَبات من المبرر بناء جدار حول بلدة عرسال التي يحتل الدواعش قسماً منها ولا زالوا يحتجزون عناصر من الجيش اللبناني فيها.
جاءت ردة الفعل الأولى المستنكرة والمستهجنة للأغنية من داخل مخيم عين الحلوة، إذ عبّر اللاجئون عن استيائهم واحتجاجهم عليها. وكما كان لفعاليات مدينة صيدا دور في رفض بناء الجدار حول المخيم ينبغي أن يكون لهم دور موازٍ اليوم في مطالبة المحطة بالاعتذار للفلسطينيين.
تؤشر برامج «الكوميديا» المنحطة هذه إلى مستوى عال من العنصرية لدى شريحة صغيرة من اللبنانيين. المؤسف أن غياب الرقابة عنها والسماح ببثها خطير جداً لأنه يتخذ من الاستهانة بكرامات الناس والمس بحقوقهم مادة وموضوعاً للضحك. ومن جهة ثانية يروج لثقافة عنصرية بين جيل الشباب، وبالتالي فإنّ الدولة اللبنانية مطالبة اليوم بإقامة جدران حول هذه الشريحة من اللبنانيين التي تنضح قلوبهم عنصرية، وتفعيل الرقابة الأخلاقية على برامجهم الهابطة التي تشيع جواً من العنصرية مما يسيء إلى وجه وسمعة لبنان الحضارية.
وفي النهاية أعتذر من الحمار الحقيقي لأنه يستطيع تمييز الجدار ويدرك بسهولة أنه يشكّل عائقاً في دربه.
* كاتب فلسطيني