لم تكن دموية الشهر الماضي عربياً ككل شهورنا المطليّة بلون دمنا ورائحة رصاصنا وبريق نصالنا، كان يُفترض بتشرين الثاني أن يظل شهراً نستذكر عبره نفحات مولانا عز الدين القسام الذي قضى شهيداً برصاص الغدر الإنكليزي/ الصهيوني قبل 86 عاماً، فإذا بفقه التوحّش ينسينا القسّام ورصاصه الطاهر في يعبد، ويحوّله إلى مأتم مفجع حينما أوغل مع ذكراه بدم ثلاثة من أهل العلم والرأي، أحدهم ربما قضى، يا للحسرة، في ظل حراب تحمل مسمّاه.
فقه الذبح على خلفية الاختلاف في الرأي، فقه تمتد جذوره في عمق تراثنا، ويتم استحضارها وفق متطلبات الصراعات السياسية الآثمة، وفتاوى الفقه الشاذة جاهزة لتطغى على أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وزيد وجعفر والليث وكل مذاهب الأمة الفقهية والعقدية، فقد أصبح لفقه التوحش دول وكيانات بمسميات تتصارع على استقطاب جمهور ساذج لا يملك أخذ دينه من كلام الله المحكم الذي لم يفرّط بشيء، ولا من سيرة النبوة التي خلّدت للبشرية نموذجاً للتسامح والشرف الإنساني لم يكن له نظير.
عندما يخضع العقل المتديّن لسدنة الكهان (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) وتستقر الكهانة في وسط متوحّش يتخبط بأمراض نفسية وعقد تاريخية، فكل كلام عن الموعظة الحسنة، والرحمة المهداة، و»اذهبوا فأنتم الطلقاء»، يصبح مدعاة للسخرية، فلا صوت يعلو فوق صوت نبيّ الملحمة الضحوك القتّال، المبعوث بالسيف نقمة للعالمين، يا لسخرية حالنا.
من غزة إلى ليبيا، مروراً بسيناء، كانت الفاجعة تنقلنا إلى عالم حالك بالظلام. شيخ ضرير تجاوز عمره قرناً من الزمان، يرى فيه المستضعفون والمساكين وعامة الناس مصدراً للبركة الإنسانية بأذكاره وزهده وتحنانه عليهم في مآسيهم المتجددة، وهو يمدّهم بالصبر والعزيمة، وينفث في روعهم قبساً من الوعي في اعتزال الفتن التي يديرها الإسرائيلي والأميركي لتقسيم أوطاننا وأمتنا بغية إضاعة حقنا المغصوب في القدس.
كان فقه التوحش ينفث سمومه وأحقاده متجاوزاً كل الحدود، يتحرك في فلسطين وحولها، ولا يجد خطراً يحدق بأساساته ومروياته إلّا عذابات من التاريخ تناقلها قلم مثقال السالمي، الشاب الوديع المفعم بحب بآل البيت، من دون أن يقوده هذا الحب لأيّ بغض في التاريخ أو الحاضر، إنما هي رؤية خارج مألوف سرب التمذهب، أصاب فيها أو أخطأ، فإذا بفقه التوحّش لا يرى ما يتصدّر أولوياته إلّا بضعة أسطر صاغتها أنامل شيخ الإسلام تستذكر فعل السلف بحق غيلان والجهم والجعد، حينما جهروا بما رأوه من عقيدة في علم الكلام والحرّية القدرية، أصابوا فيها أو أخطأوا، ليتوّج قاتليهم باعتبارهم خير سلف قمعوا نصال البدعة.
أن يذبح السفاح خالد القسري، الجعد بن درهم كأضحية على عتبة منبر مسجد البصرة يوم العيد، صار معياراً لنقاء العقيدة السلفية، وأن يقطّع هشام بن عبد الملك أوصال غيلان الدمشقي لأنه يرفض أن يرد أفعال الظلم إلى الله، بل إلى شياطينها، اعتبره وعّاظ السلاطين سُنّة الخلفاء المهديين، وأن يقتل الحجاج الجهم بن صفوان لأنه طالب بالشورى ورفض استبداد عبد الملك، أفتى به شيخ التوحّش كعلامة صدق على صفاء العقيدة وصلاح الفقه.

أزمتنا تكمن في صمت العلماء وجمهور المتدينين الطيبين إزاء عمليات الذبح اليومية باسم الدين

صار القسام قريب العهد مجرد ذكرى وإن بقي المسمى، واستجلبت سُنّة القسري في ذبح الأضاحي البشرية قبل أكثر من ألف عام ونيّف لتكون النموذج، أمّا سيف علي في خيبر، فهو شبهة في العقيدة وخصوصاً إذا صقله حداد كسلمان الفارسي عبَرَ الحدود زحفاً نحو حياض خيبر المعاصرة.
ثلاث عمليات للقتل على الرأي المخالف للسلفية المعاصرة، فتحت جرح ثلاثة عبرت في عمق التاريخ، لم يجد فقه التوحّش تهمة الرفض والتشيّع ليلصقها بحق نادر العمراني، الأمين العام لهيئة علماء ليبيا، كما ألصقها منذ سنوات بحق الفقيه أحمد القيسي الحنفي، العراقي الذي تم تعذيبه حتى فقد عقله، ليتم إعدامه بتهمة الانتماء لـ(الحشد الرافضي) وهو المعارض السنّي المعروف للحكومة العراقية، فليبيا ليس فيها أيّ أثر شيعيّ، فتم دفنه بعد تطريز جسده بالرصاص بتهمة معاداة السلفية، ولربما معاداة السامية الجديدة.
وكذلك مولانا الشيخ الضرير سليمان أبو حراز، صاحب الطريقة الصوفية المعروفة في سيناء، وقد تجاوز عمره مئة عام، لم يجدوا تهمة لذبحه بالسيف إلّا اعتباره كاهناً! هكذا صار كاهناً لمجرد تعلّق الفقراء به وسكينتهم بين يديه، فاعتبروه مرتداً حلال الدم، ولو كان كافراً كفراً أصليّاً ما حلّ دمه! هكذا أفتاهم ابن تيمية منذ ستة قرون خلت، فالشيخ الضرير إذا نطق الشهادتين وطبّق شعائرهما ولكنه ابتعد عن الشريعة فصار دمه مباحاً. وعليه؛ فمن يأبى بيعة البغدادي فهو ناقض لأصل من أصول الشريعة يستحق عليها الذبح.
لا تكمن أزمتنا في سكاكين الذبح الداعشية وهي تقطع كل أمل لنا في النهضة والانبعاث الحضاري على هدي الرازي وابن سينا وابن حيّان وابن النفيس، فهؤلاء وفق ماكينة الفرز العقدية مبتدعة ملاحدة زنادقة، أزمتنا تكمن في عقلية التعبّد بالموروث البشري باعتباره ديناً أصيلاً يحرم النظر في أساساته أو حتى بعض مروياته وأحداثه، فمن نحن أمام علم السابقين من السلف الصالح لنزايد على ما أبدعوه لهم ولنا إلى يوم الدين؟ وأحداث التاريخ طهّر الله أيدينا من دمائها فلنطهّر ألسنتنا من إثم بحثها! ولكن عندما يستحضر فقه التوحّش روايات الذبح وأحداث الفتك بالمفكرين وأهل الرأي في العصر الأموي يصبح تاريخنا فعلاً مقدساً للسلف يجب الاقتداء بتفاصيله الدموية من دون تردد.
أزمتنا الراهنة تكمن في صمت العلماء العاملين وجمهور المتدينين الطيبين إزاء عمليات الذبح اليومية باسم الدين، والهروب إلى مربعات أخرى لتبرير الجريمة المتجددة بحق الدين وأهله، بما يجعل هكذا صمت في ظل جعجعة وتخريصات تجاه وسط آخر بما يخدم العار الخليجي الفاضح، يخرج إلى دائرة الاسترخاء بل التأييد المبطن وإن تخللته بيانات يتيمة تدين الذبح والاغتيال بصوت فاتر يدافع عن التراث ويحصر الإجرام بالفعل السياسي دون خلفياته التراثية العقدية.
لن يقف مسلسل الذبح على خلفية الرأي المخالف عند ثلاثة هذا الشهر، وهو يزحف كالوحش المتغوّل منذ سفك دم البوطي والنمر والقيسي، وربما يسفك دماء ذات الهيئات العلمائية التي صمتت وتشفّت ورضيت من طرف خفيّ، فقانون الإجرام لا يرحم أحداً ولن يستثني أحداً، إلّا أن يتحرك هذا العالم بخيره وشرّه ليخنق التنين في مهاده، وليت الخير يسبق حصريّاً ليبعث نهضتنا على أطلال الذبح ومؤامرات تفعيله لتأخذ الأمة أمرها بيدها ولا تبقى عاجزة عن معالجة شرورها إلا بسيف أعدائها.
*كاتب وباحث فلسطيني