في أحيان كثيرة يُصنَّف من ينتقد المعارضة بأنه في خانة النظام أو من المدافعين عنه. وتُطاول تلك التهم وغيرها، معارضين يعملون على إعمال مبضع النقد والنقد الذاتي بغرض الارتقاء بآليات اشتغال المعارضة وأشكال تفكيرها. هذا في وقت تدفع فيه أطراف معارضة لتجريم النظام السوري وحلفائه، من دون النظر إلى ما تعاني منه هي من إشكاليات تصل في كثير من اللحظات إلى عتبة التناقضات البنيوية.
ونتساءل: ألا يُسهم تغييب النقد والنقد الذاتي في عرقلة استنهاض تيار وطني ديموقراطي؟ ألم يكن لذلك دور في مآلات أوضاعنا السياسية، وأوضاع الفصائل، السياسية منها والمقاتلة؟ أليس لذلك علاقة بأشكال تفكيرنا الرائجة؟ يضاف إلى ذلك آليات اشتغال النظام السياسية والأمنية التي أسهمت بتجفيف منابع العمل السياسي.
ومعلوم أن الطيف المعارض بتصنيفاته المختلفة، يعاني من إشكاليات وتناقضات تحدّ من انفتاح علاقاته البينية. ما يفاقم من تناقضات المعارضة الذاتية، وانعكاساتها السلبية على طبيعة علاقتها بالسوريين، وعلى كيفية التعبير عن أهدافها.
بات واضحاً أن بعضاً من مكونات المعارضة السورية يعاني من أزمة مركبة، تتجلى حالياً بالتشظي، وفقدان الهوية السورية. فتحالفاتها تفرض عليها، أما قراراتها فإنها تفتقر في لحظات كثيرة إلى البوصلة الوطنية. فـ«الثورة السورية» تجزأت لدرجة فقدت أية روابط لها عضوية بالسوريين. مع ذلك، ما زالت أطراف الصراع «الثورية» وقلة من السوريين يراهنون على إمكانية إسقاط النظام بالقوة العسكرية كمدخل إلى تمكين نظام آخر ديموقراطي، متجاهلين مخاطر الخيار العسكري والتحولات والمشاريع الخارجية. بالمقابل، إن فئات واسعة من السوريين المتضررين من السلطة وتداعيات الصراع، ترى أن المدخل إلى تمكين نظام حكم ديموقراطي بديل يحتاج إلى بناء تيار وطني ديموقراطي. ويرى هؤلاء وغيرهم، أن مكونات التيار المذكور موجودة بالقوة، والمطلوب نقلها إلى دائرة الفعل. وتحقيق ذلك يحتاج إلى اشتغال الوطنيين الديموقراطيين على بلورة ذاتهم في إطار سياسي جامع يحافظ على التمايز بين مكوناته المعبرة عن القاع الشعبي.

يحتاج النهوض بتيار وطني ديموقراطي إلى تحديد الأهداف وآليات الاشتغال


إن تشكيل تيار سياسي وطني ديموقراطي سيشكل إضافة نوعية، ويعزز من صدقية مقاصد المعارضة السورية إزاء السوريين والعالم، حتى لو لم تكن المعطيات الراهنة تسمح بتغير موازين القوى. ومن الملاحظ أن عدم تشكيل قطب وطني ديموقراطي ملتصق بقضايا السوريين فاقم من درجة التلاعب بأطراف المعارضة التي تحوَّل كثير منها إلى أدوات وظيفة، ما انعكس كارثياً على أوضاع السوريين، وعلى جوهر الثورة السورية وسياقات تحولاتها الرئيسية منها واليومية.
إن المآلات التي وصلت إليها الثورة السورية، واستحالة حسم الصراع عسكرياً، وارتباطها بآليات تفاوضية خاضعة لتجاذبات قوى دولية وإقليمية متباينة إن لم تكن متناقضة، تتطلب إجراء مراجعة نقدية لمسار تحول الثورة السورية إلى أزمة وطنية، وإلى كيفية استنهاض أهدافها المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، وربطها بحواملها الشعبية الحقيقية، لإعادة جبر العلاقة بين التيارات المعارضة المشكلة للتيار الوطني الديموقراطي والسوريين المضطهدين والمقموعين المتمسكين بضرورة التغيير السياسي الوطني الديموقراطي. ومن البداهة أن ذلك يحتاج لاستبدال الارتهان لهذه الدولة أو تلك، بالمشروعية المستمدة من السوريين.
يحتاج النهوض بتيار وطني ديموقراطي إلى: تحديد الأهداف وآليات الاشتغال من منظور حقوق السوريين ومصالحهم الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأيضاً تحديد طبيعة الدولة والحكم، والتمسك بآليات وأدوات ديمقراطية تسمح بالانتقال إلى نظام آخر ديموقراطي.
الابتعاد عن الرؤى الرغبوية والادعاءات الأيديولوجية، وربط المشروع السياسي لسوريا المستقبل بالأوضاع الموضوعة العامة الخارجية الإقليمية والدولية، والداخلية «مجتمع، طبيعة الدولة ونظام الحكم، قوى معارضة سياسية ومسلحة».
كذلك، إن بناء إطار سياسي تشاركي يعتمد آليات اشتغال تكاملية هدفها تمكين التغيير الوطني الديموقراطي، يحتاج إلى القطع مع مفاهيم وآليات الإقصاء ولغة الاحتكار والوصاية والقيادة الطليعية. ووضع الأسس اللازمة لتجاوز العصبيات الهوياتية والأطر الأيديولوجية المنمطة الدينية المتمذهبة والإثنية والعرقية والجهوية. ما يعني تجسيد الوعي الديموقراطي والممارسة الديموقراطية. واعتماد أفكار تجيب عن أسئلة الواقع بعيداً عن الحسابات الفصائلية والشخصانية الآنية. وجميعها بحاجة إلى بلورة دور السوريين وتعزيزه.
*كاتب وباحث سوري