بعد ساعات على توقيع السيد مسعود البارزاني قراره تنظيم استفتاء شعبي لتقرير مصير إقليم كردستان ـ العراق، بمحافظاته الثلاث، إضافة إلى المناطق غير التابعة للإقليم، ومنها محافظة كركوك النفطية وقضاءا سنجار وخانقين، جاءت ردود الفعل الدولية سريعة وسلبية: فالولايات المتحدة، الحليف الرئيس للزعامات القومية الكردية، قالت إنها تقدّر التطلعات الكردية لإجراء الاستفتاء، ولكنها تخشى أن يؤدي الاستفتاء الموعود إلى تشتيت الاهتمام بالحرب ضد إرهاب «داعش»، ولذلك فهي تدعو القيادات الكردية إلى الحوار مع بغداد لحلّ المشاكل العالقة.
ويُفهم من الردّ الأميركي، أن واشنطن تقدّر تطلعات الزعامات الكردية الإقطاعية لانفصال الإقليم ولكن ليس الآن! أما روسيا الاتحادية، فموقفها كان أكثر وضوحاً، حيث رفضت إجراء الاستفتاء وأعلنت صراحة أنها تقف مع وحدة واستقرار العراق. ألمانيا بدورها حذّرت الزعامات الكردية من إجراء الاستفتاء لأنه «سيؤجّج التوترات في المنطقة لأنه من طرف واحد». ومن تركيا جاء موقف أشد حزماً اعتبر إجراء الاستفتاء «خطأ جسيماً تقوم به القيادات الكردية». وأخيراً فقد جاء الموقف الإيراني متأخراً زمنياً بعض الشيء، ولكنه كان واضحاً في رفضه لمشروع الاستفتاء، حيث قالت الخارجية الإيرانية «إن إقليم كردستان جزء من العراق الاتحادي، وإن القرارات المنفردة والبعيدة عن المعايير والأطر الوطنية والشرعية، والتي تُتخذ في الظروف المعقدة الحالية التي يمرّ بها العراق والمنطقة، سوف تؤدي إلى المزيد من المشاكل وتفاقم الأوضاع الأمنية في العراق».
وضمن ردود الفعل، أكدت تقارير صحافية أن الدولتين اللتين تؤيدان إجراء استفتاء الاستقلال في إقليم كردستان شمالي العراق، هما إسرائيل عبر بيانات وتصريحات رسمية كثيرة معلنة واستعداد معلن للاعتراف بالدولة الكردية، ودولة الإمارات العربية المتحدة التي أبدت استعدادها لتمويل مشروع الاستفتاء مالياً وفق تسريبات لقيادات كردية معارضة للبارزاني كما ورد في تلك التقارير. تقارير صحافية أخرى نشرتها الصحافة العراقية، أكدت تلقّي البارزاني دعماً من الحكومتين السعودية والأردنية لتنفيذ مشروع انفصال إقليم كردستان عن العراق مقابل السماح لهما بإنشاء قواعد عسكرية في محافظتي أربيل ودهوك، سعياً لتشكيل قوة موازية لإيران وتركيا في المنطقة، ولا يبدو أن هذه التقارير تتمتع بالصدقية الكافية لجهة التعليل الوارد فيها على الأقل.
عراقياً، رفض حزب مسيحي ينشط في إقليم كردستان هو حزب «أبناء النهرين» الدعوة إلى إجراء الاستفتاء لأسباب عدة منها «عدم انسجامنا وتوافقنا مع الدولة القومية التي تلبي طموح مكوّن الأغلبية وتهمش المكونات الأخرى وبضمنها شعبنا... ونحن لا نتفق على إدخال المناطق المتنازع عليها التي تخصّ شعبنا في الاستفتاء، وخصوصاً بعد التهجير والنزوح والمأساة التي لحقت بشعبنا». ويمكن أن نتلمّس هنا توجهاً يهدف لتكريس فكرة «مناطقنا المسيحية» شبه المستقلة، والتي يُراد أن يكون لها وضع إداري خاص كمحافظة أو إقليم يفصل بين الإقليم الكردي والعراق العربي. وبهذا الخصوص فقد صدرت قبل أشهر قليلة ردود فعل أميركية شبه رسمية ــ منظمات مدنية وشيوخ في الكونغرس ــ مؤيدة لهذه الدعوات. ومثل حزب «أبناء النهرين» فعلت الجبهة التركمانية في بيانات علنية لها، فيما أيدت أحزاب تركمانية صغيرة وحليفة لحزب البارزاني الاستفتاء. وقد اختارت الأحزاب الكردية التي تتحفظ على مشروع الاستفتاء وخصوصاً حركة «التغيير ــ كوران» ألّا تصرّح علنا برفضها المباشر للمشروع وتكتفي بطرح تحفظاتها عليه لكي لا تنعزل جماهيرياً.
أما الأحزاب السياسية والشخصيات والمرجعيات الإسلامية الشيعية والسنية فهي تلتزم الصمت التام إزاء هذا الحدث الذي يضع الدولة العراقية القائمة على حافة التقسيم الفعلي إلى دولتين.
لقد جاء موقف حيدر العبادي من الاستفتاء باهتاً ومائعاً جداً، حتى مقارنة بمواقف دول أجنبية تقدم ذكرها. بيان العبادي، اكتفى بتذكير الرأي العام بأن العراق «بلد ديموقراطي اتحادي واحد ذو سيادة وطنية كاملة يجب أن يراعي النصوص الدستورية ذات الصلة وأن مستقبل العراق ليس خاصاً بطرف واحد دون غيره، بل هو قرار عراقي وكلّ العراقيين معنيون به». ولكن تسريبات صحافية قالت إن العبادي اقترح على الزعامات الكردية إجراء استفتاء من قبل المنظمات المدنية في محاولة إفراغ الاستفتاء من محتواه القانوني، ويبدو أن هذا الاقتراح لم يجد آذاناً صاغية في أربيل.

جاء موقف حيدر العبادي من الاستفتاء باهتاً ومائعاً جداً

وقد تجد الحكومة من يؤيدها في هذا التكتيك المتجاهِل الذي يأخذ به العبادي، ولكن كيف يمكن تفسير صمتها على التقارير الصحافية التي تحدثت عن تعهد دولة الإمارات العربية المتحدة بتمويل الاستفتاء بحسب تسريبات قيادات كردية معارضة للبارزاني، وعلى انفراد دولة الإمارات ــ إلى جانب دولة العدو الإسرائيلي المؤيد التقليدي لتقسيم العراق أو أيّ دولة عربية أخرى ــ بتأييد الاستفتاء والانفصال الكردي.
من الواضح، وخصوصاً لمن يؤيدون حقّ تقرير المصير للأمة الكردية من منطلق أممي ككاتب هذه السطور، أن السيد مسعود البارزاني يقوم بلعبة سياسية بعيدة عن جوهر ذلك الحق الإنساني. فقد كان عليه أولاً أن يعالج مشكلة رئاسته غير الشرعية للإقليم قبل أن يوقع قراره بإجراء ما سماه «استفتاء استقلال كردستان» من طرف واحد، وعبر سياسة فرض الأمر الواقع على بغداد، أو اعتماداً على صفقة سرية محتملة مع حلفائه في التحالف الشيعي الملتزم الصمت بإصرار. وكان عليه، وعلى حلفائه في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة السيد الطالباني، أن يتصالحا مع القوى السياسية الكردية المنقسمة حول الموضوع، والخارجة لتوها من انقسام جديد حول صفقة «روسنفت» التي عقدها البارزاني ورفضتها أربع كتل في برلمان الإقليم المعطل. ثم أن البارزاني سيجري الاستفتاء ليس بقرار من أعلى سلطة تشريعية في الإقليم هي البرلمان بل بقرار شخصي منه كرئيس منتهي الصلاحية وفاقد للشرعية منذ شهر آب 2015، وقد طالبه الجميع وفي مقدمتهم حلفاؤه الطالبانيون ــ على لسان النائبة ريزان الشيخ ديلر بتاريخ 11 شباط 2016 ــ بتقديم استقالته وإجراء انتخابات رئاسية.
كان الأجدر بالبارزاني، والأنفع لجماهير الإقليم، أن يُفَعِّلَ برلمان الإقليم المعطل بعد طرد رئيسه ونواب حركة التغيير «كوران» من البرلمان ومن مدينة أربيل ذاتها، وأن يكون قرار إجراء الاستفتاء صادراً عن البرلمان في الإقليم بالتوافق مع البرلمان الاتحادي في بغداد، ثم يصدر كقانون أو كقرار دستوري كما هي الحال في سائر الاستفتاءات في العام، وليس بقرار شخصي عن رئيس منتهي الصلاحية، أمرٌ يجعل الاستفتاء حول استقلال الإقليم مجرّد عبث لا طائل تحته سوى الكسب الانتخابي والإضرار بحق الأمة الكردية في تقرير مصيرها. إن هذه الكيفية التي أديرت بها قضية الاستفتاء حوّلت مبدأ حق تقرير المصير المشروع إلى ورقة على طاولة القمار السياسي في الإقليم في ظلّ عدم تجاوب دولي، إلا من طرف دولة عنصرية معادية لشعوب الشرق الأوسط كلها هي إسرائيل.
وأخيراً، كان على دعاة الاستفتاء وإعلان الدولة الكردية المستقلة، أن يأخذوا العبرة المفيدة والطازجة من الحصار السعودي على قطر، والتفكير جدياً بمشاريعهم السياسية قبل أن يرموا بجماهير الإقليم في ورطة كارثية جديدة.
إنَّ إمارة قطر تشبه إقليم كردستان ـ العراق من الناحية «الجغراسية» (géopolitique) تماماً، فهي شبه جزيرة ليس لها حدود برية إلا مع السعودية، ومياهها الإقليمية محدودة ويمكن محاصرتها من قبل العدو بسهولة خلال ساعات قليلة. هذا الواقع «الجغراسي» للإقليم ليس اكتشافاً جديداً بل سبق وأن تحدث عنه الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني شخصياً قبل سنوات قليلة حين انتقد ذات مرة من مشاريع البارزاني الاستقلالية ووصفها بـ«أحلام الشعراء» غير قابلة لتحقيق. ذلك لأن إقليم كردستان مطوّق براً من جميع الجهات بدول مناوئة لاستقلاله، وليس له منفذ بحري للتواصل مع العالم، فلا يبقى له سوى الطيران ــ الذي يمكن تعطيله ومنعه من التحليق في أجواء الدول المجاورة خلال دقائق ــ في حالة عداء مع دول الجوار جميعاً.
غير أن البارزاني يراهن ــ كما يظهر ــ على علاقاته الجيدة مع الرئيس التركي أردوغان، وهذا رهان غير مضمون، فأردوغان لا يطيق قيادة الطالباني، وله معها خلافات متراكمة. وإذا كانت علاقة الطالبانيين جيدة مع إيران فإيران لديها خلافات عديدة مع البارزاني، فهل سيجرؤ أردوغان أو روحاني على تأييد استقلال كردي في العراق من دون أن يفكرا بالمحاذير من انتقال العدوى إلى دولتيهما حيث يعيش الأكراد دون أية حقوق سياسية وقومية، ولا تعترف الدولتان التركية والإيرانية بالوجود القومي للأكراد رسمياً فيهما؟
بالعودة إلى تجربة الحصار السعودي على قطر يمكن ملاحظة الآتي: لم تكد تمضي 48 ساعة على بدء الحصار البحري والبري الذي فرضته السعودية على شبه جزيرة قطر حتى ظهرت أولى إشارات الاستسلام القطري والبحث عن حلّ تفاوضي. ولولا التلويح التركي بالتدخل العسكري والذي تحول إلى أمر واقع بعد موافقة البرلمان التركي على قرار بهذا الخصوص، ولولا النجدة الإيرانية بالمواد الغذائية العاجلة عبر البحر لكان الأمير تميم قد وافق على جميع شروط الملك سلمان وغادر قطر هو ووالدته بما خف وزنه وغلا ثمنه!
وأخيراً: سجل المراقبون أن قرار البارزاني إجراء الاستفتاء جاء ليشمل المناطق غير التابعة للإقليم ومنها كركوك وخانقين وسنجار، وهذا يعني فتح باب الصراع من طرف البارزاني وحلفائه علناً وبقوة مع حلفائهم في التحالف الشيعي، إلا إذا كانوا قد ضمنوا سكوت أو موافقة هؤلاء وهذا محتمل جداً. كما سجلوا قراراً آخر بإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في الإقليم بعد الاستفتاء، وكأن البارزاني يريد دفن البرلمان الحالي المعطل قبل أشهر من انتهاء عهدته ــ عهدة البرلمان ــ رسمياً في تشرين الثاني المقبل، والقفز إلى الانتخابات المقبلة على أجنحة الكسب الإعلامي بعد إجراء الاستفتاء.
لماذا لم يصبر البارزاني قليلاً فيجري الانتخابات الرئاسية والبرلمانية أولاً، ثم يصدر قرار إجراء الاستفتاء بالتوافق مع بغداد عن البرلمان الجديد والرئاسة الجديدة في الإقليم؟ السبب هو أن البارزاني أراد أن يستثمر الاستفتاء الدعائي للكسب السياسي فيضمن فوزه وفوز حزبه وحزب حليفه الطالباني أولاً ليكرس وجود برلمان ورئاسة تتقاسمهما العائلتان النافذتان البارزانية والطالبانية.
فهل سيدمر البارزاني المكتسب الكردستاني الوحيد ذا القيمة التاريخية الحقيقية المتمثل بوجود البرلمان التعددي ويأتي ببرلمان لا يمثل سكان الإقليم بل العائلتين النافذتين البارزانية والطالبانية المسيطرتين على كل شيء؟ والسؤال الأخير هل سيسكت الأكراد بعدما تذهب سكرة الاستفتاء وتأتي فكرة الواقع المر على ما سيحلّ بهم وبحقوقهم الإنسانية على أيدي المتاجرين بها؟
* كاتب عراقي