ما زالت إسرائيل، وبعد مرور مئة عام على وعد بلفور، وخمسة عقود على اندلاع حرب 1967 تتبع نفس الاستراتيجية المتمثلة في الاستيلاء على رواية الضحية من أجل حشد الدعم العام. تستخدم إسرائيل هذه الرواية منذ حملات الحركة الصهيونية الأولى في مطلع القرن العشرين وحتى يومنا هذا، وذلك لتبرير أفعالها الجائرة بحق الفلسطينيين.
تُستخدم رواية «أنا الضحية» من قبل إسرائيل من أجل إضفاء الشرعية على أعمال العنف التي ترتكبها ضد الفلسطينيين وذلك في خطوة استباقية لإغلاق الباب أمام أي ادعاء فلسطيني يقدم نفسه بصورة الضحية. وعلى النقيض من ذلك، تستند روايات الضحية الفلسطينية إلى الظلم الذي لحق بهم من وعد بلفور الصادر في 1917، والذي بدأ تنفيذه إبان الانتداب البريطاني لعام 1923 والفترة التي سبقته، ومنذ قرار التقسيم الصادر في 1947. ويزيد من هذا الظلم الواقع على الفلسطينيين إحجام المجتمع الدولي والعالم العربي عن فرض القانون الدولي وإعمال حقوق الإنسان الأساسية.

استراتيجية انتقاء المصطلحات

يبرع الساسةُ الإسرائيليون منذ قيام دولة إسرائيل باستخدام الروايات التاريخية التي تُعلي شأن الضحية اليهودية وتحطُّ من حياة الفلسطينيين وحقوقهم. اضطهاد اليهود في أوروبا متجذرٌ في معاداة السامية وتأثيراتها العديدة في الجاليات اليهودية في مواقع مختلفة وفي أوقات مختلفة، وتعود رواية الاضطهاد إلى أواخر القرن التاسع عشر. استند ثيودور هرتزل، الأب الروحي للحركة الصهيونية، إلى تاريخ الاضطهاد اليهودي الطويل في أوروبا ليشرعن المشروع القومي لدولة إسرائيل وممارسات مستوطنيها الاستعمارية. وبعد الحرب العالمية الثانية، استُخدم تاريخ الاضطهاد الطويل كذريعة لتبرير إقامة دولة إسرائيل.
وفي خطاب لرئيسة الوزراء غولدا مائير يوماً، إن اليهود يعانون «عقدة ماسادا» و«عقدة المذبحة» و«عقدة هتلر». كما أشار رئيس الوزراء الأسبق، مناحيم بيغن، إلى أوجه شبه بين الفلسطينيين والنازيين. ولكن بحسب الباحثين والمفكرين، يستغل القادة الإسرائيليون والصهاينة اضطهاد اليهود، ولا سيما المحرقة، كأداة دبلوماسية في تعاطيهم مع الفلسطينيين. كما يرى المؤرخ الإسرائيلي «إيلان بابيه» في كتابه «فكرة إسرائيل» أن هؤلاء القادة أرسوا شعوراً حيال الإسرائيليين كضحايا، وهي صورة رسموها لأنفسهم منعتهم من رؤية الواقع الفلسطيني. هذا الأمر أعاق، بحسب قوله، التوصلَ إلى حلّ سياسي للصراع العربي الإسرائيلي. في حين شككت دراسات جديدة، صدرت في السنوات الأخيرة الماضية، في المزاعم السائدة في الحركة الصهيونية.
ساهمت حركة التضامن العالمية الداعمة للفلسطينيين في لعب دور بارز في دعم الرواية الفلسطينية وذلك بعد الانتشار الملحوظ للمنصات الرقمية التي أتاحت للرأي العام العالمي الاطلاع، ودون وسيط، على القصص الفلسطينية والواقع الفلسطيني المعاش. نشاط حركة التضامن هذا أثار حفيظة القادة الإسرائيليين ووسائل الإعلام الإسرائيلية التي دأبت على الدفع تجاه التركيز على استراتيجيات متنوعة للحفاظ على سيطرة الرواية الإسرائيلية على الرأي العام الغربي. وقد عملت إسرائيل، عبر مركز أبحاثها ومجموعات الضغط المناصرة لها والمنتشرة في العالم، على تطوير استراتيجيتها الإعلامية عبر استخدام الخطاب الدعائي للإشارة إلى اليهود والمواطنين الإسرائيليين، كضحايا الاضطهاد المستمر الذي يمارسه الفلسطينيون، بالرغم من أن لهذه المصطلحات معاني قانونيةً ومعايير محددة ينطبق عليها الفعل، وتصنّف وفقاً للقانون الدولي جرائمَ ضد الإنسانية.
تثير هذه المصطلحات مشاعر تضامنية وعاطفية ولا سيما عندما يُقصَد بها التذكير بالتاريخ الطويل لاضطهاد اليهود، وهو ما يروِّج لرواية الضحية اليهودية الإسرائيلية على حساب معاناة الشعب الفلسطيني مع القمع الإسرائيلي. هذا الأمر جعل هذا المصطلح عرضةً لإسرائيل لاحتكاره والاستيلاء عليه، ولم يُستَخدم لوصف ممارسات التطهير الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، إبان النكبة وفي الفترة التي سبقتها حينما دمرت ما يزيد على 500 قرية فلسطينية، وطردت ما يقرب من 730,000 فلسطيني من ديارهم.

خبراء الدعاية الإسرائيلية

استخدم رئيس حكومة إسرائيل نتنياهو في خطاب مصوّر له في شهر أيلول/سبتمبر الماضي مصطلح التطهير العرقي في إشارة إلى مطلب الفلسطينيين لجهة تفكيك المستوطنات في الضفة الغربية وإعادة الأراضي المسلوبة إلى أصحابها.
تستند الحجج التي وردت في خطاب نتنياهو المصوّر إلى المقترحات التي وردت في وثيقة صدرت في عام 2009 عن «منظمة مشروع إسرائيل». تقدم هذه الوثيقة، والتي أعدَّها المستشار السياسي الأميركي «فرانك لونتز» والذي ينتمي إلى الحزب الجمهوري، مسرد مصطلحات ودليل للتخاطب مع الإعلام الغربي، بهدف كسب الرأي العام العالمي وشرعنة الخطاب وتسويقه.

يستغل القادة الإسرائيليون اضطهاد اليهود كأداة دبلوماسية

خطاب نتنياهو المصوّر هذا حول التطهير العرقي هو الأحدث في سلسلة فيديوهات خطّط لها ونفذها «ديفيد كيز»، المتحدث باسم حكومة نتنياهو لوسائل الإعلام الأجنبية، وأحد الاستراتيجيين الرئيسيين المسؤولين عن الحملات المتنامية للترويج للدعاية الإسرائيلية في وسائل الإعلام الاجتماعية. ومنذ تعيين نتنياهو كرئيس لحكومة إسرائيل نشر ثمانية أفلام قصيرة تتناول مجموعة متنوعة من القضايا تلقاها أنصاره في إسرائيل والولايات المتحدة بحفاوة كبيرة.
وفي مقطع فيديو يهدف إلى إعطاء نبذة عن تاريخ اليهود عرضت وزارة الخارجية الإسرائيلية على صفحتها على موقع فيسبوك فيديو قصيراً للمخرج الإسرائيلي «روي كريسبل» بعنوان «مرحبا بكم في وطن الشعب اليهودي». صوّر هذا الفيديو، في قالب كوميدي، معاناة زوجين يهوديين تجسدا بشخصية «يعقوب وراحيل». هذا الزوجان غزت موطنهما (أرض إسرائيل) مجموعات مختلفة من الآشوريين والبابليين والإغريق والعرب والصليبيين والإمبراطورية البريطانية - وآخرها – الفلسطينيين. أراد اللوبي الإعلامي الإسرائيلي من خلال هذا المشهد التمثيلي أن يقدم اليهود كشعب نجا من سلسلة غزوات وحشية وغزاة، ولكن لم يتبق منهم سوى الفلسطينيين. أثار هذا الفيلم القصير ردود فعل قوية من الناشطين الفلسطينيين والعاملين من أجل الحقوق الفلسطينية بسبب محاولته الواضحة إعادة كتابة تاريخ الصراع، وتصوير اليهود الإسرائيليين كضحايا والفلسطينيين كغزاة واستخدامه لغة عنصرية وعنيفة في إعادة محاكاة هذه الرواية.

في مواجهة الدعاية الإسرائيلية

مما لا شك فيه أن اضطهاد اليهود قضيةٌ مؤثرة بشدة بالنسبة إلى الإسرائيليين، وإلى المجتمع الدولي عموماً، ولا سيما الأوروبيين. غير أن استخدامَ إسرائيلَ مصطلحاتٍ من قبيل التطهير العرقي لليهود على يد الفلسطينيين يصور إسرائيل زوراً كضحية، والفلسطينيين كمعتدين. ويتجلى هذا الخطاب في الممارسة الخطيرة المتمثلة في اعتبار أيّ انتقاد للإجراءات الإسرائيلية فعلاً معادياً للسامية أو عدائياً تجاه إسرائيل. وفي المجمل، تهدف هذه الادعاءات الإسرائيلية إلى إحباط التحركات التي يبذلها الفلسطينيون وحركات التضامن لمحاسبة إسرائيل على أفعالها التي يحظرها القانون الدولي، مثل القتل خارج إطار القضاء وبناء المستوطنات غير القانونية في الأرض الفلسطينية المحتلة. فتعمد استخدام إسرائيل لخطاب الضحية لا يمكن تجاهله بالنظر إلى أن الصراع على الرواية والتي باتت أكثر انتشاراً ووضوحاً في العصر الرقمي. هذا التصعيد في اللغة الخطابية يأتي في هذه الفترة الراهنة والتي تخطط فيها إسرائيل لتوسيع المستوطنات، وربما ضمّ المزيد من الأرض المحتلة، حيث تستفيد من الجمود الحاصل والتراجع غير المسبوق في الإرادة والقدرة الدولية على حلّ الصراع.
إن استيلاء إسرائيل على خطاب الضحية القائم على الحقوق يقتضي مشاركةً ورداً أكثر فاعلية للرسميين الفلسطينيين والنخب السياسية والناشطين في المجال العام، لفضح حقيقة الحملة الدعائية الإسرائيلية، واستثارة الدعم الدولي لفلسطين والفلسطينيين. وهذا لا يعني الدخول في معركة عبثية على من له الأحقية في نيل وصف الضحية في الصراع، وإنما لشنّ حملة منسقة لدحض المزاعم الإسرائيلية بالأدلة. يتعين على هذه الحملة أن تطعن في الروايات الإسرائيلية مستعينةً بالصور ولغة حقوق الإنسان الدولية التي تروق للشعوب والقيادات الغربية، وأن تستند إلى الأدلة والحقائق للتصدي لمحاولات التضليل والتعتيم على الممارسات الإسرائيلية. وعلى الحملة أيضاً أن تدرِّب النخبة السياسية وموظفي الدبلوماسية الفلسطينية على استخدام لغة سياسية مقبولة محلياً وإقليمياً وعالمياً، تتجنب أيّ استخدام لأيّ مصطلحات معادية للسامية، وذلك لتفويت الفرصة على إسرائيل لتشريع خطابها. ويجب على قادة الحملة الفلسطينيين ولجان التضامن الدولية أن يستخدموا وسائل التواصل الاجتماعي لإطلاع وسائل الإعلام على حقيقة الوضع في الأرض الفلسطينية المحتلة، وللتواصل مع الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل واللاجئين والمنفيين، وأن يستند خطابهم على لغة الحقوق والقانون الدولي وذلك لتعزيز مسعاهم في إعمال حق تقرير المصير وحقوق الإنسان الفلسطيني. فتأطير الاستراتيجية الإسرائيلية المتمثلة في الاستيلاء على الرواية الفلسطينية في سياقها، ومن ثم كشف حقيقتها كخطاب يهدف إلى التعمية على العنف الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، لن يكون ممكناً إلا بتضافر الجهود.
(تستند هذه المقالة إلى ورقة سياساتية نشرت في موقع «الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية» تحت عنوان: مَن يطهِّر مَن عرقياً؟: استيلاء إسرائيل على الرواية الفلسطينية)

* محللة سياساتية في «الشبكة»، وأستاذة جامعية في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية ــ لندن