يتبادر إلى ذهن أيّ إنسان أن الثقافة الرأسمالية هي ثقافة اقتصادية بحتة، ولكن مع الأسف هذه الثقافة الرأسمالية تؤثر في المشهد الثقافي في كل الوطن العربي وخاصة في الخليج.فالشباب الخليجي، شباب متنور ومثقف جداً، لديه كل مقومات النهضة من العقل إلى التكنولوجيا والثقافة والوفرة المالية، كل شيء قد يحتاج إليه الإنسان لتحقيق النهضة متوفر في الخليج العربي، إلى جانب كل سبل الراحة والتفرغ العلمي والدراسي.

لكن السؤال الذي يُطرح، ماذا يجري في الخليج العربي؟ وما بال شباب الخليج؟ ولماذا هذه القطيعة مع مصير الأمة، من السودان إلى الصومال واليمن وسوريا وليبيا وفي كل الجغرافيا العربية؟ والإجابة تكمن بأن المشكلة الحقيقية هي في الثقافة الرأسمالية، سلطة المال والتجار والإعلام. كل هذه روافد تصب على العقل العربي.
ولا بد من التنبه إلى الدور الذي يلعبه الإعلام العربي. فهناك أقلام شريفة وأقلام حرة، تدافع عن الحق والمستضعفين في كل مكان في العالم العربي وتناصر القضية الفلسطينية وتناصر جنوب لبنان، وكانت تناصر المقاومة وكل قضايا الأمة العربية. لكن الإعلام العربي الرأسمالي لم يسلط الضوء على هؤلاء النخب، على تلك العقول الجبارة والجميلة، والأغلب والأعم من شبابنا ومفكرينا وقع فريسة النظام الرأسمالي.
تعاظم انتشار النظام الرأسمالي في الخليج، ولا سيما بعد فترة الستينيات وبدء ظهور النفط. طليعة الشباب العربي في الخليج العربي ذهب إلى بيروت وتعلم في الجامعات واحتك بالمناضلين وتعرّف إلى الأحرار، واطلع على الثقافات، الثقافة المسيحية والدرزية والعلوية وعلى الفكر الليبرالي والعلماني واليساري. هذا الشباب كان لديه تعطش للمعرفة وعقله منفتح على الآخر. وأكثر من ذلك، كان يتعلم من الكل ويعطي، فلقد أعطى الكثير في مرحلة حرجة في تاريخ الأمة العربية والإسلامية وتاريخ النضال، في زمن جمال عبد الناصر في زمن القومية العربية. لا ننسى أبداً الشهيد فهد الأحمد الصباح، هذا الرجل من الأسرة الحاكمة في الكويت. كان مناضلاً، قاتل في عام 1967 وفي أكثر من موقع عربي، قاتل لمصير الأمة. لم يقل أنا كويتي، كان يقول أنا قومي عربي، وكان مفخرة للخليج ولعموم الأمة العربية.
هكذا كان الشعب العربي في فترة الستينيات والسبعينيات إلى الثمانينيات، عندما كان الجو العام الإقليمي يصب لمصلحة الأمة العربية. نعم هناك حركات شاذة وأنظمة شاذة، لكن الصوت المرتفع والرأي العام السائد آنذاك هو الروح القومية، هو مصير الأمة المشترك. لذلك عندما ننظر ونقرأ تاريخ النضال العربي والثقافة العربية والحراك الثقافي في فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، نجد أنه كان زاخراً جداً. فالحركة الثقافية بدأت من الكويت من مجلة العربي وعالم المعرفة التي كانت تهتم بالقضايا العربية والمصيرية. لم تكن موجهة فقط للداخل، كانت موجهة لكل الأمة العربية. هكذا كانت الأمة العربية، وهذا هو المثقف الخليجي. والأمثلة كثيرة جداً، فنحن لا ننسى الدكتور المرحوم أحمد الربعي، هذا الرجل المناضل اليساري. كان في بيروت يقاتل مع المناضلين. وإلى اليوم هناك الكثير من المثقفين الذين يتواصلون مع الداخل اللبناني ومع الداخل المصري ومع الصحافة العربية. لكن ومنذ أن نشأت هذه الأنظمة الحاكمة في الخليج، توطدت العلاقة بين الحكام والتجار، وهنا المشكلة. التاجر سيطر على المشهد الثقافي وعلى المسرح وعلى الإعلام وعلى القنوات الفضائية. كل القنوات الفضائية في الوقت الحالي إما هي مملوكة من تاجر معين خليجي، أو تابعة لأحد أبناء الأسرة الحاكمة من أي قُطر خليجي. إذاً الإعلام مسيّر، يكفي أن نتابع كيف يفكر العقل الخليجي، كيف ينفعل مع الملفات الخارجية الثقافية والفكرية وأيضاً المصيرية. لنأخذ هذا المثال، دولة خليجية كبيرة تطبق الشريعة الإسلامية على المذهب السني قسمت المشهد الثقافي والديني الى قسمين: القسم الأول رجال الدين والسلطة، رجال الدين المتحالفون مع السلطة أعطوهم الإرشاد والتوعية وأعطوهم وزارة الأوقاف. وفي المشهد الآخر، التاجر والأمير وأي إنسان لديه المال بيده الإعلام وأيضاً التربية. من بيده الإعلام والتربية هو الفكر الليبرالي، ومن لديه التوجيه والأوقاف هو الفكر الديني المتشدد. كيف يتربى العقل الخليجي بين هذين الخطين: الليبرالية والتيار الإسلامي الأصولي المتشدد، كيف يلتقيان؟ وما هو تأثيرهما في ظل الخصومة التي تجمعهما؟ هذا يفسد الأخلاق وذاك يدعي الحرية، وذاك الآخر يتكلم بالتشدد وإلغاء الآخر ويتكلم عن التكفير والتفجير وذاك يتكلم عن الموسيقى والفن الهابط وينسخ التجارب الغربية والبرامج الغربية والموسيقية التافهة الهابطة في أوروبا ويأخذ قمامة الغرب ويبثها للعقل الخليجي والعربي، وأصبح الإنسان الخليجي يعيش بازدواجية.

مثقفون وأعضاء مجالس نيابية في الخليج يذهبون إلى فلسطين

ما نريده اليوم هو تزاوج من المحيط الى الخليج ما بين الأشقاء العرب والخليجيين، نحتاج إلى أن نعالج هذه المشكلة وهذه الازدواجية، وإلى أن نحدد مكامن الخلل في العقل الخليجي. ننظر اليوم إلى الإنسان الخليجي، فنجده بلباس غربي صارخ ويتكلم بلسان غربي ويعيش مظاهر حياة الغرب، ولكن عندما تتكلم معه بأيّ ملف عربي يتحول هذا الإنسان المتأمرك الى إنسان (وهنا أتكلم عن البعض أو الأغلبية للأسف) يتكلم بنزعة قبلية صحراوية عشائرية وعنصرية وسلفية ووهابية. هذا الغربي المتأمرك يتحول الى إنسان متدين سلفي وهابي وتكفيري بطريقة أو بأخرى. التكفيري بمعنى أنه يلغي الآخر، التكفيري لا يقول فقط باللسان بأن فلاناً كافر ولكن يمارس من خلال اعتقاده بالآخر، بأن كل من يخالف السلف الصالح كما يعتقد ويخالف المنهج الذي يعتقده هو بأنه طريق الحق طريق ابن تيمية وعبد الوهاب، بأن كل من خالفه كافر. وإن لم يقلها صراحةً ولكن يمارسها، وهذا انفصام.
لنأخذ مشهد تحرير حلب، عندما تقدم الجيش العربي السوري مع حلفائه الى تحرير المدينة، أخذ المثقفون والمتدينون والتيار السلفي الوهابي بالصراخ والعويل والبكاء «حلب تباد». لم يلتفتوا أبداً الى فرحة الشعب السوري. لم يلتفتوا أبداً الى أعلام الجمهورية السورية ترفرف في كل مكان، نعم هناك مشاكل وأخطاء، هناك مجازر حدثت في حلب. ولكن أنتم من صفقتم للحرب ومن هللتم لها، وإن وقعت أخطاء من أيّ طرف أنتم تتحملون المسؤولية. هذا الإعلام الرخيص الذي روّج للحرب وبارك للحرب يتحمل مسؤولية كل الأخطاء التي وقعت من أي طرف من الأطراف في هذه الحرب الملعونة... الحرب التي أبادت الشعب البطل المقاوم الشعب العربي السوري.
هل كل من تكلم وحلل ونظّر وخرج محللاً سياسياً يتكلم وهو متنعم في بيته في قصره في منزله وهو يقرأ الصحف عبر الإنترنت الموافقة لفكره ولعقيدته. هل هذا الإنسان نزل إلى الميدان وزار المواقع وزار حلب كي يتكلم. فلينزل إلى الميدان ليرى ويصور. لكنه يخرج ويتكلم وفق ما تريده إدارة هذه القناة أو تلك، ويتكلم بحرقة ويمثل عبر شاشة التلفزة، ومئات الآلاف يذبحون من ويلات «داعش» وحلفائه وأنصاره، كل هذا يحدث في العالم العربي.
العقل الخليجي يحتاج إلى أن يحرر عقله من هذه المؤامرة الحقيقية. نعم، هناك الخير الكثير وعقول جبارة في الخليج. وهناك حراك ثقافي وسياسي شهدناه خلال السنوات الست الماضية في بعض الدول الخليجية. هذا ينمّ عن أن هناك صحوة ووعياً كبيراً لدى المثقف الخليجي، الذي يسأل عن تداول السلطة. يكفي أن يتساءل عن حقوقه وعن واجباته وعن الحق القانوني برفع صوته، أن يطالب بالحرية وبالديموقراطية وبحرية التعبير. ولكن ما نحتاج إليه اليوم هو أن يثق المواطن العربي بالخليجي وأن يمد يده للخليجي الحقيقي الشريف الذي قلبه على الوطن العربي وعلى فلسطين، أن ننسى الأنظمة العربية وننظر الى الخليج على أنه جزء من الوطن العربي وأن نقرّب وجهات النظر.
هناك من أبناء الشعب الخليجي من لا يستطيع أن يتكلم ولا أن يعبر. هناك قمع... هناك سجناء رأي، هناك من عبّر بوجهة نظر واحدة مؤيدة للمقاومة الآن هو مرمي في السجون. هذا الاستبداد موجود في بعض دول الخليج العربي، لذلك يحتاج المواطن العربي إلى أن يثق بالمواطن الخليجي وأن يفتح قنوات الحوار بينه وبين الخليجي .
العقل الخليجي مع الأسف غُرّر به، وهنا أشير الى نقطة مهمة وخطيرة تتعلق بالحملات التجارية التي تذهب الى بيت المقدس، إلى زيارة القدس الشريف. إعلانات تجارية في الخليج عبر كل وسائل التواصل الاجتماعي تهدف إلى التطبيع. مع الأسف، اليوم مثقفون وأعضاء مجالس نيابية في الخليج يذهبون إلى فلسطين ويتصورون أمام المسجد الأقصى. وهناك من الساسة من الصف الأول من القادة في الخليج العربي يطبّعون مع الكيان الصهيوني. ولكن الشعب الخليجي لماذا وقع في هذا الفخ؟ عندما يزور المسجد الأقصى وفلسطين، ألا يسأل كيف وصل الى فلسطين؟ عبر موافقة إسرائيلية، وهذه الموافقة اعتراف بالكيان الصهيوني. يسخرون من دماء الشعب الفلسطيني. كل هذه التضحيات الكبيرة من هذه الدماء التي روت الأرض الفلسطينية دماء خليجية، دماء عربية، دماء مصرية ليبية تونسية لبنانية. الخليج الذي كان خلال مئة سنة قومياً، وكان المغذي للقضية الفلسطينية، اليوم يقع فريسة التطبيع. هذا ما يراد للأمة، تركيعها وإذلالها.
لماذا الخليج؟ لماذا التطبيع مع الخليج؟ لماذا يقولون نريد السلام مع إسرائيل؟ نحن نريد السلام في فلسطين، نريد السلام للشعب الفلسطيني، نريد السلام لكل إنسان يريد السلام بحق. نريد السلام عندما يرجع الحق لأصحابه، والحق لن يرجع إلا بالبندقية وعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني.
الأمة بخير إذا تسلحت بالوعي. وعلى الرغم من كل شيء، هناك ثورة قومية في الخليج، طوفان من الغضب يقوده شباب واعٍ يريد العزة لهذه الأمة العربية والإسلامية.
* كاتب كويتي