«الهمجية» التي حذّر منها اشتراكيو الثلث الاول من القرن الماضي ودفعوا ثمنها غالياً (كما معظم البشرية) على يد النازية والفاشية، تكرر اطلالتها الكريهة، مرة بعد مرة، في صيغ جديدة. منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، قبل ربع قرن، سقطت التوازنات والضوابط. اختبرت الولايات المتحدة موقع الأحادية ومحاولة التفرد بإدارة العالم. أتاح ذلك الفرصة لنوع جديد من الهمجية كان أخطره وأبعده اثرا غزو واحتلال العراق في نيسان من عام 2003.
ارتباطاً بذلك تداعت، ولا تزال، مجموعة كبيرة من الأفعال وردود الأفعال وصولاً الى بروز «الداعشية» التي باتت خطراً عاماً وربما غير قابل للسيطرة أو الاحتواء حتى إشعار آخر، وإن كان استخدامه ما زال قائماً من قبل أكثر من جهة!
لا تعترف دول المتروبول الأطلسية بأن الاستعمار والهيمنة والاستغلال والعدوان هي النواة الأولى للتعسف، وأن تماديها، أو حصول بعض ردود الفعل اليائسة أو الرعناء عليها، هو ما يقود إلى الهمجية أو إلى بعض أشكالها في ظروف ملائمة. لذلك هي تسعى دائماً لحجب هذه الحقيقة أو تمويهها بطريقة أو بأخرى.
لا تتورع واشنطن عن
استخدام ما هو ضروري من الأدوات بما في ذلك أقذرها

أطلقت دول الاتحاد الاوروبي، مطلع هذا الاسبوع، عملية عسكرية بحرية لمواجهة شبكات تهريب المهاجرين بشكل غير شرعي. قالت وزيرة خارجية الاتحاد المذكور ان العملية «لا تستهدف المهاجرين بل الذين يجمعون الثروات على حساب حياتهم ويقودونهم أحياناً الى الموت». هذا نموذج جديد للتعامل مع نتائج المشكلة وليس مع جذورها وأسبابها، ومع جانب من هذه النتائج، دون سواه، هو الجانب الأمني.
المعروف ان اسباب الهجرة الراهنة، كما معظم الهجرات السابقة، تكمن في اندلاع حروب الغزو والعدوان، وفي إشعال وتأجيج الأزمات والنزاعات الدامية وخصوصاً الأهلية منها (طبعاً، بالاضافة الى الهجرات الاضطرارية الناجمة عن الكوراث الطبيعية والتقلبات المناخية الحادة وأشكال أُخرى مولدة للخراب والفقر انعدام فرص العمل والحياة والاستقرار...).
في هذا السياق لا يمكن فصل نشوء واستفحال «داعش» وأخواته عن غزو العراق من قبل إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الثاني، وعما رافق ذلك من انتهاكات وارتكابات (متعمدة في معظمها): بدءاً من تدمير حضارة ومقومات ذلك البلد، الى فظائع كان أحد نماذجها ما حصل في سجن «ابو غريب»، الى المحاصصة الاثنية والطائفية والمذهبية التي ما زالت تتفاقم نتائجها الكوارثية يوماً بعد يوم، إلى إثارة وتغدية العصبيات (المذهبية خصوصاً) في العراق وكل المنطقة... كل ذلك بهدف استخدام القوة العسكرية في خدمة الأهداف الساسية والاقتصادية ولغرض فرض، حتى، نمط الحياة الأميركي أيضاً!
وقع هذان الغزو والاحتلال في منطقة كانت تشكو، منذ اواسط القرن الماضي، من الطاعون الصهيوني الذي ضربها في صيغة مشروع استيطاني قام على القهر والاغتصاب والاحتلال ومصادرة الارض والحقوق جميعاً. طيلة حوالى سبعة عقود استمر ذلك المشروع في اندفاعاته العدوانية كأداة أيضاً للهيمنة الاستعمارية على المنطقة بوسائل القوة والتوسع والقمع، ما أدى الى احتلال كامل فلسطين ومناطق شاسعة في اربع دول عربية مجاورة بما فيها عاصمة احدى هذه الدول بيروت (عام 1982). هذا الى اعتداءات وتهديدات واغتيالات طاولت عدداً آخر من البلدان كان ابرزها العراق.
في امتداد حالة الهيمنة أقامت أو دعمت الدول المستعمرة شبكة من الانظمة التابعة التي استكملت، بدورها، منظومة النهب والاستغلال، وغالباً عبر وسائل القمع والاذلال والفساد والاستبداد والتفرد.
لم تتردد أبداً قوى الهيمنة الاستعمارية، ولا الانظمة المحلية التابعة لها، في استخدام القوة والعدوان والمجازر لاستهداف أي تحوُل لغير مصلحتها، أو لقمع اي تحرك ذي طابع احتجاجي على عدوان أو ظلم أو فساد أو نهب... تضمن ذلك تنفيذ اعتداءات سافرة كما حصل عام 1956 (العدوان الثلاثي على مصر الناصرية)، أو عام 1982، أو في الاعتداءات المتكررة على الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة (اخرها صيف العام الماضي حيث جاء في تقرير لجنة الامم المتحدة الصادر منذ أيام «ان مدى الدمار والمعاناة الانسانية في قطاع غزة غير مسبوقين وسيؤثران في الاجيال المقبلة»، أليست هذه همجية موصوفة ولو لم يسمها كذلك تقرير اللجنة الدولية!؟).
في وجه الهيمنة والغزو والاستبداد حصلت ردود متعددة. كان بعضها سليماً ومناسباً احياناً، وعشوائياً وعبثياً، وحتى من نوع الفعل نفسه، في أحيان أُخرى. لكن في كل الحالات كان ضحايا الفعل الهمجي ورد الفعل المشبوه أو الأرعن هم انفسهم: الغالبية الساحقة من شعوب هذه البلدان التي تهيم ملايين منها الآن، في ارجاء الارض بحثاً عن ملجأ ومأوى ولقمة عيش... وبأي ثمن بما في ذلك بثمن الموت نفسه (بحسب إحصاءات اوروبية ليست كاملة حوالى ستة آلاف شخص ماتوا غرقاً خلال عامين).
تحميل المسؤولية لقوى الغرب الاستعماري، والاميركي منها في المقدمة، ليس موقفاً «ايديولوجياً» أو متعسفاً. النظر في اسباب الازمات ومن ثم في طريقة التعامل معها، يكشف، دون أي لبس، حقيقة الأدوار والمواقف والمشاريع. فالادارة الاميركية لا تبحث أبداً، في المرحلة الراهنة، عن الحلول والتسويات، بل هي تمعن في محاولة استدراج خصومها الى الغرق أكثرفي أتون المعارك والأزمات من أجل استنزافهم وإضعافهم ما سيفرض عليهم، في نهاية الأمر، الانسحاب أو الاستسلام.
لا تتورع واشنطن، لهذا الغرض، عن استخدام أو استحداث ما هو ضروري من الأدوات والأساليب بما في ذلك أقذرها. مثال افغانستان ما زال حاضراً في الاذهان وراهناً في المشهد والبراهين (المساهمة في إنشاء وتسليح وتمويل الإرهابيين والمتشددين الذين ارتدوا عليها وعلى حلفائها لاحقاً).
اما المثال السوري فيقدم وقائع في غاية السوريالية! فالإدارة الأميركية تواصل المناورة والمداورة من أجل إطالة أمد الحرب بهدف استنزاف خصومها (وحتى حلفائها!) جميعاً (روسيا وإيران والحكم السوري والمقاومة ) غير متحرجة من الحديث عن سنوات لتقوية المعارضة «المعتدلة»، وسنوات للقضاء على ارهاب «داعش»، وأُخرى لإيجاد تسوية بين الاطراف المتنازعة... هذا فيما الحريق يمتد من شمال افريقيا الى باب المندب حاملاً معه ضحايا جدد: قتلى وجرحى بمئات الآلاف ومشردين في القفار والبحار... بالملايين: لا بأس من استمرار النار والموت والدمار بانتظار أن تستكمل الاحتكارات الأميركية محاولاتها لتعويض خسائرها ولإعادة الإمساك بزمام الأمور في المنطقة وحتى في العالم. أما بالنسبة للمتعدين الصهاينة فيواصلون صلفهم وغطرستهم مطمئنين الى استمرار الدعم الغربي لهم ما يجعلهم يمعنون في التنافس على التطرف والاستخفاف بكل ما من شأنه حتى مجرد الإشارة الى اجرامهم: ألم يرفض هؤلاء، مرة جديدة، التحقيق الذي اجرته لجنة مختصة من الامم المتحدة بشأن العدوان على غزة: رفضوا استقبال اللجنة (ليست المرة الأولى في مثل هذه الحالات)، ورفضوا طبعا النتائج لأن «الجيش الاسرائيلي لا يرتكب المجازر» كما قال الإرهابي وقاتل الأطفال
نتنياهو!
رغم كل ذلك نواصل حياتنا وأخطاءنا وفضائحنا! ها هو «ولي ولي العهد» يعقد الصفقات بعشرات المليارات! وها هو «داعش» يمد «خلافته» إلى حيث لا يتوقع أحد. وها هو السيد الأميركي حاضر أبد لإنقاذنا من... أنفسنا!
* كاتب وسياسي لبناني