طافت الأرض بسيلٍ من تعليقات ومقالات وندوات استحضرت «خمسون» حزيران 67. ليس في الأمر من عجب، فالحدث مستبطنٌ في الذاكرة العربية الجمعية كمنهٍ لحقبة وموطئٍ لأخرى: في الأولى صعود وغلبة المشروع النهضوي الوحدوي العربي، وفي الثانية خسوفه وانكساره.
والحال أن هذا الاستبطان العصابي ما كان له أن يلبث، بل ويتسرطن، في العقل الجمعي لولا دخول أنور السادات على خط التاريخ، فـ10 حزيران لم يكن نهاية التاريخ، بل إن عامي حرب الاستنزاف (69 و70) بالذات كانا من أصعب الأعوام التي عاشتها إسرائيل، مثَلُها مثَل فترة 55-56 التي شهدت حرب الفدائيين التي شنها عبد الناصر من القطاع والضفة، لما حفلا به من طوق نار محيقة أحاطها من الناقورة إلى رأس العش.
قصدي من هذه السطور التفاعل تصويباً ــ وفق علمي ــ مع معطيات تناسلت باستسهال، لعله مخلّ:
ــ لم يكن ضيوف عبد الناصر صباح 5 حزيران أردنيين، بل عراقيين: الفريق طاهر يحيى نائب رئيس الوزراء العراقي وصحبه. فبعد أن انتهت فترة إنذار هجوم الفجر (الفجر والغروب هما وقتا توقع الهجوم الجوي الشامل، وفق أدبيات الحرب الجوية الكلاسيكية)، قرابة الثامنة إلا ربعاً من ذلك الصباح، إلا وانطلقت ــ عند الثامنة ومتجهة إلى قاعدة فايد في القنال ــ طائرة تقل الضيف العراقي ومرافقه المصري نائب رئيس الجمهورية حسين الشافعي. عند الثامنة والنصف أقلعت إثرها طائرة عبد الحكيم عامر، مصحوباً بقائد الطيران صدقي محمود ومدير العمليات أنور القاضي، متجهة صوب قاعدة المليز وسط سيناء، فما إن وصلت إلى سماء القنال حتى تلاقت بطائرات العدو المغيرة (بدأ هجومها في الثامنة وخمسين دقيقة، أي بعد انتهاء فترة الإنذار الفجري بساعة ونيّف، وهو توقيت غير كلاسيكي أرسى سابقته الإسرائيليون في تلك الحرب)، فعادت أدراجها إلى مطار القاهرة الدولي.
ــ أما في مسألة الضربة الأولى والضربة الثانية: فمع تصاعد الموقف، من حشد القوات (منذ 15 مايو/ أيار) إلى سحب القوات الدولية في 18 مايو إلى إغلاق خليج العقبة في 22 مايو، كان معلوماً للقاهرة أن احتمال الحرب قد صعد إلى نسبة 80%. ومع قرار الإغلاق، كان القرار الموازي هو انتظار ضربة العدو - شبه المحتّمة - وامتصاصها ثم الرد بضربة مضادة شاملة... ماذا وإلا، فسيضحي الاشتباك مع الولايات المتحدة مباشرةً فيما لو بادأت مصر بالهجوم، في مقابل الاشتباك مع إسرائيل وحدها لو تُركت لها المبادأة. والثابت أن صدقي محمود توقع في تلك الحالة نسبة 20% خسائر، وهي ما اعتبرها عبد الناصر في حدود المقبول. ثم إنّه هو من أقنع عامر بقراره، لا العكس. ولما تحايل عامر على القرار وابتدع خطة هجوم جوي محدود على قواعد النقب الجوية، حدد له فجر 27 مايو موعداً، كان عبد الناصر من ألغى العملية، حالما أخطره بها كوسيجن نقلاً عن جونسون، وقبل موعد شنّها بساعات.
ــ اتخذ عبد الحكيم عامر قرار الانسحاب الشامل من سيناء عصر الثلاثاء 6 حزيران، على أن يكون على مدى 24 ساعة، بدءاً من ليل 6/7 حزيران. كان عامر قد أبلغ عبد الناصر، عند الظهيرة، بأمره هيئة أركان الحرب بإعداد خطة انسحابٍ منظمٍ إلى الممرات، فوافقه الأمر. لكن عامر، وبعد سويعات، عدَل عن الممرات وعن مدة 4 أيام/3 ليالٍ، مقرراً الانسحاب إلى غرب القنال وفي يوم واحد، بحجة خشيته من تطويق القوات من خلف الممرات. ثم ما لبث، ما إن أفاق صباح الأربعاء 7 حزيران، وأنْ بدّل رأيه من جديد، ولا سيما أنّ عبد الناصر قد قرّعه أيما تقريع على عشوائية قراره ومزاجيته، فأمر من سبق وانسحب بالعودة إلى الممرات، لينتهي الأمر بتلك القوات وقد ضيّعت المشيتين.
ــ تحدث البيان المصري، بعيد الحرب مباشرةً، عن 10500 شهيد، فيما خرج الإسرائيليون برقم 15000 شهيد مصري، وفي الحالين فالفارق بين أيهما وبين رقم 25000 شهيد المذكور كبير، ولا سيما إذا علمنا أن عدد الشهداء السوريين والأردنيين كان بالمئات، لا بالآلاف.
ــ تغيير الشيفرة المصرية صباح 5 حزيران مدعاته الإهمال الجسيم، رغم أن احتمال الخيانة وارد. ولقد سبّب ذلك في خسران مدة إنذار ممتازة (حوالى 20 دقيقة) وفّرتها محطة رادار عجلون ــ المدارة مصرياً ــ حال إقلاع طائرات الهجوم الإسرائيلي من مدارجها، وكانت قمينة بتمكين الطيران المصري من ركوب السماء لملاقاة المغيرين (مع اعترافي بأن الاشتباك الواسع بينهما كان سيسبب هزيمة الطرف المصري، ولكن بترجيح أن يعود الطيران الاسرائيلي أدراجه ليتحين فرصة أخرى توفّر عليه خسائر ملحوظة).
ــ وفي هذا السياق، يجدر ذكر أن نسبة خسائر الطائرات الإسرائيلية، طوال أيام الحرب الستة وعلى كل الجبهات، بلغت 25%؛ سواء بفعل الدفاع الجوي أو الاشتباك الجوي، ثم إن قتلى إسرائيل في الحرب قاربوا 800 عدداً.
ــ حكاية «توقعناهم من الشرق فأتونا من الغرب» علّق عليها عبد الناصر بنفسه، بعد شهور خمسة من استعماله إياها في خطاب التنحي (خلال حديثه أمام البرلمان في 23 نوفمبر/تشرين الثاني)، قائلاً إن كثيراً مما سرى تلك الأيام كان انفعالاً تأتّى تحت وطأة هول الصدمة. في هذا السياق، فإن توصيف الكارثة التي حلّت للتو بـ«النكسة» كان استعارة سريعة من تعبير «نكسة الانفصال» لجأ إليها هيكل خشية أن يلجأ لتعبير «هزيمة» فيما جزء واسع من القوات كان ما زال هائماً على وجهه في الصحراء. لكن هيكل سرعان ما كتب «هزيمة» شهوراً ثلاثةً بعدها، وكذلك فعل عبد الناصر واستمر.
ــ لم يكن مرور الملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة، ما بين نوفمبر 56 ومايو 67، سراً على الجمهور العربي، فأوّل من عيّر عبد الناصر به كان فاضل المهداوي في 59، ولحقه أكرم الحوراني في 62، ثم أفاض فيه وصفي التل في 66. أما إذاعة مكة والصحف «السعودية» في لبنان، فكان خليج العقبة شغلها الشاغل طول الوقت.
ــ كان عبد الناصر من استعمل تعبير «تدمير إسرائيل» في خطابه أمام اتحاد العمال العرب في 26 مايو 67. لما سأله عن ذلك لاحقاً صحفي بريطاني بعد الهزيمة، أجاب بأن أي طرف في أية حرب يسعى إلى تدمير خصمه. أما تقويل أحمد الشقيري ما لم يقله، فأمر يجانب التوق إلى الحقيقة.
ــ صحيحٌ أن تجويف الجيش السوري من كادر ضباطه المهيأ قد أوغل في حشاياه منذ 8 آذار 63 وأودى به إلى أن أضحى شبح جيش في حزيران 67. وقد قام الطيران السوري، في حدود الحادية عشر قبل الظهر، بغارة فاشلة على مصفاة حيفا فلحقه الطيران الإسرائيلي، بعدها بساعة ونيف، فدمّر معظم الطائرات السورية على المدارج. وحسب ما ذكره أمامي الراحل عبد الرحمن خليفاوي، صيف 2005، فقد ترأس محكمة ميدانية عليا في أعقاب الهزيمة قضت بتسريح عدد من الضباط المدانين بالجبن وعدم إطاعة الأوامر.
ــ اتخاذ عبد المنعم رياض تكأةً لتبرير سقوط الضفة في يومين مردودٌ عليه بحقيقة أن قرار الانسحاب العام منها كان قد اتخذه الملك حسين ليلة 5/6 حزيران، بعد أن تأكد من تلاشي الطيران المصري وتثبت من سالف توقعه هزيمةً آتية. وما إن لحظ الإسرائيليون الأمر حتى عزموا على «ملء الفراغ»، حسب وصفهم، أي احتلال الضفة والقدس: أمرٌ لم يكن مدرجاً في خطتهم الأصلية للحرب (أقصى المنى عندهم كان الاستيلاء على حائط المبكى، جائزةً على التطويح بعبد الناصر أرضاً).
ــ خروج أحمد الشقيري من واجهة العمل الفلسطيني العام في أعقاب الهزيمة كان بفعل اختلاف طبائع مرحلة ما بعدها عما سبقها، وليس لنقيصة في الرجل، الذي هو في معيار فلسطين واحد من أصفى ما أنتجت من قيادات.
ــ لم ينص اتفاق القاهرة في 27 أيلول 70، على مغادرة المقاومة الفلسطينية الأردن مع السلاح الخفيف فقط، وإنما التموضع في أغوار الأردن وتلال عجلون بكل أسلحتها.
ــ من أذكى أوار الفتنة القومية ــ الشيوعية في العراق عام 58 كان كلاً من أ. ميشيل عفلق وأ. سلام عادل، بما يمثّلان، فيما لم يكن لعبد الناصر أدنى رغبةٍ لا بوحدةٍ ولا حتى باتحادٍ مع العراق إلى أن تستتب أموره ويجترح حلولاً رصينة لمشكلاته الكردية والنفطية والجوارية. ولم يوفر عبد الناصر سبيلاً، ما بين آب 58 وشباط 59، في توصيل وتأكيد وتكرار تبنيه لعبد الكريم قاسم قائداً للعراق أوحدْ، لكن هواجس الأخير ــ التي أذكاها الإنكليز ببراعة ــ وقِصر نظر الشيوعيين على خطى رفاقهم السوريين، أوصلت العلاقة معه إلى حائط مسدودٍ تكسّرت عليه في آذار. والحق أن فرصة ثانيةً وجادة كان ينبغي أن يعطيها عبد الناصر لقاسم مع نهاية 59، وفي ضوء إرسائه توازناً معقولاً بين قوى المجتمع الرئيسة مذّاك، ولا سيما وهو الوطني بامتياز، حتى وإن طغت عراقويته على عروبيته. أما لجهة الكويت، فلم يكن قراره في حزيران 61 صائباً ولا حصيفاً، ولا سيما وهو غير قادر على إنفاذه، إذ سبّب عودة الإنكليز أدراجهم لولا إجهاض عبد الناصر ذلك بإرسال قوات عربية مشتركة تحلّ محلّهم.
ــ ليس صحيحاً أن صدام حسين التكريتي كان عميلاً للأميركيين، ولا أنه لجأ إلى منزل الملحق العسكري المصري عبد المجيد فريد، الذي شحنه إلى القاهرة. الصحيح أن صدام نصير في البعث لم يفطن به مخططو محاولة اغتيال قاسم ــ في 7 أكتوبر/تشرين الأول 59 ــ إلا في آخر الوقت وللضرورة ولسمعته كـ«شقاوة»، فلم ينجح في تسديد نيرانه وجُرح في ساقه؛ وبرغمه عبر الفرات سباحةً متوجهاً إلى سوريا أولاً حيث رُفّع إلى عضو بعثٍ عامل، ثم أرسله عبد الحميد السراج إلى القاهرة ليدرس في كلية حقوقها.
ــ تماهت حركة القوميين العرب مع عبد الناصر ونظامه منذ فترة 55-56 وحتى بداية 66، إذ حينها بدأ الشقاق على خلفية رفض الحركة اندماج فرعها ــ في جنوب اليمن المحتل ــ في إطار جبهة تحرير الجنوب المحتل، المدشنة وقتها. ثم تعمق الشقاق مع اكتشاف القاهرة لتنظيم سري للحركة في حشايا التنظيم الطليعي للاتحاد الاشتراكي، في أكتوبر 66. وبرغم ذلك، فلم تصل الأمور حد الفراق إلا في تموز 70 إثر تشهير مولودها الفلسطيني ــ الجبهة الشعبية ــ بقبول عبد الناصر مبادرة روجرز.
أصل للقول: لا يصح أن نقول قولاً مكروراً «عبد الحكيم عامر سبب الأسباب ومطيّر الألباب ومكسّر الأبواب، ولولا بلواه لكنا في فردوس النعيم نرفل بخيرٍ عميم»... لقد كان الرجل محاطاً بأجهزة قيادة عامة وهيئة أركان حرب وقيادات أفرع رئيسة وقيادة جيش ميداني وطاقم طويل عريض من الفرقاء أول والفرقاء واللواءات تدرب في «فرونزي»، منذ ما بعد حرب السويس، وكان كافياً لإدارة معركة «علمين» ثانية. هم، في عمومٍ، كانوا شطّاراً في المداهنة والتملق والنفاق، وفي إحالة المسؤولية على أكتاف الغير، ونأوا عن أخذ قضية «الحرب» بجدّية المقاتل المحترف والعالم. هؤلاء الصغار ــ وهم بالمئات، بل ربما أكثر ــ هم من مكّن عامر من أن يمتطي ظهورهم مفسِداً ووليّ نِعم.
والحال أن أمثل وصفٍ تراجيدي لعبد الناصر أنه «القائد الذي أدمن جيشه... هزمه». كان ذلك حاله ما بين 29 أكتوبر و5 نوفمبر 56 في سيناء وغزة والقنال، وما بين 5 أكتوبر 62 و14 مايو 67 في اليمن، وفي أكتوبر 63 في تندوف الجزائر، وما بين 5 و8 حزيران 67 في سيناء وغزة، بل وأضيف أن من يقرأ مؤلفي أمين هويدي ــ وزير الحربية المصري الأسبق ــ (الفرص الضائعة وخمسون عاماً) وهيكل (أكتوبر: السياسة والسلاح)، ناهيك بالمراجع الغربية والإسرائيلية، يدرك مدى فداحة التقصير في أداء الأفرع والجيشين الميدانيين والفرق والألوية ما بين 10 و26 أكتوبر 73 (فضلاً عن محدودية مردود المجهود الجوي اليتيم في اليوم الأول)، وبعلم أن عبد الناصر قد أقال، عبر عامي حرب الاستنزاف، رئيس أركان حرب وقادة طيران وبحرية ودفاع جوي ثلاثة، بسبب التقصير ذاته.
وصحيح أنّ عامر كان على وشك الترحيل إلى يوغوسلافيا، منفيّاً سياسياً لأشهُر ثلاثة، مطلع آذار 67، لكن السبب لم يكن أوضاع الاستعداد العسكري من عدمه، بل اكتشاف عبد الناصر ــ المتأخر عامين ــ زواجه العرفي من برلنتي عبد الحميد.
القصد، آخر المطاف، أن هول هزيمة 67 لم يكن مبرراً وفق معايير العلم العسكري، وحتى باعتبار كل الظروف السياسية التي مهّدت لها، فلم تكن نواقص الحداثة أو الإيمان أو الحرية ما جرى بنا إلى الهزيمة، بل إشكالية مقيمة في جيوش العرب النظامية، بقياداتها المسيسة أو المحترِفة، فحواها: غياب ثقافة الحرب، مراساً وعلماً وفناً واعتياداً وجاهزية.