«حين تقف اسرائيل والدّول العربيّة صفّاً واحداً، سيكون ذلك شيئاً قويّاً»السفير الاماراتي يوسف العتيبة، من الرسائل المسرّبة

لا يمكن اصدار حكمٍ شامل على تسريبات السفير الاماراتي في واشنطن الّا اذا أفرج سارقو هذه الوثائق عن كامل المجموعة للعموم، من غير تمحيصٍ أو نقصان، فذلك وحده يسمح بتكوين ما يشبه «صورة شاملة» عن مهام السفير وطبيعة علاقاته، وليس صورةً مجتزأة، تُريك حصراً ما يريدك المسرّبون أن تراه.

ولو كان خلف اقتحام رسائل السفير فعلاً ــــ كما يدعي البعض ــــ أيدٍ قطريّة، فهم لن يقوموا بنشر كامل المجموعة إن كان فيها ما يحرج سياسيين أميركيين ومؤسسات رسمية، فهم يريدون استهداف الإمارات لا البيت الأبيض (ولا اسرائيل)؛ والوثائق التي تمّ كشفها حتى اليوم مختارةٌ بعناية، فلا تضمّ مراسلات الّا مع مسؤولين أميركيين سابقين، لا يحتلّون مناصب رسمية، ومؤسسات غير حكومية، وتركّز أساساً على سلوك ابو ظبي تجاه قطر ــــ ونحن نعلم جميعاً أن مهمة يوسف العتيبة الأساسية في واشنطن ليست «تشويه سمعة قطر» وممارسة النميمة، بل لديه وظائف أكبر وأخطر وأسوأ بكثير.

رسائل صهيونية

مهما يكن، فإنّ في المراسلات التي نُشرت حتى اليوم دلالات: هي تؤكّد مثلاً أنّ محمّد بن زايد، وليس رئيس الدولة، هو الحاكم الفعلي للامارات. فإسمه يظهر دوماً باعتباره مركز السلطة وصاحب القرار، ولا يوجد أيّ ذكرٍ للشيخ خليفة. تفهم ايضاً ما قالته مجلّة «انترسبت» عن أنّ العتيبة يريد أن يرى نفسه «سفيراً ــــ نجماً» أو صاحب كاريزما، وهذه هي الصورة التي يروّجها عنه الإعلام. غير أنّ علاقاته هذه هي ليست الا بسبب دفتر شيكاته، وليس ذكائه أو سحره (تروي المجلّة، كمثال، أنّ العتيبة قدّم لصحافيي واشنطن خلال عيد الميلاد منذ سنوات أجهزة «آيباد» كهدايا جماعية). في الرسائل، انت لا تلمح عقلاً ذكيّاً أو منطقاً قوياً أو لغةً وأسلوباً، بل إنّ أبرز ما تظهره هو التذلّل المعهود الذي يمارسه كثيرٌ من العرب تجاه الصهاينة. الاهتمام والاحترام الذي يبديه يوسف العتيبة لجون هانا، الذي يمثّل مؤسّسة صهيونية هي «معهد الدفاع عن الديمقراطيات»، ليس مألوفاً ولا هو صنفٌ من التواضع. يخاطب هانا العتيبة باسمه الأوّل، ويحاججه ويطالبه بأسلوب فوقيّ لجوج، غير معهودٍ في التعامل مع سفراء الدول. وجون هانا ليس حتّى أهمّ الشخصيات في المعهد الصهيوني المذكور، وهو أصلاً ليس مؤسسة مرموقة أو محترمة (هل يقبل العتيبة بأن يخاطبه مثقّفٌ عربيّ بهذه الطريقة؟).
أمّا التنسيق السياسي والأمني بين الصهاينة والحكومات الخليجية، فهو لم يكن مفاجأةً لأحد. اذ تصل المسألة لأن يتسلّم السفير، عبر «معهد الدفاع عن الديمقراطيات»، لوائح أمنيّة الطابع لشركات أجنبية يقولون إنها تتعامل مع ايران أو تنوي الاستثمار فيها، ويُطلب من حكومته وحكومة السعودية ان تتصل بهذه الشركات وتضغط عليها حتى تثنيها عن الأمر (إن كان هذا ما يجري على مستوى المنظمات «غير الحكومية» ومعاهد الدراسات، ففي وسعنا أن نتخيل شكل العلاقة بين الحكومات وأجهزة المخابرات). الوثائق، الى ذلك، تُظهر مقدار الحميمية بين أنظمة الخليج ومسؤوليها وبين الصحافيين الغربيين الذين يغطّون المنطقة. يرسل العتيبة، مثلاً، رسالةً الى الصحافي الأميركي دايفيد اغناطيوس، يشكره فيها على زيارة محمد بن سلمان في السعودية ومديح «رؤيته»، ثمّ يكلّمه وكأنّهما في فريقٍ واحد: «مهمتنا الآن هي أن نفعل كلّ ما يلزم لضمان نجاح محمّد بن سلمان».

من يخدم أميركا أكثر؟

ولكنّ هذا كلّه لا يجب أن يلهينا عن السياق الذي تجري ضمنه هذه المناكفة الخليجية، وهو التسابق على إثبات الطاعة لأميركا، والوشاية بالحليف الآخر ومحاولة «الايقاع» بينه وبين واشنطن، وفي ذلك يتساوى الطرفان. كما أنّ النتيجة الوحيدة لهذه «الحفلة»، في نهاية الأمر، لن تكون الّا مزيداً من الرضوخ لأميركا واسرائيل، والتنافس في تقديم التنازلات. الامارات والسعودية تحاولان ايذاء قطر عبر الترويج بأنّها ليست حليفاً «مخلصاً» لواشنطن، وأنها تسمح بمرور أموال لـ«الارهاب» وتستضيف قيادات معادية لاسرائيل على أرضها، فيما تردّ قطر ووسائل إعلامها بأنّ أبو ظبي تحاول «التشهير بحلفاء أميركا والإساءة اليهم»، ويحتفل إعلامها بتصريحٍ لمسؤولٍ أميركي يثني فيه على تعاون قطر في حروب واشنطن، ويؤكّد مرتبتها كحليفة أساسية ــــ وفي التذلل لأميركا فليتنافس المتنافسون.
لو أخبرك أحدهم بأنّ هناك طرفاً «وطنياً» في هذه المعادلة فهو يكذب عليك، ولو قال لك إن قطر تتعرّض للضّغوط بسبب «دعمها للمقاومة» فهو يكذب عليك. بالمناسبة، من الأمور التي تظهرها الوثائق المسرّبة، بوضوح، هي أنّ حتى أعداء الدوحة وخصومها (كالاماراتيين والمعهد الصهيوني أعلاه) يجزمون بوضوح بأنّ قطر «لا تقدّم أي دعمٍ ماديّ لحماس أو لأي منظمة مصنفة ارهابية»، وأنّها تستضيف قياداتها بصفتهم الشخصيّة كأفراد وتضخّ المال في اقتصاد غزّة (تماماً كما تفعل المنظّمات والحكومات الغربية) وليس في تنظيم المقاومة. هذا مهمٌّ، وإن لم يكن جديداً، بسبب التضليل الذي يقوم به بعض أجراء الخليج، الذين يحاولون باستمرارٍ الايحاء للجمهور العربي بأنّ الدّوحة دعمت المقاومة وساندتها، وهذا يجب أن يتوقّف (حدّث عن الراتب الذي تعطيه قطر لك واشكرها عليه، ولكن لا تنسب اليها شرفاً لم تفعله ولا تجرؤ على فعله، فهذه دناءة).
من هنا، فإنّ «الهدف العملي» للّوبي الاماراتي في واشنطن هو في التحريض لنقل قاعدة «العديد» خارج قطر واستبدالها بموقعٍ آخر. فهي، في عرف السياسيين الاماراتيين والسعوديين، ما يبقي واشنطن في حالة اعتمادية تجاه الدّوحة ويعطيها قدراً من الحصانة (قد يشرح لنا «أنصار قطر»، اذاً، أنّ ابقاء القاعدة الأميركية قرب الدّوحة هو هدفٌ وطنيّ يجب أن يتّحد خلفه شرفاء العرب). في بلادنا فقط تصبح استضافة قاعدة أميركية شرفاً وميزةً، تدافع عنها وتثير حسد الحاسدين، وتدفع ثمن القاعدة وأكلافها وأنت تشعر بالفخر والأهمية. المهمّة الأساسية لمؤسسة مثل «معهد الدفاع عن الديمقراطيات»، والدور الذي تلعبه بين الخليج واميركا، هو في أن تكون «كلب حراسة»، تراقب امتثال الحكومات لشروط واشنطن، وتؤنّبها وتؤلّب عليها حين تكتشف «خرقاً ما»، ولا أحد يحتجّ أو يردّ أو يدفع (ولو شكلياً) بحجّة السّيادة. لهذا السبب، لا يجب أن نتوهّم أنّه سيخرج شيءٌ جيّد من هذه المناكفة، الا مزيداً من السباق نحو القعر، وفي الأخبار عن تسليم الدوحة لمعارضين سعوديين وتضييقها على قيادات فلسطينية دليلٌ على ما سيأتي.

خاتمة

بالمعنى نفسه، فإنّ من يخبرك بأنّ المعركة الخليجية هي بين ديمقراطيين وحكومات معادية لحريات الشعوب يكذب عليك ايضاً. لا أصدّق بأنّه ما زال هناك، بعد هذه السنوات، من يقحم «الديمقراطية والحرية» في المسألة، ويصرّ على أنّها الفالق بين الدوحة وخصومها. هذا فالقٌ ليس موجوداً الّا في رأس من يدّعيه، وهو لم يكن يوماً موضوعاً للجدال والخلاف. وهذا الاستخدام النفاقي لمفاهيم الديمقراطية وحكم الشعب، حين تُربط بحكومات سلالية متخلّفة وسياسات طائفية واستعمارية، هو تحديداً أكثر ما يسيء الى الديمقراطية والليبرالية في بلادنا (كما نكرّر دوماً، فإنّ مشكلتنا الأساسية ليست مع مبادىء الليبرالية وأدبياتها، بل حين تتحوّل ــــ في بلادنا ــــ الى ستارٍ يغطي التبعية لحكومات الخليج والسياسات الاستعمارية والتمويل الأجنبي المشبوه، وحين يفهم الليبراليون العرب الليبرالية على أنها تعني أن تتماهى مع آل سعود).
لأنّ الرّجعية لا تأتي الّا كـ«حزمة»، فإنّ المعركة الخليجية اذ تتطوّر في الإعلام الغربي تنافساً على إظهار الطاعة لأميركا فهي، في بلادنا وتجاه الجمهور العربي، تأخذ شكل التنافس ــــ بين أركان الإعلام الخليجي ــــ على من مموّله أكثر تآمراً على ايران وأكثر مساهمةً في التّحريض الطائفي، ويتّهم كلّ طرفٍ الآخر بأنّه يتخادم مع طهران في السّرّ ويتعامل مع الشيعة. لطيفٌ هنا صمت الكثير من المثقّفين والنّاشطين العرب، وبعضهم من يبحث في العادة، بحثاً، عن قضيّة يملأ بها وقته، عن كلّ هذا الجّدال؛ هم لن يناقشوا رسائل العتيبة والذّلّ والتّبعية التي تقبع بين سطورها، وسيستمرّون في مديح «نموذج دبي» وحكّام الامارات، والكلام عنها باعتبارها «بلد الخير» وعرين العروبة. المعنى الحقيقي لكلّ هذه القضيّة، من حرب التسريبات الى الشكوى لدى اميركا الى التنافس على كأس التحريض الى سلوك المثقّفين والإعلام، هو أنّها صورةٌ مصغّرة ــــ صادقة وبلا تظاهر وادّعاءات ــــ عن هذا النّظام العربي، التابع والمتخلّف الذي يريدون له أن يحكمنا.