قال ميشال عفلق في كلمة له لمناسبة المولد النبوي الشريف: «لقد كان محمد كل العرب، وليكن اليوم، كل العرب محمداً».وفي تاريخنا الحديث كان لبعض القادة أدوار كبيرة ومؤثرة، فجمال عبد الناصر بشعار «ارفع رأسك يا أخي»، يستنهض أمة بكاملها بالإضافة إلى استنهاض شعوب إسلامية وإفريقية وأميركية وجنوبية وكذلك شعوب آسيوية شتى.

بدوره الرئيس الأسد قاهر كيسنجر باعتراف الأخير، انتقل بسوريا من مسرح للآخرين، إلى لاعب إقليمي أساسي، ولا غنى عنه دولياً. للقائد في بلادنا، الدور الأساس في نهوضها، أو نكوسها، فهل ينسحب هذا الأمر على دول العالم الأول؟
في زمن جورج بوش الابن ومع غياب الاتحاد السوفياتي، كشفت أميركا عن وجهها الحقيقي، ونزعت كل الأقنعة. وبعد أحداث 9/11 ومع حملة إعلامية غير مسبوقة بنفاقها، وتزويرها للحقائق والوقائع، احتل الجيش الأميركي أفغانستان والعراق، وهدّد سوريا بالمصير نفسه إن لم تنأَ بنفسها عن العراق وإن لم تطرد حماس، وتقطع علاقتها بكلٍّ من إيران وحزب الله.
دخل الجيش الأميركي في استعراض للقوة، أرادته أميركا أن يكون درساً رادعاً لروسيا والصين، بل حتى لأصدقائها من الأوروبيين، لما وصف دونالد رامسفيلد أوروبا «بالقارة العجوز» واستخف بالأمم المتحدة. وانتشى المحافظون الجدد، مبشرين بالغرق الأميركي الكامل.

في زمن جورج بوش
الابن كشفت أميركا
عن وجهها الحقيقي


ما كان دور بوش بذلك؟ هو بالكاد يعرف ما يحصل، إن اللعبة تديرها النخبة السياسية ممثلة المصالح الرأسمالية والقوى العسكرية والأجهزة الأمنية ومطابخ المحافظين الجدد، التي أنضجت أعلى مستويات الغطرسة والعنصرية والعدوانية تجاه الأمم والشعوب الأخرى.
إلا أن المفاجأة التي واجهتهم من حيث لم يحسبوا ــ والتي أعدتها لهم المقاومة العراقية بملاحم بطولية، وأنزلت بهم الهزائم وأذلت جيشهم، فبات عاجزاً متخبطاً ــ دفعتهم إلى إعادة الحسابات. ولقد لعبت سوريا، ورغم تهديدات كولن باول، دوراً كبيراً في نجاحات الشعب العراقي المقاوم، كداعم وملاذ. ولم يجنِ الجيش الأميركي من اجتياح سوريا، سوى الخوف من الغرق أكثر وأكثر في رمال المنطقة المتحركة.
أطل الاستحقاق الرئاسي الأميركي متزامناً مع معاناة الجيش الأميركي، وتزايد أعداد النعوش وغليان الرأي العام الداخلي وبداية تهاوي مجموعة المحافظين الجدد. قرّر الجيش الأميركي النزول من على الشجرة العراقية، فاتجهت الأنظار إلى المرشح المعروف بمعارضته للحرب العراقية، باراك أوباما إذاً هو رجل الساعة والمرحلة، ومعه بدأ الانسحاب من العراق.
في الشكل، لانت ملامس الأفعى الأميركية إلا أن أنيابها كانت تُعدّ لمنازلة مختلفة. إنها الثورة «البرتقالية»، أو الربيع الأميركي مصدّراً إلى مناطق الاستهداف الأميركي. إن نوايا الداعين إلى «ربيع»، أو معظمهم في الداخل، طيبة وساعية إلى رفع ظلم أو غبن اجتماعي وحلّ أزمات تعصف بالبلاد. لكن هذا التحرك لم يأتِ من قيادات ثورية أو منظمة، قادرة على حماية تحرّك جماهيري، بل كان أقرب إلى العفوية والفوضى. وهو ما خططت له الدوائر الأميركية، عبر ماكينة إعلامية ضخمة عربية ودولية.
ولذلك سرعان ما تحول هذا الحراك لمصلحة من أعدَّ العدة سلفاً. لتحويله إلى اقتتال داخلي عبر عشرات الآلاف من المسلحين المتطرفين، الذين تدفقوا من تركيا وليبيا إلى سوريا فالعراق. وأعلنت "الدولة الإسلامية" في الموصل، لتبدأ مسيرة من العنف والتدمير طالت الحاضر والماضي بكنوزه التاريخية.
وكما كان بوش رمزاً لمرحلة التدخل المباشر، بالاحتلال والغزو، ورمزاً لأكبر مراحل البربرية الأميركية، صار أوباما، «الضعيف» أو «الآدمي» لا فرق، واجهة للخطة الجديدة، التي ما زلنا نعاني من زلزالها المدمر، والتي أودت بليبيا، وأعادت الأميركي إلى العراق «مُخلّصاً»، وكادت تودي بسوريا لولا صمود قيادتها وشعبها ونصرة أصدقائها. إن القضاء على سوريا بعد «اجتثاث البعث» في العراق، برمزيته القومية والبعد العربي، مقدمة لما نشهده من مؤشرات لقيام تحالف إقليمي جديد، واسطة عقده إسرائيل. وهو التحالف الذي رفضه الزعيم الكبير عبد الناصر، وكان ذلك نقطة الاختلاف الكبرى مع أميركا وعملائها في المنطقة.
بعد بوش وأوباما، جاء دونالد ترامب من عالم العقارات منتصراً على المؤسسة السياسية والإعلامية. لهذا الفوز سر، أو أسرار، لا نعرف فنجتهد. إن أميركا في أزمة، فهي غير قادرة على انتهاج سياسات بوش ولا هي قادرة على الاستمرار بمشروع «الربيع العربي» الذي صرفت عليه مئات المليارات ووصل إلى الحائط المسدود في سوريا. إن صمود سوريا ونجاحها في وجه الحرب الكونية جعل من المنطقة والعالم، ساحة حرب لإرادات قابلة للانقلاب إلى حرب فعلية. لقد اصطدم المشروع الأميركي، في حلقته السورية، بروسيا المتطلعة إلى دورها المفقود والصين العملاق الاقتصادي ودول البريكس. وعرفت أميركا انقساماً داخلياً غير مسبوق في تاريخها الحديث، بين أبيض وأسود ولاتيني وآسيوي ومسلم.
انتصر ترامب ظاهرياً بيافطات العنصرية ومحاربة العولمة والانكفاء القومي، ومعاداة الناتو وحلفائه في الخليج. وانتصر على التوقعات الداخلية والخارجية. ونقول مجدداً ما هو السر؟ لقد جاء الرجل الذي يشبه أميركا الحالية، هي في أزمة وهو كذلك. هي دون خطة لمواجهة التحديات الدولية وهو كذلك. أميركا تتخبط وهو كذلك. ورأى الحل في عالمه، عالم الصفقات...
يحمل على الصين، ويرغي ويزيد، ثم يستقبل رئيسها ويكتفي بصفقة تجارية معها. يصطدم بكوريا الشمالية ويحرك أساطيله وحاملات الطائرات، ومنظومات الدفاع الجوي ويكتشف فجأة ذكاء الزعيم الكوري، توسلاً لصفقة بمساعدة «الأصدقاء الصينيين». يتودّد لروسيا ولفلاديمير بوتين تحديداً، ولسوريا والأسد ويضرب مطار الشعيرات، بعد إعلام الروس مسبقاً، وما يعني ذلك، أملاً بصفقة.
يحمل على الخليج، والسعودية تحديداً، فيهرول محمد بن سلمان ناثراً مئات المليارات ويعود إلى قرب جلوسه على العرش، فيفاجئه ترامب بالحديث عن عدم عدالة السعودية تجاه الراعي الأميركي. فتتقرر القمة الأميركية ــ الإسلامية، لعقد الصفقة الأكبر.
يحمل على الناتو والاتحاد الأوروبي، معتبراً أن الصفقة الأميركية ــ الأوروبية غير منصفة فعلى أوروبا أن «تدفع». أميركا تحمي العالم «الحر»، و«غير الحر» أكثر الأحيان، فعلى هذا العالم أن يدفع البدل العادل. إن النهب الذي تقوم به أميركا، عالمياً، لم يمنع وقوعها في أزمات مالية. إن النهب تُمارسه طغمة مالية، تنهب الخارج والداخل.
ومن أفضل من ترامب رجل الصفقات يؤمن لهذه الطغمة الموارد، بابتزاز الحلفاء قبل الأعداء. ومع ذلك فإن ترامب يصطدم مع الإعلام الأميركي، وكذلك مع «المؤسسة السياسية». ومرد ذلك برأيي أن ترامب كرجل عقارات يعرف الخسارة والربح ويميل إلى الصفقة، ويدرك أهمية «الواقعية». من هنا تطلعه إلى علاقة مع روسيا، وقبوله بمصالحها في أوكرانيا وسوريا.
صحيح أنه توسل الشعبوية عنصرياً، إلا أن الجذر العميق للعنصرية هو لدى المؤسسة السياسية، ممثلة بهيلاري كلينتون وأمثالها وإعلام «الواشنطن بوست»، و«النيويورك تايمز» ومثيلاتها.
ويبقى السؤال الكبير: أين تقف الأجهزة؟ وأين يقف الجيش؟
ما يبدو على السطح هو الانقسام أيضاً في صفوف الأجهزة والجيش. وهذا ما تفسره الإقالات وما تشي به التسريبات من كل صوب، فالكل ضد الكل...
إلى أين؟ الليالي الأميركية حبالى تلدن كل عجيب. الأكيد أن الصراع المحلي أو الإقليمي ليس مع رئيس أميركي بعينه، بل هو أولاً وأخيراً مع أميركا.
* سياسي لبناني