يدخل اليوم الأسرى الفلسطينيون أسبوعهم الثالث في معركة الكرامة والأمعاء الخاوية، فيتفاعل معهم الشارع الفلسطيني في أراضي الـ٦٧، ويقابله صمت خجول في أراضي الـ٤٨، وسكوت وقح في الكثير من الدول العربية خاصة والعالمية بشكل عام. فمن هم هؤلاء المضربون عن الطعام؟ ما هي معاناتهم وما هي طلباتهم؟هنالك ما يقارب الـ٦٥٠٠ أسير (وأسيرة) فلسطيني/ة يقبعون الآن في سجون ومعتقلات دولة الاحتلال. وهذا العدد هو جزء بسيط من المناضلين والمناضلات الذين اختبروا تعسّف الاحتلال وزنازينه. فهنالك ما يقارب الـ ٨٠٠,٠٠٠ - ١٠٠٠٠٠٠ رجل وامرأة ممن دخلوا هذه المعتقلات منذ عام ١٩٦٧. وتقدر التقارير أعداد المعتقلين الذكور بما يقارب الـ٤٠٪ من مجموع سكان الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧، بينما أعداد النساء المعتقلات لذات الفترة يقدرن بـ١٠٠٠٠ معتقلة.
فمن المحتجزين حالياً هنالك: ٥٠٠ مناضل تحت الاعتقال الإداري (معتقلون من دون تهمة ولفترات غير محددة)، ٣٠٠ طفل، ٦١ امرأة و١٣ أسيراً برلمانياً (من أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني).

أما المعتقلون الفلسطينيون بشكل عام ومن ضمن هذه المجموعة كذلك، فيشملون كلاً من: الناشطين (والناشطات) في المقاومة الوطنية، صحافيين، مدافعين (ومدافعات) عن حرية الإنسان، شخصيات سياسية، أكاديميين، عابري سبيل، وبعض من أهالي المعتقلين.
هذا الإضراب والذي بدأ بتاريخ ١٧/٤/٢٠١٧ لم يكن إلا حراكاً طبيعياً وقانونياً حسب الشرائع القانونية العالمية. «جرم» المعتقلين الوحيد هو أنهم دافعوا عن حقوقهم الوطنية والشرعية ضد محتل يغتصب أراضيهم وكرامتهم الإنسانية وحقهم في التحرير والعيش على أرضهم وفي وطنهم. أما أساليب المقاومة المشروعة فتعدّدت. منهم من اتخذ أسلوب الكفاح المسلح، آخرون، وبالذات الأطفال، متهم بقذف الحجارة على جيش الاحتلال، بينما كثيرون آخرون اعتُقلوا لاستخدامهم حرية التعبير ولمشاركتهم في مسيرات سلمية تعبّر عن رفضهم للاحتلال وممارساته التعسفية.
إضراب الأمعاء الخاوية هو ما تبقى لهم: لا تنتهي معركة المقاوم (المقاومة) باعتقاله أو سجنه (أو اعتقالها وسجنها)، فالمسجون تحت الاحتلال في ما يشبه الهواء شبه الطلق (أو تحت سماء القطاع المغلقة كلياً) يدخل المعتقل الصغير حاملاً معه سجنه الكبير – الاحتلال. فإن مقاومته تستمر لا وبل تكبر، آخذة أشكالاً متعددة. في كتابي «الثورة المحتجزة: نضال النساء الفلسطينيات ضد الكولونيالية في معتقلات الاحتلال» (٢٠١٤) كنت قد تعرضت لشرح وافٍ وتحليل عميق للممارسات التعسفية والقمعية واللا أخلاقية لسلطات الاحتلال في المعتقلات والسجون. وأسهب الكتاب لأشكال التعذيب... أساليب تحظرها جميع المواثيق الدولية. ومنها على سبيل المثال ولا الحصر، الاعتداءات الجسدية والنفسية وكذلك الجنسية على المعتقلين والأسرى جميعاً وبالذات المعتقلات ومن ضمنها التحرشات الجنسية على أشكالها وحتى الاغتصاب، هذا بالإضافة إلى القدح والذم والشتائم الجنسية والمقززة الموجهة للأسرى والأسيرات. لقد نجحت الحركة الأسيرة الفلسطينية ومناصروها في العالم بالضغط على كيان الاحتلال وإرغامه في مرات عديدة على الاستجابة لتغيير معاملته للمعتقلين، ولكن لعدم إمكانيته لأن يكون غير ما هو كائن – محتل كولونيالي قامع، أبى الاحتلال إلا أن يبقى قامعاً.

ما زالت سلطات الاحتلال تعامل المعتقلين السياسيين بعنف ووحشية


في رسالته المنشورة مؤخراً في «نيو يورك تايمز» ( New York Times, 16/4/2017) كتب المناضل المعتقل مروان البرغوثي ما يلي: «لم أكد أبلغ الثامنة عشر من العمر عندما أجبرني المحقق بفصل رجلي عن بعضهما بينما كنت عارياً تماماً في غرفة التحقيق، قبل أن ينهال بالضرب على أعضائي التناسلية. لقد أُغمي عليّ من الألم، ولم تزل علامات سقوطي على الأرض بارزة على جبهتي. وعلاوة على ذلك ما كان من المحقق إلا أن يهزئني قائلاً أني سوف أفقد قدرتي على الإنجاب لأن أناساً مثلي لا ينجبون إلا مخربين وإرهابيين».
ما زالت سلطات الاحتلال تعامل المعتقلين السياسيين بعنف ووحشية، فما تلبث أن تغيّر بعضاً من أساليبها إلا وأن تستبدلها بأخرى قمعية ومهينة للكرامة الإنسانية، أو كما حال مطالب المضربين حالياً، فبعد أن أعادت للأسرى حقوقاً كانوا قد ناضلوا من أجلها: كحقهم في الزيارات العائلية، في التزود بالمواد التعليمية، تحسين ظروفهم الصحية وحقهم في الطبابة، عادت وسلبتهم ذات الحقوق. ومما يجدر ذكره أن سلطات السجون وفي السنوات الأخيرة أدخلت أسلوباً شبه جديد لإذلال وإيلام المعتقلين وبالذات المعتقلات. فنقل المعتقلات من معتقل/ سجن إلى آخر أو إلى المحكمة - قضية بسيطة في مضمونها حولتها سلطات السجون إلى ما يعرف «بالبوسطة» - أداة قمع وتعذيب. وهنا أورد بعضاً من تجارب المناضلات:
هذه شهادة فاطمة الزيق والتي أنجبت ابنها يوسف خلف القضبان، حول ما وصفته بأقسى تجربة مرت بها في التحقيق: «في عام ٢٠٠٩ وأنا حامل، عند نقلي بين السجن ومستشفى كفار سابا للمعاينة، ربطوا يداي بالأصفاد ووضعوني في قفص الباص حالك الظلام، إحدى الجنديات رفعت درجة التبريد في الباص إلى أعلى درجة وعادت ورفعت الحرارة إلى أعلى درجة متلذذة في تعذيبي». وعند نقلها بين سجن «هشارون» و«بير السبع» بينما كان رضيعها يوسف معها، كانت يداها مكبلتين ولم تستطع إرضاع طفلها والذي كان يبكي إما جوعاً أو خوفاً من الظلام الحالك. وبعد ترجيهم للوقوف برهة لتطييب خاطر الرضيع، وافقوا ولكن ليس قبل أن ينهالوا عليها بالشتائم والبصق (تقرير مؤسسة الضمير ٢٠١٤).
وهذه المناضلة عضو المجلس التشريعي الفلسطيني خالدة جرار، تتحدث عن معاناة النساء في «البوسطة» عملية النقل والتي في معظم الحالات تأخذ ضعف الوقت الضروري للتنقل من مكان إلى آخر، وتصفها بـ«رحلة من الجحيم». تقول خالدة، خلال الرحلة تكبّل أيدي المعتقلات، يوضعن في زنازين حديدية، على مقاعد ضيقة للغاية حيث تضطر المعتقلات للجلوس بشكل غير مريح ومؤلم لساعات طويلة. زنازين الباص مزودة بكاميرات لمنع النساء من الدخول إلى المراحيض، وإن وجدت مراحيض فإنها غير مناسبة للاستعمال البشري. وأضافت، تعاني النساء من أوضاع مهينة في «البوسطة»، فبالإضافة إلى العناء الجسدي في الجلوس وعدم تلبية حاجاتهم الأنثوية، تحرم النساء من النور والتهوئة الضروريين لحياة وصحة البشر (التقرير السنوي لانتهاك حقوق المعتقلين لعام ٢٠١٥ – الضمير).
وفي النهاية وبالرغم من سياسة الاحتلال المتمادية في البطش والتنكيل بالمعتقلين وأهاليهم والمتضامنين معهم، يستمر الإضراب وتستمر معركة الكرامة والتحرير وكما قال المناضل مروان البرغوثي: «ستكسر أغلالنا قبل أن يستطيعوا كسرنا، إذ لا بد للطبيعة الإنسانية أن تستجيب لصوت الحرية مهما كان الثمن».
* أستاذة علم الاجتماع
في جامعة كارلتون - كندا