يُعَدّ الحجاب موضوعاً دسماً هذه الأيام؛ إذ يمكنك أن تلج إليه من أبواب عدّة، من باب السياسة ومن باب الدين، أمّا الأكثر إثارة فهو باب حقوق المرأة، حيث صارت المرأة المحجّبة بالنسبة إلى الكثيرين موضوعاً يحتاج إلى «تحرير»، وفقاً لتعبير إحدى «المناضلات النسويات السابقات» حين قالت إنّها توقّفت عن النضال من أجل حرّية المرأة عندما وجدت إلى جانبها نساء يسمّين أنفسهنّ مناضلات وهنّ محجّبات!
ما حداها إلى «الكفر» بالقضية برمّتها؛ فحجاب المرأة كرمز أقرب إلى العبودية منه إلى الحريّة.
وإن اختلفت المفردات، إلّا أن المضمون مشابه لما تعبّر به بعض النسوة اللواتي خلعن الحجاب أخيراً، ففي تقرير تلفزيون الجديد حول «ظاهرة» خلع الحجاب، أشارت إحدى الفتيات التي خلعت الحجاب إلى أنّ فتيات كثيرات يتمنَّيْن لو يستطعن القيام بهذه الخطوة، إلا أن قمع المجتمع يحول دون ذلك.
كلمتها التي أثارت هلع بعض المتدينين والمتدينات على مواقع التواصل الاجتماعي؛ ومنهم من رأى أنّ ثمّة مؤامرة خلف ذلك، أو أنّ الفتاة «مأجورة»؛ إلى حدّ أنّ بعضهم دعا إلى مقاطعة القناة!
هل ما سلّطت القناةُ الضوء عليه يُعَدّ أمراً مستجداً؟ وهل ظاهرة خلع الحجاب تُعَدّ تهديداً للمجتمع «المتديّن»؟

كيف لنا أن نتحدّث عن أنثى لفتاة لم «ينبت» لها جسد بعد؟

إنّ أبرز خاصيّة لأيّ مجتمع هي الحراك الداخلي، وهذا ينطبق على المجتمع المتديّن أيضاً، ومن تجلّيات هذا الحراك في موضوع لباس المرأة هو البانوراما المتنوّعة من أنماط الحجاب، أضف إليها أصل الحجاب أو عدمه، وهذه الأنماط ليست جامدة مع خطّ الزمن، بمعنى أنّ من تتبنّى نمطاً في فترة محددة قد تراها تنتقل إلى نمط آخر في فترة أخرى، وإن كان للانتقال من نمط إلى آخر (ولا سيما إن كان إلى النقيض) ثمنه وأحكامه في المجتمع المحيط، قد يمنع الفتاة من تحويل فكرتها إلى واقع في حال شعورها بأنّ الثمن أكبر من أن تتحمّله.
وهذا الانتقال (وبالأخص من الحجاب إلى عدمه) ليس أمراً طارئاً أو حديثاً، فقد كان يحدث في المجتمعات السابقة وإن بلامبالاة للظاهرة (من قبل الإعلام تحديداً). أمّا اليوم، فقد أصبح هذا الموضوع بامتياز مادّة جاذبة للجمهور، ما يدفع الإعلام إلى تسليط الضوء عليه (واللافت أن الإعلام الديني يقدّم الانتقال من عدم الحجاب إليه والإعلام الآخر يقدّم الظاهرة المقابلة).
كذلك لا يخفى على أحد أن ظاهرة خلع الحجاب كانت تحصل بتواتر أقل، فمجتمعات اليوم أكثر انفتاحاً، وعوامل محورية كرؤية الفتاة لدورها وموقعها في المجتمع، وعامل التعليم (والتعليم العالي) والعمل، والاستقلالية الاقتصادية (إلى حدّ ما) كلّها تؤخذ بالاعتبار عند دراسة الأسباب والعوامل المتعلّقة بظاهرة خلع الحجاب، وهي نفسها أيضاً تؤخذ بالاعتبار عند دراستنا لظاهرة حجاب السيدات اللواتي يتّخذن قرار الحجاب وهنّ ينتمين إلى أسر لم تلزمهن بارتدائه صغيرات (وهذه ظاهرة جديرة بالدراسة، وخصوصاً لسيّدات يتبوأن مناصب مهمّة، سواء في الدول العربية أو الأوروبية والأميركية).
طبعاً، يرى الكثيرون أنّ الحجاب أمر منافٍ للاختيار، فهو يحدث في سنّ أصغر من أن يكون للفتاة رأي قد تشكّل بعد، وبالتالي إن قرار الحجاب هو قرار والديها. ويغفل هؤلاء عن أنّ التربية برمّتها هي خيارات يختارها الأهل لأولادهم؛ من أصل التديّن أو عدمه، إلى تبنّي قيمةٍ ما أو لفظها (أياً كانت، سواء كانت قيمة اجتماعية أو دينية أو غيرها) إلى الخيارات السياسية، وخيار التعلّم ومستواه ونوعه... إلخ. فالتربية الوالديّة تفترض الفرض لما يعتبره الأهل (لا غيرهم) صواباً أو خطأً. ويبقى العامل الحاسم بين أسرة وأخرى هو تنمية التفكير الناقد وتبنيه كقيمة أساسية في العملية التربوية. وبالتالي إن عملية «تحجيب» الفتيات هي تجلٍّ طبيعي لتربية المجتمع المتديّن لبناته تماماً كما يكون إلزام الفتاة بعدم ارتداء الحجاب هو خيار أهل آخرين.
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أنّ مسألة تحديد السنّ الذي ترتدي فيه الفتاة الحجاب لا بدّ أن تكون مثار بحث عند المعنيين، فالمبرّر الذي يقدّمه الدينيّون للحجاب هو خروج المرأة إلى المجتمع كإنسان وليس كأنثى، فكيف لنا أن نتحدّث عن أنثى لفتاة لم «ينبت» لها جسد بعد؟!
كانت المرأة المحجّبة ترمز إلى العبودية، لكن ليس لكونها محجّبة، بل كان ذلك لكونها امرأة. وكذلك كانت النسوة في أنحاء العالم، ولا تزال بعض النساء (من محجّبات وغيرهنّ، ومن مُسلِمات وغيرهنّ) يرزحن تحت ظروف تجعل منهن «مستعبَدات» مستلبات الرأي والقرار والحياة في بعض الأحيان.
إن العبودية والحريّة هما مفهومان أعمق بكثير من أن يُقاسا بعدد قطع الثياب التي ترتديها المرأة، وفيما إذا كانت تغطي شعر رأسها أو لا. لعلّ نقطة البداية تكون في نبش الصور النمطية في لاوعينا الجماعي (أو الفردي)، وفكّ التعالق بين الشكل الذي نراه للمرأة في الخارج وسلسة لا تنتهي من أحكام قيمية هي داخل رؤوسنا ليس أكثر!
* باحثة في الاجتماع والأنثروبولوجيا