ألقى عالم الآشوريات الفرنسي جان بوتيرو يوماً محاضرة يدافع فيها عن ما كان يسميه «علم لا فائدة منه»، وعنى به علم الأركيولوجيا، ولكن بغض النظر عن فائدة مثل هذا العلم لنهضتنا كعرب، فإن السؤال الذي يجدر بنا كعرب وشرقيين أن نطرحه على أنفسنا، هل نجحت الإنتلجنسيا العربية ومناهج التعليم الرسمية في تدريس هذه الحضارات بعيداً عن الفنتازيا التاريخية؟
بحيث صار هناك وهم لدى البعض بأن تلك الحضارة القديمة مختلفة تماماً عن الحضارة العربية الإسلامية، أو أنها كانت متفوقة عليها، وأن الحضارة العربية هي بنت الصحراء فبالتالي نبتت كشعب شيطانية، عقب طوفان الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي.
لا شك أن حضاراتنا القديمة بمختلف تجلياتها كانت غنية ومتقدمة عن غيرها، ولكن يبدو أن هذا التفوق خلق في بلادنا، بعد اكتشافه، حنيناً لهذا الماضي المتخيل، وتحقيراً لهويتنا كعرب ومسلمين. يصور هذا الماضي ليس فقط على أنه مختلف تماماً، عما جاء بعده، ولكنه متقدم عليه حضارياً. بمعنى أن هذه النظرة ترى أن البابليين مثلاً أكثر تقدماً في الهندسة والقوانين والعلوم والثقافة الأخلاقية عن عرب الحقبة العباسية.
وهذا الأمر لا ينطبق فقط على العرب من مشارقة ومغاربة ولكنها أيضاً عقدة موجودة لدى أشقائنا الإيرانيين والأكراد. تقوم الفرضية هنا على مبدأ مفاده أن حالة بلدان كسوريا مثلاً أو العراق كانت أفضل في العصور القديمة ما قبل الميلاد مقارنة لحالتها في الحقبة الإسلامية. وهو تصور مغلوط مبني على معرفة تاريخية ضحلة بماضي هذه البلاد.

بدأ أول ظهور لعلم العرافة في الألفية الثانية قبل الميلاد

سنطرح هنا تصورنا من خلال مسألتين، الأولى هي مسألة التواصل الحضاري بين الحضارتين القديمة (ما قبل مسيحية) والعربية الإسلامية. وأن ما جاء به العرب والمسلمون عموماً لم يكن بالضرورة مخالفاً تماماً لما كان موجوداً أصلاً في بلادنا، بل لعله جاء مكملاً ومطوراً ومتمماً. المسألة الأخرى، لم تكن بلادنا قبل الإسلام ومجيء العرب إليها تنعم بمستويات عالية من الحرية الجنسية والفكرية والاجتماعية بالضرورة. ولم تكن قوانينهم أكثر رحمة ومنطقية من القوانين التي جاءت بها اليهودية والمسيحية والإسلام لاحقاً، وهو ما سنسعى لتوضيحه.
حضارة المعاجم تقليد متوارث
سنعقد مقارنة بين الحضارتين المسمارية والعربية الإسلامية، ولكن قبلها علينا توضيح تسمية حضارتنا بـ«العربية الإسلامية». فهو الاسم الذي اعتمده ودافع عنه عالم التاريخ العربي الفذ جورج صليبا في جامعة كولومبيا الأميركية. وهي هنا تشمل المسلمين وغير المسلمين والعرب وغير العرب. لذا ننوي التنويه بأن كلما ورد مصطلح «العرب المسلمين» في مقالتنا يكون القصد منه كل أبناء ما عرف يوماً بدار الإسلام أو دار الخلافة من مسيحيين ويهود وصابئة وفرس وسريان وبربر وأكراد وغيرهم.
أول ما ورثته الحضارة العربية الإسلامية تقليد رافديني عريق يعنى بالمعاجم والقواميس وكان على شكل قوائم تطورت لما يشبه الموسوعات العلمية البسيطة. لم تنتج أي حضارة في العالم قبل العصر الحديث، معاجم حسب عالم الشرق الأدنى القديم مارك فان دي ميروب سوى حضارة بلاد الرافدين وحضارتنا العربية الإسلامية. كان على العالم أن ينتظر مجيء النهضة الأوروبية ليرى من جديد قواميس وقوائم مفردات ومصطلحات.
ولكن لم كان الرافدينيون وبعدهم المسلمون العرب معنيين بالمعاجم؟ الجواب على ذلك يكمن في مسألتين: الأولى أن كلا الحضارتين كان ثنائي اللغة. ففي حضارتنا العربية الإسلامية كان لزاماً على العلماء والفقهاء إتقان العربية والفارسية أو العربية والسريانية ولاحقاً التركية. وهو ما تجده اليوم في النجف وقم، فقلّما تجد معمماً لا يجيد اللغتين العربية والفارسية معاً. والشيء ذاته في بلاد الرافدين، لم تكن لتجد عالماً في ذلك الزمان لا يتقن السومرية والأكدية معاً في مدارس بابل وأور وأوروك إلخ، وهو الأمر الذي دفع بهم إلى ابتكار نظام يساعد الطلاب الذين لم يكونوا من أرض بابل، أو لم يعودوا على اتصال مع السومرية كلغة حية لفهم النصوص القديمة. وهو الأمر الذي وظفوه في حفظ تراثهم وتطويره.

النص الحي

الحضارة الرافدينية كانت معنية بالتراث المكتوب كنص شبه مقدس تعاد قراءته وإنتاجه كل جيل على مدى أكثر من 4000 سنة. ويأخذ كل جيل على عاتقه فكرة تطوير النص. فالفهم الرافديني للنص المكتوب يختلف عن فهمنا نحن في الوقت الحالي له، فلم يكن الكاتب معنياً بحفظ النص الأصلي كما هو، بل كان مساهماً فيه، بمعنى آخر وضمن شروط وضوابط معينة كان كبار الكتبة وعلمائهم مطلوب منهم تقديم قراءات جديدة للنص سواء كان ملحمة أو قانوناً أو أسطورة، ويسمح له حذف كلمات لم تعد متداولة وإضافة فقرات لم تأتِ بالنص الأصلي. لذلك عرف علماء الآشوريات هذه العملية بحفظ «النص الحي»، فالنص هنا يتطور وكذلك الملحمة أو القصيدة، مع حفظ نسخ من النص الأصلي بألواح في مكتبات المعابد والقصور ليطلع عليها الكتبة.
لعل هذا الأمر يشبه ما حصل لنا مع «أهل الحديث» الذي نشأ كثير منهم في العراق والمدينة اللذين كانا متأثرين بالثقافة الآرامية بشكلها اليهودي على الأقل والذين اتبعوا أسلوباً شبيهاً. فنلاحظ هنا تطور نصوص الحديث والرواية عن النبي وحياته من أول نص مكتوب وصلنا عن السيرة النبوية، وهي سيرة ابن اسحاق (ت 768 في بغداد)، حتى بقية السير والروايات المتأخرة. ما يدفعنا لطرح سؤال آخر هنا، هل جرى التعامل مع النص القرآني وفق المنهجية نفسها أول نزوله؟ أي منهجية «النص الحي»، فنحن نعلم أنه كان هناك نصوص كثيرة وهناك نظريات تسعى لتفسير الاختلاف بين النسخ سبقت اعتماد نسخة نهائية له. سنترك هذا الأمر لأهل الاختصاص، وفي كل الأحوال لم تكن هناك اختلافات جوهرية بين كل تلك النصوص من شأنها إضعاف أصالة النص.
أما السبب الثاني لاهتمام الرافدينيين بالمعاجم فكان لخدمة حاجاتهم القانونية والتجارية والإحصائية. كانت ألواح القوائم المشكلة للمعاجم مشكلة من مفردات سومرية أكدية بشكل أساسي. وهذه القوائم ذات القيمة العملية لا اللغوية فحسب، اعتمدت نظام تصنيف يقسم المفردات حسب درجة نفعها لهم. بمعنى أنك اليوم إن فتحت معجماً ما، لوجدت الأسماء مرتبة حسب الأبجدية حرف ألف، فباء، فتاء إلخ. أما الرافدينيون فكانوا يرتبون الأسماء حسب حاجة حضارتهم الزراعية لها، فقد تجد الحيوانات البرية المؤذية كالذئاب والثعالب والضباع والأسود والفهود في قائمة، وفي خانة أخرى تجد أسماء حيوانات المزارع المدجنة كالخراف والأبقار والمعز، وفي قائمة أخرى تماماً تجد الطيور والأسماك في قائمة منفصلة للمخلوقات غير المتاحة بسهولة ويجب صيدها. ولكن بقي التقسيم الأساسي بالنسبة إلى أسلافنا هو بين الحيوانات الداجنة وتلك البرية، بين ما هو متاح وما هو حر، وما هو مؤذٍ إلخ.

ولادة النحو والبلاغة ونهجها

الاهتمام الشديد باللغة الأكدية والسومرية وبعدها العربية كلغات مقدسة وثقافية مهّد لولادة علم النحو والقواعد بين «الأعاجم» في الإقليم كالحثيين والحوريين وغيرهم. والظاهر أن الضليعين في اللغتين السومرية والأكدية كانوا قادرين على تمييز المدارس النحوية المختلفة كما حصل لدينا في العربية بين مدرستي البصرة والكوفة. ففي بلاد الرافدين كان هناك بابل وأور واريدو وغيرها وهو تشابه موروث آخر يعكس شخصيتنا الحضارية إن جاز لنا الاستنتاج.
ولكن ذلك لم يكن الأمر الوحيد، ففي المدارس الرافدينية كان الطلاب مطالبين أن يتقنوا ويحفظوا أكبر قدر ممكن من المصطلحات الزراعية والرعوية وتلك المتعلقة بعالم الزراعة والأرض. فعلى سبيل المثال فإن غالبية الطلاب كانت تتخرج لتعمل ككتبة لدى أحد ملاكي الأراضي سواء كانوا أسراً غنية أو معابد أو القصر. وهنا كان عليهم تطوير لغتهم الوصفية وتنويعها وإثرائها لوصف كل الحالات. بمعنى أنه كان هناك أوصاف للماشية وما تأكل ونوعية الغذاء الذي سيترتب عليه نمو الصوف الفلاني وزيادة أوزانها ونوعية لحومها. وكانت الخراف أو الأتان أو المعز ولاحقاً الإبل والخيل تمتلك كما في العربية أسماء كثيرة تسمي وتوصّف مراحل تطورها ونموها وطبائعها.
ويمكن قول الشيء ذاته على الطيور الداجنة والنباتات والأشجار. ولم يكن هذا الأمر عبثاً لغوياً لا طائل منه، بل كان يقال مثلاً أن فلاناً باع خروفاً أسود من فصيلة كذا، علفه كذا، صوفه كذا لشخص آخر. فأنت هنا تملك بالضبط الذخيرة اللغوية والبلاغية اللازمة لوصف خروف بهذه المواصفات بمفردة واحدة وذلك لتسهيل عملية البيع أو الرهن وضمان دقتها. وهو أمر سيتكرّر معنا لاحقاً في العصر العباسي مع تطور اقتصادنا الزراعي وإنتاجنا ما اضطرنا لإنتاج معاجم لغوية كثير ذات بلاغة عالية الدقة لأغراض إدارية وفقهية وما شابه.

قراءة النص والعالم

طوّر الرافدينيون ضمن حضارتنا المسمارية علوماً تدخل في باب الخرافة بالنسبة إلينا في وقتنا الحالي، وهي مثل قراءة الطالع والعرافة والتنبؤ بالمستقبل ولكن التقنيات الدقيقة لهذا التقليد كانت تتطلب مسألتين جوهريتين هي الملاحظة والتحليل. فوفق نظام صارم يستوجب سنوات من الدراسة، درس البابليون أصول الملاحظة الدقيقة والشاملة لكلّ تحول أو ما خفي في الكون (قراءة السماء كحركة النجوم والكواكب) وتسجيلها. وهي المنهجية نفسها التي اتبعت مع النص المكتوب. وبعد تسجيل الملاحظات كانت تأتي عملية التحليل وفق قواعد لنقل شبه علمية لها منطقها الخاص، وهما المهارتان اللتان تطورتا لاحقاً لخدمة مسيرة العلم كما يرى المختصون بتاريخ العلم. علم التسجيل الدقيق للتحولات الكونية أو قراءة السماء طور علم النجوم والكواكب فأوجد لدينا لاحقاً علم الفلك، وهو العلم الذي برع فيه العرب المسلمون أيضاً في فترة لاحقة.
أما علم قراءة النص وتحليله فأوجد علم تأويل وتحليل النص، بمزيج من «التفكيك» والاستنباط، طبعاً لا أتحدث هنا عن التفكيك الفوكوي. ولعل هذه المنهجية هي السلف التراثي المحلي لما صار يعرف لاحقاً لدى بعض الفرق الهرطقية في الإسلام بـ«علم الجفر». ولكن كيف بدأت العرافة؟ وهل هي أحد الأسلاف البعيدين للعرفان الإسلامي؟

الدور السياسي للعراف

بدأ أول ظهور لعلم العرافة في الألفية الثانية قبل الميلاد، وذلك في القرنين الـ19 و18 ق.م، حين كانت المنطقة تشهد حروباً مدمرة استمرت 250 عاماً. كانت فترة عصيبة على أسلافنا في بلاد الرافدين والشام وفقد الناس بيوتهم وهجروا واستعبدوا وأحرقت مزروعاتهم. وانتشرت الدسائس بين الملوك وأكلت الذئاب بعضها كما يقال. وهنا ظهرت بابل منتصرة بقيادة حمورابي الداهية البابلي بعدما أثبت أنه ملك مشرع ودبلوماسي بارع وقائد صلب وحكيم.
أمام هذه الفوضى وغياب الاستقرار فقد الناس الثقة بالملوك كآلهة أو ممثلين للآلهة، فاضطر الملوك أول مرة الاستعانة بشريحة من الكتبة أو الكهنة لا نعرف بالضبط كيف ظهروا ولكن أول ذكر لهم كان في تلك الحقبة. وكانت مهمة هؤلاء هي التنبؤ للملوك بنتائج الحروب وما يدور في بلاطات الخصوم والعمل كمبعوثين لزيارة بلاد العدو والتأثير في معنوياتهم بنبوءاتهم.
إلا أن الأمر كان أكثر تعقيداً من مجرد نبوءات عشوائية. فالعرافون الرافدينيون لم يكونوا مجرد مشعوذين، بل اعتمدوا على ما بدا لهم (ولنا إلى حد ما) نظاماً مجرباً ومعقداً ومدروساً من الطرق للوصول إلى الحكم على قضية ما أو للتوصل إلى نبوءة ما، والتي ستصدر كقانون أو قرار سياسي على لسان الملك على أنه مشيئة الآلهة.
ويخيل لي أن هذه العملية المعقدة أشبه بالأحكام التي كان بعض فقهاء المسلمين خاصة الشيعة والمتصوفة يتوصلون إليها بالعرفان. الجدير بالذكر أن المتصوفة والعرفان كنظام معرفي شرقي قديم ازدهر بين القرنين 12-16 ميلادي. وهي فترة انهيارات اقتصادية وهزائم عسكرية شهدت سقوط الخلافة في القاهرة وقرطبة وبغداد، وظهور قوى بدوية غريبة مشابهة إلى حدّ ما لفترة بداية الألفية الثانية قبل الميلاد 1900-1700 ق.م التي شهدت انهيار الحضارة السومرية ومجيء العموريين الرعاة وبداية عصر جديد.
تطورت العرافة الرافدينية بمرور الزمن وصار لدينا أرشيف ضخم من المعلومات المتراكمة والمتوارثة. وصار كل عراف يأتي فينهل من عمل سابقه وفق طرق وقواعد يتدربون عليها منذ الصغر. ومن أشهر علماء بابل وعرافيها من الذين وصلتنا أسماؤهم وتكرر ذكرهم في ألواح بلاد الرافدين، كان «ايزاكيل كن ابلي» الذي عاش في القرن 11 ق.م في مدينة بورسيبا جنوب غرب بابل قبل انتقاله إلى بابل. انحدر ايزاكيل كن ابلي من أسرة نبيلة من العلماء تعود أصولها إلى 8 قرون سابقة حين خدم جدهم ككبير حكماء حمورابي وصارت العودة والانتساب إليه شرفاً عظيماً آنذلك. وكما يلاحظ ديودروس الصقلي أن الحكماء البابليون كانوا يتوارثون العلم أو المهارات الفلكية واللغوية والقانونية والرياضيات أباً عن جد، ويبدؤون الدراسة والتحصيل مبكراً من خلال تدريب وتعليم آبائهم لهم وهو ما سيحصل لاحقاً مع فقهاء المسلمين وأحبار اليهود. ألا يذكرنا ذلك بالأسر الهاشمية أو ما يعرف بالسادة والأشراف؟ أو لربما يذكرنا أكثر بسليلي أقطاب الصوف كالكيلانية، والنقشبندية والرفاعية، الذي صاروا نبلاء عصرهم بتوارثهم العلم الديني والوجاهة الاجتماعية.
كان العرافون والكهنة والكتبة الرافدينيون يلتقون بما يعرف ببيوت الآداب، وهي أشبه ما تكون بالمكتبات أو دوائر السجلات الرسمية. وفيها كان يتم تبادل العلوم، وقراءة النصوص وتحليلها وإعادة قراءتها مرات عدة لاستجلاء الحقيقة ففيها كل الإشارات التي وضعتها الآلهة لهم.
هذه الممارسات خلقت تقليداً ورثه المسلمون لاحقاً في الثقافة الشعبية وهي الاستخارة بقراءة القرآن، عملاً بالرأي القائل أن الجواب على ما تريد موجود في النص أمامك ولكنك لم تقرأه جيداً. وهو التقليد ذاته لدى الديانات التي سبقت الإسلام لكن بأشكال مختلفة، ويقال هنا إن لدى الإيرانيين عادة استخارة ديوان شاعرهم الحكيم حافظ.

المرأة الرافدينية، كعشتار أم فاطمة؟

هناك أسطورة شائعة عن أن بلادنا كانت تتمتع بحريات جنسية غير مسبوقة وأن مجيء الإسلام خنقها بقهر المرأة وكبتها. وغالباً ما كان القوم يرجعون لنصوص من الشعر السومري أو منحوتات قديمة تزهو بمقاطع عاطفية أو إيروتيكية للعشاق وما إلى ذلك. وهناك من يضع بين أيدينا شهادة هيرودوتس حين زار بابل في حوالى 430 ق. م والتي تحدث فيها عن الجنس المقدس بين عذارى بابل ورجال المدينة وزوارها، وكيف أن المعبد كان يجني مالاً كثيراً من عملية البغاء المقدس تلك. وهو ما دخل في قاموس لهجة العراقيين المعاصرين تحت مقولة «قوادة وعبادة»، وتعبير شعبي ساخر من رجال الدين المحتالين حين يرومون تحويل طقوس جنسية ما إلى شعائر أو حقوق دينية.
أما في الواقع فقد كان الأمر مختلفاً تماماً، فحال المرأة من حيث الحريات الجنسية في بلاد الرافدين لم يكن بعيداً عن حالها في الحضارة العربية الإسلامية. وهو الأمر الذي أكده علماء آشوريات (كجيري كووبر) وآخرون بناء على ما وصلنا من قضايا المحاكم والقوانين الرافدينية. انتمى المجتمع الرافديني لثقافة حوض البحر المتوسط وفق تصنيف العلماء، وهذا يعني أن المرأة كانت تتبع نمط الزيجات البحرمتوسطية والقاضي بالزواج المبكر. وقدّر العلماء عمر الفتيات عند الزواج بحوالى 14 إلى 16 عاماً مقابل 30 عاماً للرجال.
كان متوقعاً من الفتيات الحفاظ على عذريتهم حتى الزواج في كل مجتمعات الشرق الأدنى القديم. وفي الحقيقة إن المجتمع الرافديني القديم ومجمل مجتمعات الشرق كانت مهووسة بفكرة العذرية. ومن خلال العقوبات الواردة في ما وصلنا من سجلات قانونية، لمن فض عذرية فتاة أو زنى أو اغتصب امرأة متزوجة يمكن لنا فهم مقاربة هذه المجتمعات للمسائل التي تتصل بوضع المرأة.
فمثلاً كان القضاء الآشوري العائد إلى حوالى 1200 ق.م (وهو ما يعرف بالعصر الآشوري الوسيط)، يعاقب مرتكب جريمة الاغتصاب بحق فتاة غير متزوجة، بإجباره على تقديم زوجته لتغتصب من قبل والد الفتاة، وفق مبدأ العين بالعين والسن بالسن. وهنا يكون الأب أمام خيارين إما أن يقدم ابنته للجاني ليتزوجها وبالتالي يتحمل الجاني مسؤوليتها المعيشية والاجتماعية بدل الأب، أو يقدمها لشخص ثالث يختاره هو ليتحمل مسؤوليتها. ويجبر الجاني بكل الأحوال على دفع ثلاثة أضعاف مهر الفتاة من الفضة للأب كتعويض.
أما إن كان الفعل الجنسي قد جرى برضى الفتاة ودخل تحت خانة الزنا كما يعرف في الشرع الديني، فلا يجبر الجاني على تقديم زوجته أو أخته أو أي من أهله على مذبح الاغتصاب. ولكن عليه أن يدفع 3 أضعاف مهرها فضة، وتسلم الفتاة لوالدها ليحكم عليها كما يشاء!
يلاحظ هنا أن جرائم الزنى والاغتصاب لدى أسلافنا لم يجرَ النظر إليها على أنها انتهاك لكرامة الفتاة وإنسانيتها بل هي انتهاك لحق الأب أو الزوج! فكسر القانون فيما يتعلق بهذه الموضوعات يمثل انتهاكاً لناموس وعرض رجل الآخر. أي أن هذه المجتمعات الما قبل إسلامية لم تكن مجتمعات عشتارية تحترم المرأة وتساويها بالرجل وتنظر إليها ككيان اجتماعي وقانوني مستقل بذاته.
وتشير السجلات إلى أن حالات الهروب بين العشاق كانت واردة ولكن من الصعب معرفة كم كانت نسبتها. فهروب العاشقين إن نجح قد يجنب الفتاة مصيراً مأساوياً على أيدي أهلها ولكنه لن يعفي الفتى من دفع مهرها المضاعف كما أوردنا. ويمكننا أن نستشفّ من دراسة هذه السجلات أن البغاء كان شائعاً لكنه لم يكن دائماً متاحاً للرجل غير الغني، والذي يعيش في مجتمع محافظ كمجتمع الرافدين القديم، الذي لم يكن يمارس الجنس بحرية كما هي الحال اليوم في الغرب مثلاً. ولمن شاء التعمق أكثر بهذه القوانين عليه العودة مثلاً لعالمي الآشوريات مارثا روثس أو جيري كووبر.

خاتمة

لم تكن الحضارة الرافدينية كنموذج عن الحضارات البائدة مختلفة كلياً عن حضارتنا العربية الإسلامية التي تلتها، وهناك الكثير من المواضيع التي لا يتسع المجال للخوض فيها، كالتشابه في فلسفة العمران وتخطيط المدن وثقافة الطعام وغيرها بين الحضارتين. ومن غير المفيد لنا اعتماد حضارتنا الما قبل عربية كأساس وما جاء بعدها كاستثناء فرض على ما يسميه بعض القوميين روح الأمة، فيقال روح سوريا وروح مصر... إلخ فهذه الروح الجوهرية، إن سلمنا بوجودها، قد ورثتها الحضارة العربية الإسلامية ونحن جميعاً بناتها وأبناؤها وعربتها ووحدنا من المحيط إلى المحيط. فلا داعي لعبادة عصر البطولة المسمارية، وإن كان للجماهير الشعبية بأن تحلم اليوم أن تخرج غداً تحت بيرق مخلص منتظر، فلا تأدوا كل مهدي ثار فيها فقط لأنه بعمامة، فذلك هو روح المسيح ومنجل تموز بعمامة.

مرجع:
Philosophy before the Greeks: The Pursuit of Truth in Ancient Babylonia, by Marc Van De Mieroop, Princeton (2015)
* باحث عراقي