لم تبدأ الحربُ الأميركيّة على الدّولة السوريّة من هُجومها الغادر على قاعدة الشعيرات الجويّة. فالأميركيّون ــ مهما تشدقوا بادعاءات حماية «الشعب» السوري والحرص على المدنيين ــ هم من أطلقوا الحرب بداية منذ ست سنوات عبر حلفائهم وشبكة استخبارات الدّول المحيطة بسوريا وعملائهم (المفضلين) من المُجاهدين الإسلاميين. لكن استئناس معظم الجمهور المستهلك للبروباغندا الغربية ــ حتى في الولايات المتحدة ذاتها ــ وقبوله بما بعد الحقيقة كما تقدمها بيوتات الإعلام الكبرى، جعله يركن إلى السرديّات الغربيّة كما هي، دون بذل أيّ مجهودٍ لوضع الأمور في سياق تاريخي أو استراتيجي.
كما يَلحظ المؤرخ الأميركي بيتر سكوت، فإن أميركا رأت نفسها دائماً بلاد الحريّة والقيم الديموقراطيّة. وقد أنفقت الطبقة المُهيمنة فيها ــ وما زالت تنفق جهداً مكثفاً وبلايين الدولارات للاستمرار في تكريس تلك السرديّة الزائفة فيما يتعارض جذريّاً وبنيوياً مع سياق التاريخ الأميركي منذ إبادة ملايين الهنود الحمر أهل البلاد الأصليين (مرحلة التأسيس)، مروراً بالحروب الأهليّة (مرحلة التكوين)، وانتهاء بحروب (مرحلة الإمبراطوريّة) الخارجيّة عبر العالم. فالجهد الرسمي العسكري الأميركي المُباشر ــ أو من خلال العملاء ــ منذ ما قبل قيام الجمهوريّة إلى قصف القاعدة الجويّة السوريّة أخيراً، كان دائماً سلوكاً عدوانيّاً، دمويّاً ومبدعاً في توظيف الإرهاب الشامل لتحقيق هيمنة الولايات المتحدة على العالم، وسحق أيّ مقاومة في مواجهته.
بل إن سياسة الحُروب الشاملة ــ التي توجد لها بالطبع جذور تاريخيّة ــ إنما يُؤرّخ لها في العصور الحديثة بداية من حملة الجنرال الأميركي ويليام شيرمان الذي قاد ذلك الزّحف المشهور نحو الساحل في عام ١٨٦٤ خلال الحرب الأهليّة الأميركيّة، مكتسحاً كل شيء في طريقه من سكان ومحاصيل لا القوات المعادية فحسب، بغرض كسر إرادة الجنوبيين على القتال. وقد استخدمت ذات المهارات الدمويّة في قمع وتصفية هنود الغرب الأميركي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد الجنرال فيليب شريدان الذي خلف شرمان كقائد أعلى للجيش الأميركي.
ومنذ بداية القرن العشرين أصبحت نظريّة الحرب الشاملة من خلال الإرهاب والعقاب الجماعي شبه عقيدة رسميّة للجيش الأميركي تسافر معه أينما حلّ – في أميركا اللاتينيّة والكاريبي وآسيا. وقد طبقت بقسوة مذهلة ضد ثورة وطنيّة في الفيليبين أخمدت على يد الجيش الأميركي في عام ١٩٠٠ ــ يقول ستيوارت ميللر ــ عبر تنفيذ إعدامات جماعيّة واسعة النطاق بحق الثائرين والمتعاطفين معهم، وإجبار الأثرياء الذين دعموا الثورة على حرق بيوتهم وممتلكاتهم بأيديهم، بينما بُنيت مدارس وخدمات اجتماعية للمناطق التي لم تنخرط بالثورة، وتحالفت مع الأميركي.
في منتصف القرن العشرين، كانت الحرب الباردة مرحلة مثاليّة لترفيع تكتيكات القتل الشامل الأميركي هذه إلى مرتبة الفن من خلال مواجهة كل من يتصدى للهيمنة الأميركيّة بحجة تعاطف ــ ولو مزعوم ــ مع الشيوعيّة. ويقول روبرت بيري إنه قد أتيح حينها لوكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركية الناشئة أن تحظى بأول فرصة لها لتجربة تلك الممارسات مع توسيعها لنطاق البروباغاندا والمعلومات الزائفة وتوظيف هجومات سيكولوجيّة ضد السكان المحليين في الفيليبين بعد تحليل دقيق لنقاط ضعفهم، تضمنت مثلاً استخدام القتل «الإجرامي» للمعارضين بمعنى إعدام وتشويه وتصفية دماء وعرض جثث المقاتلين على نحو يوحي للمحلّيين بأنهم يقاتلون أرواحاً شريرة لا قبل لهم بها.
وقد أعيد تطبيق ذات الدروس البشعة التي نفذت في الفيليبين على نحو أشد سميّة في فييتنام. وتلك مسألة لا يتسع لها المقام هنا، لكن المعروف أن قوات فيتنام الجنوبيّة بالتعاون مع المستشارين الأميركيين شنت وقبل نشوب التدخل الأميركي المباشر بسنوات حرباً شاملة قذرة ضد السّكان المحليين وإدارت وحدات تحت إشراف المخابرات المركزية الأميركية دعيت بـ«فينوكس»، نفذت برنامج اغتيالات ممنهجة لتصفية الكوادر السياسيّة للفيت كونغ واحداً واحداً.
ويقول بيري إنه في عام ١٩٦٥ جمعت المخابرات المركزيّة الأميركيّة خبرتها الواسعة في الحروب الشاملة القذرة على شكل ملفات تدريب مكتوبة، في إطار مشروع أطلق عليه الاسم الرّمزي ــ المشروع إكس ــ، ترجمت فيما بعد إلى عدة لغات لتوفيرها (للدول الصديقة) تحت عنوان «دليل تنفيذي للحروب السرّية»، وقد صدّرت ملفات التدريب تلك إلى معظم تلك الّدول بحلول السبعينيات وتسببت في انتشار غير مسبوق للممارسات الدّموية في صراعات عديدة عبر العالم ضد الثورات الوطنيّة والحراكات اليساريّة في إندونيسيا وكوريا وإيران وجنوب إفريقيا، بل وحتى في بعض بلدان أوروبا الغربيّة. لكن أسوأ التطبيقات وأبشعها كانت دون شك تلك التي نفذتها قوى اليمين العميلة للمخابرات الأميركيّة في أميركا اللاتينية: الأرجنتين وغواتيمالا وتشيلي والسلفادور حيث تجاوزت أعداء ضحايا أعمال القتل المنهج عدة ملايين أغلبهم مدنيّون.
وقد أجريت مراجعة داخليّة في وزارة الدفاع الأميركيّة في عام ١٩٩٢ خلصت إلى أن «المشروع إكس» كان وراء كثير من الممارسات القذرة التي تعلمها ضباط يمين أميركا اللاتينيّة في الأكاديميات الأميركيّة، وعبر فرق التعاون المشترك وتسببت في كثير من الدعاية السيئة للأميركيين.
تطوّر الصورة التلفزيونيّة كشف للجمهور عن سياسات الحرب الشاملة التي قامت بها القوات الأميركيّة خلال غزوها لفييتنام وتسببت في ضغوط شعبيّة دفعت إلى وقف العدوان في ١٩٧٤، إذ شاهد الأميركي العادي وقتها وربما لأول مرّة حرب الأرض المحروقة والقتل الجماعي المتعمد لملايين الفقراء الفيتناميين من دون تفريق.
فتحت حرب فييتنام بوابة فضائح أخرى من الممارسات المشبوهة للاستخبارات الأميركيّة في الولايات المتحدة ذاتها، من التعاون الوثيق مع تجار المخدرات إلى توظيف المافيات لتنفيذ الاغتيالات، مروراً بالتجسس على المواطنين الأميركيين بالجملة، والمفرّق. لكن أجهزة الاستخبارات حذّرت القيادة الأميركيّة من خطورة بالغة على الأمن القومي في حال الاستمرار في تعريض الأجهزة الأمنيّة للضغوطات. وقد نجح صقور الاستخبارات في فرض قواعد عمل تحمي العمل السري في عهد الرئيس كارتر، وسّعها الرئيس ريغان في الثمانينيات إلى ما يشبه حصانة كاملة من المساءلة.
راكمت المخابرات الأميركيّة خبرة خاصة في توظيف العملاء الإسلاميين بالذات لخدمة أجنداتها الاستراتيجية من خلال العمليّة المعقّدة التي استخدمت لإسقاط النظام اليساري في أفغانستان ومواجهة التدخّل السوفياتي ــ حينها. وقد نجحت تلك المنظومة التي شملت تجمع أجهزة الاستخبارات في السعوديّة والباكستان والأردن ومصر وإسرائيل وغيرها وبإدارة المخابرات المركزيّة الأميركيّة في استقطاب آلاف من الإسلاميين من العالم كلّه خدمة للمشروع الأميركي وتسببت الأسلحة المتطورة المضادة للطائرات وللدروع التي سلّمها الأميركي للمجاهدين عبر الباكستان في خسائر فادحة للقوات السوفياتيّة التقليديّة انتهت بانسحابها لمصلحة تحالف من قوى العصابات التي ما زالت تحكم تلك البلاد إلى اليوم.
وفي إطار ذات التحالف الاستخباراتي الإقليمي وبالتعاون مع قوى اليمين اللبناني، حاولت المخابرات المركزيّة أن تمارس ذات اللعبة المشبوهة ــ وإن على نطاق أصغر ــ في سوريا من خلال تحريك «الإخوان المسلمين» بداية الثمانينيات إلا أن الظروف الموضوعيّة لم تكن ناضجة حينها لنجاح العمليّة، وتمكنت الدّولة السوريّة من استيعاب تلك الموجة الأولى.
تطورت قدرات الاستخبارات منذ عهد ريغان من سياسة دفاعيّة حذرة في مواجهة المواطن الأميركي العادي إلى هجوم «ديبلوماسيّة الرأي العام» وهي مجموعة أنشطة تستهدف الترويج لسياسات الولايات المتحدة الخارجيّة في دعم قوى اليمين وصياغة صورة الإمبراطوريّة على نحو إيجابي في ذهن المواطنين نقيضاً للواقع.

فتحت حرب فييتنام بوابة فضائح أخرى للاستخبارات الأميركيّة في الولايات المتحدة نفسها
وقد تشكل فريق رسمي لإدارة تلك الأنشطة في ظل مجلس الأمن القومي، ويتبع مباشرة لمدير الاستخبارات الأميركيّة ــ وكان حينها وليم كايسي ــ وقد أضاف هذا الفريق فرقاً نوعيّاً في عمليات الاستخبارات مركزاً على الدّعاية وحرب الأفكار وصناعة الحقيقة. وقد ساهمت معارف الفريق في تدعيم الجهود السرّية للاستخبارات الأميركيّة في إسقاط الاتحاد السوفياتي في ١٩٩١، وأنظمة أخرى في شرق أوروبا لا سيما ألمانيا الشرقيّة ويوغسلافيا وبولندا.
في التسعينيات وضمن موجة الخصخصة النيوليبراليّة التي اجتاحت اقتصادات العالم الغربي، مُنح المقاولون الخاصون عبر شركات الدّعاية والإعلان موطئ قدم في فضاء العمل الاستخباراتي الموجه، وتولت شركات أسسها عملاء سابقون وخبراء تسويق في إدارة منظومة متكاملة من أعمال الخداع ضد الشعب الأميركي وشعوب العالم لتمرير عدوانين على العراق، وحصاراً ظالماً بينهما.
تطورات التكنولوجيا والاتصالات سمحت للأميركيين في عهد الرئيس باراك أوباما بتغيير منظومة الحرب إلى جيلها الرّابع، فأعيدت الكَرّة من جديد لمحاولة إسقاط الدّولة السوريّة. الأميركيون لم يعودوا في حاجة إلى إبقاء قواتهم عرضة للهجمات على الأرض، واكتفت بإدارة (مجاهديها) من خلال ذات المنظومة الاستخبارية التي أثبتت فعاليّة عالية أيام أفغانستان ــ عبر الشاشات والأجهزة المحمولة والتنسيق مع مخابرات الدول المجاورة في سوريا لتمرير الأسلحة والمعدات والأموال والمقاتلين والتعليمات.
لم تكن حرب السنوات الست إلى الآن سهلة على السوريين، لكنهم صمدوا على نحو يثير الإعجاب، وبقيت الدّولة السوريّة والجيش متماسكين وفعّالين في المواجهة - مستفيدين دون شك من دعم الحلفاء الروس والإيرانيين والمقاومة في لبنان - على نحو أفشل الاستراتيجية الأميركيّة الرّامية لإسقاط النظام وتحويل سوريا إلى دولة فاشلة من تحالف عصابات لا يمكن أن يرمي إسرائيل بوردة.
هذا فقط ربما يمكن أن يفسّر بدايات التحول في الموقف الأميركي للعودة إلى نموذج الحرب من الجيل الثالث، وتدخّل القوات الأميركيّة مباشرة في القتال مع مجاهديها الإرهابيين ضد نظام دمشق سواء من الجو أو حتى على الأرض.
من أجل كل ضحايا ظلم الإمبراطوريّة عبر عشرات السنوات من القتل والترويع الأميركي، يجب أن تنتصر سوريّا.