حين يبدأ الإعلام الأميركي بالتركيز على القدرة العسكرية لبلدٍ ما، والتعظيم من شأن جيشه وصواريخه وخطره، كما يحصل اليوم مع كوريا الشمالية، فإنّ هذا ليس الّا مدعاة للقلق. كوريا الشمالية هي أصغر بكثير من كوريا الجنوبية، واقتصادها أضعف، فيما سوول تمتلك تكنولوجيا عسكرية متقدّمة للغاية، وهي تصنع ــــ مثلاً ــــ إحدى أحدث الدبابات في العالم، وتملك التكنولوجيا والموارد لصنع أي منظومة سلاحٍ لو شاءت (بما فيها الأسلحة النووية).
كوريا الشمالية معزولة ولا تشكّل خطراً على أحد، بل كان جلّ طموحها، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، مجرّد الصمود واجتياز مرحلة الحصار والأزمة والتقشّف، على أمل تغيّرٍ ما في النظام الدولي.
أمّا المقارنة مع اميركا، فهي غير جائزة أساساً. عسكرياً، الفارق بين أميركا وبين أي دولةٍ منافسة هائلٌ لا يقاس. لهواة «المساواة» بين أميركا وروسيا: الزيادة في الميزانية الدفاعية الأميركية هذه السّنة (الزيادة السنوية فحسب) هي أكبر من كامل الميزانية العسكرية الروسية (بالدولار). من زاوية أخرى: الميزانية التي طلبتها ادارة استخبارات الدفاع الأميركية لهذا العام ــــ حتى لا نتكلّم على الفروع الرئيسية للجيش ــــ توازي الميزانية العسكرية الروسية مرّةً ونصف مرة. في الحقيقة، لم تقم كوريا الشمالية بتطوير برنامجها الصاروخي حتّى الثمانينيات (وبصواريخ سكود سوفياتية قديمة)؛ فالنّظام قبل ذلك كان، من جهةٍ، مرتاحاً الى قدرته على خوض حربٍ تقليدية ضدّ الجار الجنوبي. وكان مطمئناً، من جهةٍ أخرى، الى أنّ المعسكر الشرقي لن يسمح للجيش الأميركي بضرب كوريا الشمالية أو اجتياحها من دون ردّ وتدخّل، ثم تغيّر العالم ووجدت كوريا نفسها وحيدة.

اللعبة النووية

بالمعنى العام والشامل، فإن «قواعد اللعبة» بين كوريا الشمالية وبين أميركا، منذ التسعينيات وما قبل، تشبه وضع دولٍ كايران والعراق (سابقاً) وكوبا وغيرها، تعتبرها واشنطن دولاً مارقة وتمارس معها سياسة العزل وتغيير النظام. المغزى هنا هو أنّ ثلاثية «العقوبات\ المفاوضات\ الحرب» التي تمارسها أميركا مع أعدائها «الضعفاء» لا تهدف الى استخلاص تنازلاتٍ معيّنة، أو تأهيل هذه الأنظمة والتصالح معها ودمجها في النظام العالمي. الهدف النهائي، والوحيد، لكلّ هذه السياسات هو تغيير النّظام أو خلق «ثورة مضادة» في الداخل، وأي شيء أقلّ من ذلك يعني الانتقال الى الأسلوب التالي: العقوبات تهدف لضغط النظام وكسره وإفشاله اقتصادياً، المفاوضات و«الاتفاقات» هدفها تشجيع فئات موالية للغرب داخل النظام وتغليبها وتشجيع «انقلاب ساداتي»، والحرب تأتي إن فشل كلّ ذلك. حتى حين فاوضت واشنطن بيونغيانغ، في أواسط التسعينيات، على ايقاف برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات ثمّ ارتدّت أميركا على الاتّفاق، يقول المحيطون ببيل كلينتون بأنّه لم يوقّع مع نيّة خداع الكوريين والتملّص من التنفيذ لاحقاً، بل هو وقّعه فقط لأنّه افترض، وقتذاك، بأنّ النّظام على وشك السّقوط وأنّه لن يضطرّ يوماً الى تنفيذ ما اتّفق عليه. حين اعتبرت كوريا الجنوبية أنّ النّظام يترنّح، اعتمدت سياسة «الشمس المشرقة»، ومدّت جسور التعاون مع بيونغيانغ ــــ تمهيداً لـ«انتقالٍ سلس» بعد السقوط ــــ ولكن حين تبيّن أن النظام تجاوز الأزمة وسيصمد، جاءت إدارات كورية ألغت أغلب «اتّفاقات الأخوة» السابقة، وعادت الى سياسة الحصار (منذ أشهر قليلة، أعلنت سوول انهاء تعاونها في المنطقة الصناعية المشتركة في كايسونغ وإقفال المصانع الجنوبية التي بنيت فيها مع أنّ الخسائر، بحسب تقريرٍ نشره معهد «سايس»، تقع على الجنوبيين أكثر بكثير من الشماليين).
من هذه المنظور، لم تكن الحرب «ضرورة» لأميركا لمجرّد امتلاك كوريا برنامجاً نووياً، وكان في وسع واشنطن استكمال سياسة العقوبات وانتظار سقوط النظام. الأميركيون يزعمون بأنّ كوريا، مع أنها أثبتت القدرة على تنفيذ تفجيرٍ نووي، الّا أنها تحتاج سنوات لتحويله الى سلاحٍ وتصميم رأسٍ نووي «معياري»، ثم تصغيره الى درجة تسمح بوضعه على صاروخ. حتّى لو امتلكت كوريا سلاحاً نووياً فاعلاً، فإنّ أميركا تراهن بأنها ستظلّ قادرة على ضرب بيونغيانغ إن دعت الحاجة، وتدمير برنامج الصواريخ مثلاً، من دون أن تردّ كوريا بالنووي، وتخاطر بإبادة شعبها على يد الأميركيين. حتّى لو فشل هذا الرّهان، في السيناريو الاسوأ، واستخدمت بيونغيانغ السلاح النووي، فإنها ستضرب به كوريا الجنوبية (وهذا ثمنٌ مقبول)، ولا يمكنها أن تطال أميركا. المسألة ذاتها تنطبق على الصواريخ: الصواريخ الكورية البالستية ــــ حتّى سنوات قليلة ــــ كان في وسعها، في أفضل الأحوال، ضرب القواعد الأميركية في اليابان وكوريا الجنوبية حين تقوم الحرب، وتأثيرها (لو استخدمت برؤوس تقليدية متفجرة) لن يكون هائلاً، وقد تتمكن الأنظمة الدفاعية، التي تعجّ بها سواحل اليابان، من اسقاط معظمها.
المشكلة هي حين يتطوّر المساران بشكلٍ متوازٍ، فتبدأ كوريا بانتاج أسلحة نووية وتصغيرها، فيما هي تبني صواريخ تزداد حجماً وتقنية سنة بعد سنة، حتى تصل الى الصواريخ العابرة للقارات، التي يمكن أن تضرب أي بقعةٍ على البرّ الأميركي. هنا، يصبح الرهان مختلفاً بالنسبة الى أميركا، ويضحي «عامل الخطر» غير مقبولٍ؛ ومن هنا الدافع الأميركي لايقاف هذا التقدّم قبل أن تصبح كوريا الشمالية قوّة نووية «شرعيّة»، وصواريخها مصوّبة على نيويورك وواشنطن ولوس انجلس. وهذا ليس لأنّ كوريا ستستخدم هذه التقنية، ما أن تحصل عليها، لضرب الولايات المتّحدة بل على العكس تماماً، لأنّ هذه القدرة ستعطي كوريا الشمالية نوعاً من «حصانةٍ» ضدّ الخيار العسكري الأميركي (والأميركيون يفهمون أنّ النّظام الكوري، إن لم تسقطه المجاعة والفاقة في أواخر التسعينيات، فهو لن يسقط من الداخل بسهولة أو بسبب عقوبات).
منذ سنوات، بدأت كوريا بانتاج أجيالٍ جديدة من الصواريخ، تعمل بالوقود الصلب وتختلف جذرياً عن تطويرات «سكود» التي هيمنت على الترسانة الصاروخية في الماضي؛ وهي أشبه بالصواريخ الحديثة التي تصنعها الصين وروسيا من صواريخ الستينيات. كما أنتجت، وجرّبت بنجاح، إطلاق صواريخٍ بالستية من الغواصات. وبدلاً من بضع تجارب صاروخية في السنة، أقامت كوريا العام الماضي عشرات التجارب على نماذج مختلفة. في العرض العسكري الأخير في العاصمة، في الذكرى الـ 105 لولادة كيم ايل سونغ، عرض الكوريّون (إضافة لما سبق) صواريخ تشبه الأنظمة الصينية العابرة للقارات، ويشي حجمها بأنها قادرة على الوصول الى أميركا.
الكوريون كأنهم يقولون للأميركيين «لقد وصلنا بالفعل الى القدرة التي تخيفكم». ولكن وسائل الإعلام في الغرب شككت بأصالة الأنظمة التي تمّ عرضها، باعتبار انه لا تجارب معروفة لهذه الصواريخ، وقالت إن الحاويات التي أُظهرت في العرض قد تكون فارغة. تفهم واشنطن أنّ هذه القدرات تحتاج الى سنواتٍ قليلة للـ«نضوج»، وهذا يفسّر تسارع تصعيدها في المنطقة. صواريخ الغوّاصات مثلاً، ليست خطيرة فقط لأنها قادرة على الاقتراب خفيةً من السواحل الأميركية، وضرب قلب البلد من دون أن تتمكن وسائط الدفاع الصاروخي من رصدها؛ الغواصات تعطي الكوريين قدرة «ضربة ثانية». بمعنى أنّه، حتى لو قامت واشنطن بضربة نووية خاطفة وماحقة، دمّرت خلالها القيادة الكورية بأكملها وكلّ قدراتها الصاروخية وأفنت شعبها، فإنّ الزّفرة الأخيرة لكوريا ستكون على شكل ضربة نووية، تطلقها غواصة وحيدة في المحيط، تدمّر أكبر مدينة أو مدينتين في أميركا. في هذه الحالة، يصبح الإحتراز من الحرب واجباً.

الخيارات الصعبة

كما ذكرنا في السابق، فإنّ السلاح النووي في كوريا هو تعويضٌ عن الرّدع التقليدي وليس مكمّلاً له. كما تشرح دراسة أميركية لوزارة الدفاع، فإنّ كلفة بناء قدرة نووية والحفاظ عليها في حالة كوريا هو (بعد أن تدفع ثمن البنية التحتية الأساسية) أقلّ بكثير من محاولة بناء جيشٍ تقليدي ــــ مع مدرعات وبحرية وسلاح جوّ ــــ يوازي الجيش الكوري أو الأميركي. من زاوية الحرب التقليدية، هناك درجةٌ من التشابه بين الجبهة على الحدود الكورية والجبهة بين جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلّة. «الرّدع» الوحيد للكوريين الشماليين هو وجود عاصمة خصمهم، سوول، على مسافةٍ قريبة من خطّ الهدنة، وضمن مدى المدفعية الثقيلة والراجمات ذات العيارات الكبيرة. لهذا السّبب بنى الكوريون آلاف الكهوف والملاجىء المحصّنة، حُفرت في المرتفعات المواجهة للجبهة، بحيث تتمكّن المدافع والراجمات من القصف المتواصل وهي في أمانٍ نسبيّ ــــ حتّى ولو سيطر العدوّ على الأجواء ــــ ولا يمكن ايقافها بغير الدخول في الحرب البريّة واجتياح كوريا الشمالية (العديد من الراجمات في كوريا، بالمناسبة، هي النموذج ذاته الذي تجده في جنوب لبنان أو غزّة، ولكن هذا موضوع آخر).
يُقال أن 70% من الجيش الكوري موجودٌ في المنطقة الحدودية وعلى طول خطّ الدفاع الذي يحمي بيونغيانغ، غير أنّ «خطّة الحرب» التي يتحضّر لها الكوريون منذ الخمسينيات، تلحظ سقوط العاصمة، وانسحاب المقاتلين (ونحن هنا نتكلّم على تعبئة عامّة لأغلب الشعب، ذكوراً وإناثاً) الى الجبال الشمالية الوعرة، حيث الطّرقات المعبّدة غير موجودةٍ تقريباً وقد أعدّت شبكات هائلة من الأنفاق والمخابىء والمستودعات، تحضيراً لحرب غوارٍ تدوم فترةً طويلة. انت قد تملك قنابل خارقة للتحصينات، وقد تكون قادرة على تدمير بعض هذه المراكز، ولكن لا قوة في العالم تملك العدد الكافي من هذه القذائف المتخصصة للتعامل مع آلاف الأهداف المخبّأة والمنثورة على مساحات واسعة. على حدّ قول عسكريّ أميركي، لا يوجد بلدٌ في العالم تتخلّله الأنفاق ككوريا الشمالية، مجتمع الـ«سونغون» («الجيش أوّلاً»، وهو شعارٌ مركزي في البلد). بتعابير أخرى، الكوريون يعرفون أنّ عدوّهم متفوّق بكلّ المعايير، وخطّتهم ــــ حين تُفرض عليهم الحرب ــــ هي أن يقاتلوا بناسهم وجبالهم، وأسلحة تعود الى السبعينيات.

اين نقف؟

من المنظور العربي، من المفترض أن تكون مسألة الانحياز محسومة: كوريا الشمالية، بحجمها الصغير، دعمت قضايا عربية وساعدتنا في الحروب (الى اليوم)، وقدّمت لنا أكثر بكثير مما قدمناه لها. وهي من الدول القليلة التي ما زالت تأخذ موقفاً عنيفاً ضدّ اسرائيل وترفض أي اعترافٍ بها (كوريا الجنوبية، بالمقابل، شاركت في احتلالات العراق وافغانستان والصومال، ولكنّها أعطتنا هاتف سامسونغ!). هنا سيأتيك العربي الذي يعتقد أنّه ليبرالي (هو موالٍ للغرب ببساطة) ويخبرك عن الديكتاتورية وعن وضع الحريات والفاقة، ويدعوك لأن تضع نفسك مكان المواطن في كوريا الشمالية. ولكن هنا الخدعة الكبرى، انت لست مكان المواطن في كوريا، وحين تأخذ موقفاً تجاهه فأنت تفعل ذلك من موقعك كعربي، وليس من المفترض أن تضع نفسك في سياقه (فأنت لست في سياقه، ولا يمكنك أن تعرفه بالواسطة. ولو كان يهمّك رأيه وحاله فالطبيعي أن تسأله وتحاوره، لا أن تقرّر عنه ما يريد وما هو الأفضل له، ومتى يستحقّ النضال والصمود ومتى لا يستحقّ). إنّ تقييم النظام والتجربة الكورية، على المستوى النظري والسياسي والأخلاقي، ونقدها والتعلّم منها موضوعٌ ــــ وهذا ليس مبحثنا هنا ــــ والخيار السياسي الذي أمامنا موضوعٌ آخر تماماً.
لا متّسع هنا للكلام عن النّظام في كوريا الجنوبية وعن طبيعة نخبه، وأنّ له ايضاً وجهاً آخر لا يخلو من الفساد والعائلية والقمع. ولكنّ طبيعة المفاضلة تقنعك بأنّ المعجبين بكوريا الجنوبية، لو أن التاريخ سار بشكلٍ معاكس وجعلها فقيرةً محاصرة، فيما الشمال مليء بناطحات السحاب والأضواء ومظاهر الثراء المادي، لوقفوا في الخندق الآخر وتماهوا مع الشماليين. اليوم، تحاول حكومة بيونغيانغ أن تعاكس البروباغاندا ضدّها عبر نشر صورٍ لأحياء جديدةٍ في العاصمة، ولناطحات سحاب حديثة، ولكن المقياس والمعيار لا يجب أن يكون هنا. على الهامش: من يعتقد أن الدمقرطة الجزئية التي جرت في أواخر الثمانينيات تجعل من كوريا الجنوبية بلداً «ليبرالياً»، وأنّ الانتخابات مثّلت قطعاً مع الديكتاتورية، لا يعرف ماضي القمع والتطهير في البلد، أو أنّك ــــ الى اليوم ــــ ستعتقل في كوريا الجنوبية لو عبّرت على «تويتر» عن رأيٍ داعمٍ للشمال، أو رافضٍ لخوض حربٍ لا تنتهي من أجل الأميركيين. الرئيسة الكورية التي تركت منصبها منذ أسابيع هي ابنة الديكتاتور العسكري الأخير في كوريا، والرئيس الذي قبلها، وهو كان مدير «هيونداي»، لا يتحدّر من نخبة «المتعاملين مع الاحتلال الياباني» فحسب، بل هو نفسه مولودٌ في اليابان.
كان لديّ زميلٌ لا أعرف عنه العنصرية، ولكنه يحمل تقييماً شديد السلبية تجاه الكوريين الجنوبيين بالذات. سألته مستغرباً عن السبب، فكوريا الجنوبية في النهاية بلدٌ ناجحٌ مزدهر، حقّق تنميةً وثراءً لشعبه (ولو على حساب غيره)، وأنشأ نظاماً «ديمقراطياً» فوق ذلك. أجابني باقتضاب بما معناه «هذه أمور تذهب وتأتي، ولكن، كم يمكن للمرء أن يخضع ويمّحي أمام من احتلّه؟ أن يتخلّى عن سيادته؟ أن يسمح بغزوه؟ أن يجعل نفسه محميّة؟ هل هناك أعظم من أن تتخلّى عن دينك؟ هم، يا رجل، تخلّوا عن دينهم!» (بالفعل، فإنّ أكبر مجموعة دينية في كوريا الجنوبية اليوم، وبخاصة في المدن الكبرى، هي فئة معتنقي المسيحية).