القليل جداً من الناس يعرفون كتابات ماركس وأنجلز حول العرب والشرق عموماً. لكن الأقل هم من يدركون أهميتها. إن هذه النصوص تضعنا أمام المادية الجدلية كمنهج علمي وتحليلي بكل أبعادها وإمكاناتها. ومع الأسف، فإنها حتى اليوم لم تدرس عربياً بما يكفي أو كما تستحق.
لقد قام ماركس بمجموعة ضخمة من الأبحاث والدراسات حول بلدان الشرق «غير الأوروبي» شمل فيها مجموعة من الأمثلة على رأسها الهند والصين، بالإضافة إلى مصر وجزيرة العرب والبتراء واليمن... وكان هناك استنتاجات كبرى حول موضوع نمط الإنتاج الآسيوي والأسلوب الشرقي في الإنتاج. لقد بدأ اهتمام ماركس بالهند في مقالتين كلاسيكيتين عن الهند في عام 1853، أدتا إلى استنتاجات رئيسية على مستوى علم الاجتماع الحديث (sociology): تشخيص المجتمع الهندي التقليدي ورصد ملامح «الركود الشرقي» حيث القرى المشاعية، المكتفية ذاتياً، المستقلة، المتماثلة والتي ظلت على حالها لقرون. هذه المشاعيات القروية شكلت أساساً لنظام «الاستبداد الشرقي» حيث الحكومة المركزية وذات ضرورة رئيسية في مجال تأمين الأشغال العامة وأنظمة الري وجمع الضرائب. إن دراسات ماركس عن الهند والخلاصات التي شكلها عن الموضوع كانت المقدمة لما يعرف اليوم «بالرسائل الشرقية – العربية» التي سارت على المنهج نفسه وتوصلت إلى استنتاجات نظرية بالغة الأهمية. في أيار 1853 يرسل أنجلز رسالة إلى ماركس يلخص فيها أهم ما توصلا إليه في دراستهم للتاريخ العربي والإسلامي. الارتباط ما بين الحضارات القديمة التي ظهرت في المنطقة (الكلدانيين والآشوريين والبابليين وحضارات اليمن القديمة) والعرب، هو ارتباط حضاري وثقافي وحتى عشائري وقبلي (من ناحية الأنساب). إذ يتم التأكيد على أن بدو شبه الجزيرة قد ظهروا بفعل انهيار هذه الحضارات الكبرى. ويتم تصنيف اليهود كقبيلة صغيرة من البدو أدت ظروفهم المحلية إلى وضعهم في تعارض مع البدو الآخرين. «الكتاب المقدس ليس سوى ذكرى تقليد عربي قديم ديني وقبلي... إنه في محتواه الرئيسي عربياً أو سامياً بوجه عام».
في رسالة ماركس من العام نفسه وكردّ على أطروحات أنجلز وتطويراً لها يطرح ماركس ثلاث قضايا كبرى يمكن اعتبارها مفتاحية لفهم تاريخ المنطقة: 1- الوضع التجاري في شبه جزيرة العرب كأساس مادي واقتصادي للثورة المحمدية و«الفتح العربي الكبير» الذي حصل إثر هذه الثورة (لقد لاحظ ماركس أن الطريق التجارية بين الوسط الآسيوي وأوروبا الصغرى والشرقية قد ساهمت بتطور مراكز ومدن تجارية ذات شأن وأهمها مكة). 2- الدور الكبير للدين في رسم تاريخ الشرق وأحداثه الكبرى، حيث تساءل ماركس «لماذا يظهر تاريخ الشرق في صورة تاريخ أديان؟». 3- مسألة ملكية الأرض في الشرق التي اعتبرها ماركس «المفتاح الحقيقي لفهم السماء الشرقية».

إن مقولة الأمة هي مقولة تاريخية للمجتمع البرجوازي الصاعد

من الملفت أننا هنا أمام مجموعة من الأفكار المهمة: يقدم مؤسسا الماركسية هنا تصورات خارجة تماماً عن الإطار التقليدي للمادية التاريخية، فنجد الحديث عن التكون القومي والوجود القومي والبعد القومي للثورة المحمدية، برغم أن مقولة الأمة مقولة تاريخية للمجتمع البرجوازي الصاعد. كما ونجد الحديث يدور عن نمط إنتاجي ذي خصوصية غير أوروبية، وغير غربية. إنه نمط إنتاج شرقي لا تنطبق عليه قوالب المادية التاريخية حول التطور الطبيعي والتلقائي من المجتمع الإقطاعي إلى الرأسمالي. إن دراسة المجتمع العربي هنا لم تتم عبر أنماط أو مفاهيم محددة مسبقاً، بل استندت إلى تناول المجتمع في كليته: أيديولوجياته، تاريخه الاقتصادي، جغرافيته، أديانه... هذه هي الطريقة الوحيدة لتكوين نظرية علمية عن مجتمع ما، وهذا ما حاوله ماركس مع المجتمع العربي والشرقي عموماً. برغم أن هذه المراسلات كانت قد تمت بعد كتابة البيان الشيوعي ومؤلف «الأيديولوجيا الألمانية» (أي أن المفهوم التقليدي للمادية التاريخية وتعاقب أنماط الإنتاج كان قد تم إرساؤه وتبنيه) فقد أدرك ماركس عدم كفاية هذا النموذج لفهم الشرق والعالم الآسيوي الذي لا يمكن إقحامه في هذا النموذج. إن ماركس هنا كان مخلصاً في تحليله لمنهج المادية التاريخية وليس نصها. لقد طبق هذا المنهج على التاريخ العربي والآسيوي فوجد أنه يعطي استنتاجات جديدة: الدين والأيديولوجيا لهما دور خاص. تاريخ المنطقة على صورة «تاريخ أديان». وهناك عوامل أخرى جديدة لا يمكن إغفالها: المناخ والجغرافيا وطبيعة التربة والصحراء، ما يحتم الربط بين الازدهار الحضاري للمنطقة مع وجود مفهوم الدولة المركزية (central state). يطرح أنجلز هنا مجموعة من الأمثلة التي تؤكد فكرة ماركس حيث تدمر والبتراء وحضارة اليمن، كلها كانت حضارات مزدهرة وأراضي خضراء ومزروعة عندما توفرت لها دولة مركزية (ذات طابع شرقي) تؤمن الإشراف على أنظمة الري المركزية والأشغال العامة. انهيار الدولة في الشرق يؤدي إلى انهيار حضاري كامل، وتحول مناطق مزدهرة إلى خرائب. هذا مشهد لا نراه في الغرب، حيث لا بوادي ولا حاجة لأنظمة ريّ متطورة أو إدارة مركزية كي يتمكن الفلاح أو الإقطاعي من زراعة أرضه والإتجار بمحصولاته. في الشرق الأدنى اضطراب سياسي أو خلاف في صفوف البيت الحاكم يؤدي إلى نتائج خطيرة من ناحية الزراعة والتجارة ومجمل النظام الإنتاجي. في الغرب يتغير الملوك وتتحارب الأسر الحاكمة وتنزع التيجان ويتوج الأباطرة من دون تأثر الريف الإقطاعي المستقر.
النصوص الشرقية عند ماركس عن العرب والهند وبلاد فارس (...)، إكمال ضروري للماركسية كمنهج وكنظرية علمية للمجتمع. إنها تبين أن الماركسية ليست قوالب جاهزة، وليست «علم كلام»! وليست «لاهوتا مادياً». إنها منهج علمي جدلي يتناول الواقع المادي والاجتماعي بأوسع وأشمل تصور ممكن. ثم ماذا تقول هذه النصوص لنا نحن العرب. إنها بالتأكيد لا تطرح حلولاً بقدر ما تطرح تساؤلات لا يمكن تخطي عتبة الحضارة من دون الإجابة عليها نظرياً وعملياً.
* كاتب سوري