باتت شعوبنا العربيّة المهووسة بجنون السياسة تدمن على مورفين التاريخ الخلافيّ ولا سيَّما تلك القصة المُثيرة للجدل، والمتعلقة بالخلافة الإسلاميّة، وقصصها الدامية على مرِّ الماضي إذ يتنوّع الحوار السياسيّ والطائفيّ على أوجه حتى أصبحت البيوت أشبه بمقاهي الأحزاب، ودكاكينها المُشرَعة بين بطرياركيّة الذكور، وهوس التقليد الأنثويّ لما يقوله الرجل في عالم فنّ المُمكِن، ولكنها رُبّما تختلف قليلاً عمّا يقوله الرجل حين يتعلق الأمر بالكايرزما القياديّة لدولة الرئيس في ظلّ عنوسة ثقافيّة.هذا الهوس المجنون لا تعيشه الشعوب في الغرب على الرغم من الحروب الطاحنة أيام النهضة وما بعدها؛ فالمخ السياسيّ الغربيّ لا يهتمّ بطواحين السياسة بقدر ما تهمّه الحبوب التي تصنع لهم رغيف العيش الكريم، ولا تهمّه الأحزاب بقدر ما تهمّه البرامج... وبين هذا وتلك ضِعنا، وعشنا دهاليز السياسة في أتون منطق الفوضى.

إذا كانت السياسة كذلك فما عسى أن يكون الموقف مع بنتها (الدبلوماسيّة)؟ خصوصاً في إطار منطقة تعيش فوق بركان هائج إذ لا خطاب، ولا تحالفات، ولا محاور ثابتة، هيجان كاسح. تارة تتعامل مع داعش كصديق في سوريا، ويدّعي مُحارَبته في ليبيا، ويقف معه في اليمن. خريطة بلا حدود، وأمّة بلا جغرافيا... تناقضات أنثروبولجيّة قبل تناقضات الفكر والسياسة وسط هذه العتمة التحليليّة التي لا ينفع معها حتى أنبياء السياسة، واستشرافات المجاهر السياسيّة كما يقول بريجنسكي.
«المُطوّع» السعودي أمام «السلطان» التركي، يشاركه «الشيخ» القطريّ، يُريد أن يرسم واقعاً جديداً

لا يتضح في هذه العتمة غير جمال الطائفيّة في صحراء الشرق الأوسط الكبيرة المُتحرِّكة؛ لذا لا ينظر إلى الشرق الأوسط بعيداً عن هذه الرؤية (الصراع التاريخيّ بين السنة والشيعة)، ولا تختلف معظم الكتابات والتحليلات الغربيّة عن هذه الرؤية بأنَّ صراعاً عمره 1400 سنة بين السنة والشيعة لا يُمكِن إيقافه، ذلك الصراع الهنتغتونيّ الذي لا بدَّ أن يقود في المُحصِّلة إلى صراع الديانات لاحقاً عزّزه برنار لويس، لذا قالت وزير الخارجيّة الأميركيّة السابقة مادلين أولبرايت في كتابها «الجبروت والجبار»: «دعوا الطبخة حتى تنضج»، أي: اتركوهم في صراعاتهم حتى ينضجوا، في مُحاوَلة لثني الرئيس أوباما عن التدخّل في منطقة تعجّ بالصراعات، وتتميَّز بصعود الفواعل من غير الدول Non-state actors، وفقدان الدولة التقليديّة التي ظهرت بعد سايكس بيكو في شكلها السرياليّ، وزوال مُقوِّمات الوحدة القسريّة؛ لتحاول بعض المُركّبات الاجتماعيّة العودة إلى شكلها الطبيعيّ بعد زوال عنصر القوة؛ لأنَّ الوحدة الاجتماعيّة والسياسيّة لم تكن باختيارها.
ويبدو الحديث الجيوبولتيكيّ لمنطقة الشرق الأوسط لا يتمّ بالابتعاد عن «الهلال والقوس»، وأحياناً «المثلث»؛ ليتمَّ توصيف موازين القوة في تلك الدول.
أما «الهلال الشيعيّ» - وهي الفكرة التي طرحها ملك الأردن عبد الله الثاني أثناء زيارته واشنطن عام 2004- يُعبِّر عن امتداد واضح لفكرة «إيران – فوبيا»، و»شيعة – فوبيا» التي بدأت تأخذ مُستودَعها في أنماط الظاهرة العربيّة عقب الثورة الإيرانيّة 1979. وجاءت هذه التصريحات مُتزامِنة مع العروسة العراقيّة (التجربة العراقيّة الجديدة) التي تعيش بين مجموعة من العوانس (دول الجوار) كما يُعبِّر عنها الدكتور عامر حسن فيّاض، وقصة التجربة العراقيّة التي يكون فيها الرأي للغالبيّة الشيعيّة تنسجم بحكم التداخل الديمغرافيِّ، والجغرافيِّ، والدينيِّ مع طهران ودمشق؛ ليمتدَّ إلى بيروت؛ لذا جاء التحرُّك سريعاً لضرب الهلال من خاصرته عسى أن يتمكنوا من تفتيت الهلال من البوّابة السوريّة، وعليه جاءت مرحلة إعادة التشكيل واستراتيجيّات مُباشِرة وغير مُباشِرة لإضعاف هذا الهلال، ومنع امتداده سياسيّاً لصالح إيران، ودينيّاً لصالح الشيعة.
على الرغم من أنَّ الهلال لم يكن فكرة أبداً لتوصيف دول الانتماء الشيعيّ، بل هو - كما وصفه الكاتب جمال حمدان في كتابه «العالم الإسلاميّ المُعاصِ» - بأنَّ الامتداد الجغرافيَّ للدول الإسلاميّة يأخذ شكل هلال عظيم يبدأ في غرب أفريقيا، وينثني شمالاً ليضمَّ غرب ووسط آسيا، ثم يعود لينحني نحو الجنوب من جنوب شرق آسيا. هذا الهلال العظيم تتوسَّطه نجمة كبيرة هي المُحيط الهنديّ، ويُمكِن القول: إنه داخل هذا الهلال العظيم، وفي أوسطه تقريباً يقبع مثلث محوريّ هو المثلث الذي يقع على أضلاعه ثلاث قوى إسلاميّة، هي: تركيا، وإيران، والمشرق العربيّ الذي يضمُّ الخليج، ومصر، لكنَّ هذا الهلال الجديد الذي تمَّ توصيفه حديثاً يُشير إلى إيران وحلفائها.
في المقابل «القوس السنيّ» الذي رسمه رئيس الوزراء البريطانيّ السابق توني بلير، القوس الذي يعيش عُقدتين في الجسد السنيّ، الأولى: هي عُقدة سقوط الجمهوريّات بعد أحداث 2011، وربيعها الذي تحوَّل لاحقاً ربيعاً للقاعدة، وكيفيّة الحفاظ على الممالك المُتبقية؛ حفاظاً على ميزان القوى، والخروج على وليِّ الأمر.
والثانية: عُقدة داعش التي تُعَدُّ نتاجاً لبيئة المُجتمَع، والفكرة التي لم تكن هجينة على المثقف الطائفيِّ أبداً. ويكفي أن تُراجَع بعض كتب الحديث والسيرة لتكون داعشيّاً بامتياز بين أنها تحارب هذا التنظيم، أو تدعه يقتل عدوَّها اللدود في حُرُوب طاحنة لا يصحّ أن تُوصَف بكونها الجزء الجديد من الحروب الدينيّة التي جرت في أوروبا بطبعتها الإسلاميّة، لكنَّ كلَّ الأمور تبدو باتجاه افتعال الأزمات.
«المُطوَّع» السعوديّ أمام «السلطان» التركيّ يشاركه «الشيخ» القطريّ يُريد أن يرسم واقعاً جديداً لا يُخفي أنَّ هناك صراعات أخرى بين هؤلاء قد يدخل «الكدع» المصريّ إلى اللعبة مقابل «الآغا» الإيرانيّ، و»العكيد» السوريّ، و»النسر» العراقيّ، ويدخل أحياناً «الشاب» اللبنانيّ؛ وبالمُحصِّلة الفوضى الدامية التي تعمُّ المنطقة قد شكَّل فيها «الخنجر» اليمنيّ بالون الاختبار الذي سينفجر قريباً، ويُراقِب من كثب «صاحب القبّعة» الإسرائيليّ؛ ليُحيِّي الجميع على مشاكلهم. يقف العرب أمام لحظة انقسام مُزمِنة، ومُتفاعِلة، ومواويل الانقسام على مسارح التراجيديا المُمِلة في منطقة لا تعرف الحياد، وتعيش الاتهامات المُتبادَلة. فبين مشروع «الناتو العربيّ» الذي قرأه الغرب قبل العرب على أنه اتحادّ سُنيّ لمُواجَهة إيران والشيعة، فيما لا عزاء في شعوب نعت العروبة، أو عرفتها في قاموس كتبه البعث لتحاول إعادة إنتاجها الجديد بشكل «القوة العربيّة المُشترَكة» بحلتها الجديدة؛ لمُواجَهة إيران الصفويّة الشيعيّة، فيما يقف العالم العربيّ أمام الهلال والقوس تعيش المنطقة على وقع رسائل مُتبادَلة تشتدّ، وتصل مدياتها القصوى كلما جلس المتفاوضون للحوار. مرّة تكون بغداد، وأخرى تكون بيروت، وثالثة الرياض صناديق بريد لجسِّ النبض، ورفع سقف المطالب في ظلِّ حرب مُستعِرة لن يُطفِئها القدر.
كلّ ما سوف يُسجِّله التاريخ عن حُرُوب المشرق الجديدة نكون فيه نحن –العرب - قد تمرَّسنا في إدارة الانقسام؛ لذا يقول الإمام عليّ (ع): «كُن في الحرب بحيلتك أوثق منك بشدتك، وبحذرك أفرح منك بنجدتك؛ فإنَّ الحرب حرب المُتهوِّر، وغنيمة المُتحذر».
* مدير مركز بلادي للدراسات والأبحاث الاستراتيجيّة ــ العراق