في سياق المقاربة بين أزمة الاقتصاد واقتصاد الأزمة، يتضح أن ثمة فرقاً واضحاً بينهما، ولا ينفي ذلك التقاطعات الموجودة بينهما. قبل نقاش موضوع بحثنا المتعلق باقتصاد الأزمة وارتباط تداعياته بالأزمة البنيوية للاقتصاد، وشكل وتركيبة الحكم وطبيعته، نشير إلى أن الفكر السياسي، وبالتالي الممارسة السياسية وكذلك السياسات الاقتصادية، وأيضاً طبيعة وآليات تفكير الأفراد وأشكال تجلياته، يخضع في زمن الحروب والأزمات المفصلية والبنيوية لتغيُّرات كثيرة ومتباينة.

ولمزيد من الإيضاح نستعرض بعض التحولات التاريخية التي تحمل دلالات على درجة من الأهمية:
ــ بعد انتصار الثورة البلشفية، ولأسباب يتعلق بعضها بتداعيات الثورة والحرب ومخلفات النمط الإقطاعي المتخلف. اشتغل لينين على تطبيق «شيوعية الحرب». لكن ظروفاً ذاتية وأخرى موضوعية حالت دون ذلك. ما استدعى اعتماد سياسية «النيب» الاقتصاد الجديد/ رأسمالية الدولة.
ــ مع دخول الاقتصاد الرأسمالي العالمي في أزمة الكساد العظيم (تضخم ركودي) (1929 ــ 1933)، ألَّف جون ماينرد كينز كتابه الشهير «النظرية العامة في الفائدة والنقود والتوظيف». وضمَّنه ما بات يعرف لاحقاً بالسياسية الكنزية: دور الدولة الحمائي، التشغيل العام لحل مشكلة البطالة، تحجيم حرية رأس المال وحرية التجارة التي أسس لها «آدم سميث، وساي»، وكلاهما كان مقتنعاً بأن السوق تمتلك قدرة خفية في التحكم بآليات العرض والطلب، وبأن الرأسمالية قادرة بفعل قوانينها الذاتية على ضبط آليات اشتغالها وتجاوز أزماتها. ومعلوماً أن التخلي عن السياسيات الكنزية (1979 ــ 1980) واعتماد أفكار منظري النيوليبرالية ومنهم ميلتون فريدمان، أسَّس لأزمة عام 2008 المالية. بعدها لاحظنا عودة قسرية إلى أسس الاقتصاد الكنزي نتيجة أسباب متعددة منها الأزمة المذكورة. ومن الوارد أن يتم في سوريا اعتماد المنهج الكنزي لإدارة الاقتصاد مستقبلاً.
ــ أما منهج اقتصاد السوق الاجتماعي، فإن أسباب نشوئه تتعلق بتداعيات الحرب العالمية الأولى. وكان لماكس فيبر قصب السبق في وضع ملامحه الأولى في ألمانيا. ولاحقاً أكد لودفيغ ايرهارد بأن اقتصاد السوق الاجتماعي هو نظام سياسي اقتصادي يقف على قدم المساواة مع النظامين الاشتراكي والرأسمالي، ويقوم على: حرية تكون الأسعار ــ استقرار عرض النقود ــ المنافسة من دون احتكار ــ استقرار الملكية الخاصة ــ استقلال المشروعات الاقتصادية ومسؤوليتها ــ الدور المحدود للدولة. ومعلومٌ أن الحكومة السورية اشتغلت على نسخ التجربة المذكورة بما يتناسب مع توجهاتها ومصالح بعض المتنفذين، وتحت غطاء إعلامي أيديولوجي يحجب حقيقة الأهداف الأساسية للحكومة.
فيما يتعلق بالاقتصاد السوري، فقد بات جلياً أنه يعاني من التصدع والدمار والانهيار. ويفاقم من مخاطر ذلك، الحصار الاقتصادي، وهروب الرساميل، إضافة إلى استمرار مظاهر الاحتكار واعتماد التجارة الحرة وإطلاق الحرية لحركة رأس المال. وجميعها إضافة إلى قضايا أخرى لها علاقة بما بات يعرف باقتصاد الأزمة، يساهم في تهديم الأمن الغذائي. ما يعني التركيز في سياق الاشتغال على صياغة هوية الاقتصاد وطبيعته وأهدافه وبنيته الداخلية وتركيبته وأدواته، على ضرورة لحظ مصالح السوريين المادية لإنقاذهم من أوضاعهم الكارثية ووضعهم على سلم الارتقاء الاجتماعي والمادي. وذلك يستوجب بداهة، وضع الاقتصاد السوري على سكة البناء الوطني، وضبط السياسات الاقتصادية انطلاقاً من مصالح الفئات المتضررة من سياسات التحرير الاقتصادي، ومن تخلُّع دور الدولة.

أسهم تمسّك الحكومة بسياسات تحرير الاقتصاد في استفحال أزمة إنسانية شاملة وعميقة


بالنظر إلى معاناة السوريين المادية والإنسانية، يتضح أن الأزمة الحالية كشفت عن أشكال متعددة للإثراء غير المشروع مثل انتشار مظاهر الخطف والتشليح والتشبيح والتعفيش. ولذلك علاقة مباشرة بتفاقم دور مجموعات تفرض سطوتها على السوريين بكونها سلطة فوق القانون. ويسيطر هؤلاء على الموارد والسلع الاستهلاكية الأساسية. ويضاعف من إفقار السوريين وخوفهم، ويزيد من درجة حقدهم ومستوى احتقانهم، ارتباط تلك المجموعات مع جهات نافذة، ومسؤولين. وجميعهم يهدرون كرامة السوريين وحرماتهم وحقوقهم، ضاربين بعرض الحائط القوانين كافة.
في السياق، يبدو أن غالبية السوريين لم يعد يُقنعها ربط الجهات الحكومية لمظاهر الأزمة، ومنها أزمة الطاقة «الكهرباء، الغاز، المازوت، البنزين» بمفاعيل الصراع. وأول ما يتبادر إلى تفكيرهم هو سبب وجود المشتقات النفطية في السوق السوداء، وعدم تدُّخل الجهات المسؤولة للحد من تحكُّم تجار الحروب والمسؤولين المرتبطين بها، بمعيشة السوريين. واللافت أن المتلاعبين بأمن واستقرار معيشة السوريين، يمارسون أعمالهم الإجرامية ضمن شبكات مافيوية. ويفاقم من امتعاض عامة السوريين ونقمتهم، أن جهات حكومية تحمِّلهم أسباب أزمة الكهرباء. متناسية مسؤولياتها عن عدم تأمين أدنى حاجات المواطن من حوامل الطاقة. وكأن تلك الجهات ليست فقط غير معنية بتأمين احتياجات المواطن الأساسية. لكنها كما بات واضحاً تعمل على معاقبة السوريين كافة، وذلك بغض النظر عن انتماءاتهم ومواقفهم السياسية وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية.
ويتضح ذلك في زيادة ساعات «تقنين» الكهرباء إلى أكثر من اثنتين وعشرين ساعة يومياً، وفي عدم توفير مازوت التدفئة بالسعر الرسمي، تخفيض مخصصات الغاز المنزلي، وجميعها أفضى إلى ارتفاع سعر ليتر المازوت إلى 500 ليرة سورية، وسعر جرة الغاز إلى أكثر من ثمانية آلاف ليرة سورية. وسعر كيلو الحطب إلى حوالى المئة ليرة سورية. ويعلم من هم في السلطة أن كميات المازوت التي يتم توزيعها للمواطنين لا تكفي شهراً واحداً. ما يعني أن السوريين يواجهون بصدورهم العارية وبطونهم الفارغة برداً لا يرحم، وتجاراً ساقطين بكافة المعاني والمستويات. والأنكى والأكثر مرارة، توافق مصالح المتلاعبين بقوت السوريين وحياتهم، مع ثلة من أصحاب القرار في السلطة. ونذكِّر أن دخل العاملين في الدولة لا يكفي الأسرة لتأمين حاجاتها من المازوت، أو مواد أخرى لها علاقة بالتدفئة والإضاءة. ما يعني أنهم عاجزون تماماً عن تأمين احتياجاتهم الغذائية والمازوت في نفس الوقت. بهذا المستوى فإن السواد الأعظم من السوريين يحتاج إلى معجزة تردُّ عنهم جور الحكومة وظلم وجشع تجار الحرب، وأيضاً برد الشتاء والجوع.
وننوه إلى أن سقف الدخل الشهري للزوجين معاً من الفئة الثانية يُقدر بحوالى 90 ألف ليرة سورية. هذا في وقت تحتاج فيه الأسرة المكونة من خمسة أشخاص في الشهر الواحد وسطياً، إلى حوالى 200 ليتر مازوت. ما يعني أنها تحتاج إلى شراء الكمية المذكورة من السوق السوداء إلى حوالى 100 ألف ليرة شهرياً. أما الاحتياجات الأساسية للأسرة إضافة إلى المازوت، فإنها تقدر تقريبياً في موسم الشتاء الحالي بأربعمئة ألف ليرة سورية.
إن تمسّك الحكومة بسياسات تحرير الاقتصاد، وعدم معالجة مظاهر وأسباب الأزمة الاقتصادية المتناسلة منها، وأيضاً العلاقات التجارية المستندة إلى القوة والنفوذ وتغوُّل تجار الحروب، أسهم في استفحال أزمة إنسانية شاملة وعميقة، كان يُفترض معالجتها في سياق القطع مع سياسات التحرير الاقتصادي، واعتماد سياسات مالية ونقدية تلحظ مصالح المفقِّرين، وضبط الخارجين عن القانون من تجار الحروب. علماً بأن ذلك لا ينفي الصعوبات الناجمة عن سيطرة «داعش» وفصائل أخرى على مصادر الثروة النفطية، والمناطق الرئيسية لزراعية الحبوب والقطن، دمار القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية والخدمية، انخفاض معدلات الإنتاج، تراجع مستوى التبادل الداخلي لأسباب متعددة، هيمنة التجار على مداخل ومخارج العمليات الإنتاجية والتبادلية، وتفاقم معدلات التضخم، كذلك تراجع قيمة الشرائية لليرة، إلى جانب تفاقم ظاهرة المضاربة والاحتكار.
نشير أخيراً إلى أن ضمان استقرار أمن الغذائي للمواطن يحتاج إلى:
ــ ضبط حركة التبادل التجاري الداخلي والخارجي (المواد الأولية الضرورية للصناعات الوطنية المرتبطة بالقطاعات الإنتاجية الغذائية والطبية).
ــ مراقبة قطاعات إنتاج المواد الأساسية، وآليات التوزيع.
ــ مراقبة حركة الأسواق والأسعار، وفرض عقوبات رادعة بحق من يحتكر المواد والسلع الأساسية ويتحكم بأسعارها وآليات عرضها.
ــ ملاحقة المضاربين والمتلاعبين بسعر صرف الليرة السورية، وإغلاق محلات الصيارفة غير المرخصة.
ــ وضع نظام ضريبي يراعي أوضاع الفئات الشعبية وأصحاب الدخل المحدود والشرائح الأكثر فقراً، وفرض ضرائب تصاعدية على حركة المال والعملات.
ــ اعتماد سياسات تشغيل عامة تستوعب أكبر عدد ممكن من العاطلين من العمل، وضمان مبدأ الرعاية الاجتماعية.
إن العوامل المذكورة تستوجب استعادة دور الدولة وليس السلطة، على مداخل ومخارج الاقتصاد، وتمكين دورها الحمائي. ضبط حرية حركة رأس المال وحرية التجارة، وضمان حق المنافسة دون احتكار. بالإضافة إلى ضمان استقرار الملكية الخاصة وأيضاً عرض النقود، وأخيراً تمكين الطابع الديمقراطي لشكل اقتصاد رأسمالية الدولة.
* كاتب سوري