نشرت صحيفة «الأخبار» الغراء، في عددها بتاريخ 2017-03-11 مقالاً قيّماً للدكتور أسعد أبو خليل بعنوان: «أزمة الحزب السوري القومي الاجتماعي: النهضة مجدّداً». يمكن تقسيم مضمون المقال إلى قسمين عريضين: الأول بحث تاريخي يتناول عدداً من المواضيع المتعلقة بالحزب بشكل موضوعي وإيجابي.
أما الثاني، فنجده في العبارة التالية:
«لكن إذا كان الحزب يتسم بكل هذه السمات الإيجابيّة، فما هو مكمن الخلل فيه؟»
لن ندخل في نقاش حول القسم الأول من المقال، إنه بحث معمق وموضوعي ويمكن لمن يرغب مناقشته. نحن نرى أن تركيز البحث في السؤال أعلاه هو الأجدى.
السؤال وجيه وإن كان غامضاً بعض الشيء لناحية تحديد «الخلل». ولكننا لا نخال الدكتور أبو خليل يتكلم عن خلل موضعي بسيط في أداء ما، أو في مكان ما من تاريخ الحزب. بل نعتقد، انطلاقاً من الاحترام الكبير الذي يظهر في المقال لسعاده وحزبه وفرادته بين الأحزاب، عقيدة ومؤسسات مستمرة وفاعلة، نعتقد أنه بإمكاننا إعادة صياغة السؤال على الشكل التالي: «لماذا لم يحقق الحزب السوري القومي الاجتماعي غايته بعد هذا العمر الطويل، أو على الأقل، لماذا لم يتمكن من إقامة النموذج البديل الذي تدعو إليه مبادئه في أحد كيانات الأمة؟ ولماذا هذا التخبط في سياسات الحزب؟».
يشير الدكتور أبو خليل إلى عدد من النواحي التي يجب أن تخضع للمراجعة والمناقشة سواء في فكر سعاده أو في أسلوب تعاطي القوميين مع إرثه. ومع أهمية هذه النواحي، فإننا نعتقد أن الخلل هو في مكان آخر خصصنا كتاباً كاملاً بحثاً عنه، عنوانه إدارة الاستراتيجية في المنظمة العقائدية، أنطون سعادة نموذجاً، الحزب السوري القومي الاجتماعي. (دار أطلس، دمشق، 2009).
إن درسنا لتاريخ الحزب حين كان تحت قيادة سعاده المباشرة بين 1938-1932، ومن ثم دراسة الانحراف الكبير الذي وقعت فيه قيادة الحزب بين 1944- 1947 فيما عُرف «بالواقع اللبناني» حين كان سعاده في المنفى، ومن ثم مسار الحزب في العقود الأخيرة، أوصلنا إلى نتيجة واحدة: إن إهمال نظرة الحزب إلى الحياة، وغايته، وعقليته الأخلاقية، من قبل قيادات الحزب، أثناء وجود سعاده في المنفى، وبعد اغتياله، هو مكمن الخلل الحقيقي في الحزب السوري القومي الاجتماعي ومنبع أزماته المتكررة.
ومع أن هذه الحقيقة تبدو بديهية ــ العمل لتحقيق غاية يزعم أعضاء حركة أنهم انتموا إليها لتحقيقها ــ ومع أن سعاده أطلق تحذيره المشهور: «كل عقيدة عظيمة تضع على أتباعها المهمة الأساسية الطبيعية الأولى التي هي انتصار حقيقتها وتحقيق غايتها. كل ما دون ذلك باطل. وكل عقيدة يصيبها الإخفاق في هذه المهمة تزول ويتبدد أتباعها»، فإن العمل بهذه القاعدة لا يزال شبه معدوم، فنرى القوميين يتبددون ولا يعرفون سبباً لذلك!
بل نحن نضيف شيئاً أخطر من هذا، إن معظم القوميين لا يعرفون لماذا أسس سعاده الحزب السوري القومي الاجتماعي، فيقول قائل: «أسس سعادة الحزب ليزيل الويل الذي حلّ بأمته»، أو «ليوحد الأمة السورية». أو «ليحرر فلسطين، والأهواز والاسكندرون وسيناء وكل الأراضي المحتلة»، فيقول آخر، بل «ليقيم العدالة الاجتماعية عبر مبادئه الإصلاحية». هذه كلها، في رأي سعاده، شروط ضرورية للوصول إلى ما يسميه «المطالب العليا»: «إن أغراض الأمم السامية هي مطالبها العليا. أما الحرية والاستقلال، فليسا سوى الوسيلتين اللتين لا غنى للأمم عنهما لتحقيق تلك المطالب. ومتى بطل أن يكون لأمة ما مثال أعلى تريد تحقيقه لم تبق لها من حاجة إلى الحرية والاستقلال» (من مقالة «مبادئ أساسية في التربية القومية»).
فما هو هذا المطلب الأعلى، هذا الهدف الأسمى؟ الذي إذا لم يكن موجوداً تنتفي معه الحاجة إلى الحرية والاستقلال!
لنأخذ الجواب من أحد أهم كتب سعاده، الذي، مع الأسف، لم يُقرأ ويُدرس بالأهمية التي له، ونعني به كتاب الصراع الفكري في الأدب السوري، حيث يقول: «القاعدة الذهبية التي لا يصلح غيرها للنهوض بالحياة والأدب هي هذه القاعدة: طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى». (الصراع الفكري ص. 72). عن هذه القاعدة يقول سعاده في الكتاب نفسه ص. 70، «فلما جاءت النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفن، التي نشأت بسببها الحركة السورية القومية الاجتماعية، وقرنت الحرية بالواجب والنظام والقوة...» إلى نهاية المقطع.

تغيب «الغاية العليا»
عن أدبيات الحزب وخططه وبرامج عمله

إنه لأمر محيّر أن يقول مؤسس حركة مثل الحركة السورية القومية إنني أسست هذه الحركة بسبب نظرة إلى الحياة مفادها العمل «لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى»، فلا ينكّب أتباع هذه الحركة أعضاء وقيادات على دراسة أثر هذه الكلمات الست على سياسات حزبهم، وخططه على الصعيدين القومي والمحلي، وإذاعته وبرامجه الانتخابية وكل نواحي حياته!
إن هذه القاعدة ــ ترقية الحياة ــ هي المحور الطبيعي الذي كان يجب أن تدور حركة الحزب عليه، ولكنها دارت على كذا محور غير محورها هذا في جميع مراحل تاريخ الحزب خلا مرحلة قيادة سعاده، فكانت النتيجة هي «الخلل» الذي يشير إليه الدكتور أبو خليل، ويقدم الكثير من الأمثلة التي لا يستطيع مراقب صادق وموضوعي تجاهلها. إذا كانت هذه العبارة ــ النظرة، هي ما كان يجب أن يوجه سياسات الحزب في جميع المراحل، فإن غاية الحزب العليا، وغايته الأولية، الشرطان الضروريان لإحقاق هذه النظرة، هما أيضاً مما أهملته القيادات المتتالية للحزب.
تهدف غاية الحزب العليا، وقد أعدنا صياغتها بحيث وضعنا الغاية باللون الأسود، والوسيلة باللون العادي، إلى:
1. إعادة الحيوية والقوة إلى الأمة السورية عبر بعث نهضة تكفل تحقيق مبادئ الحزب.
2. استقلال الأمة السورية استقلالاً تاماً عبر تنظيم حركة تكون هي حركة الشعب العامة.
3. تأمين مصالح الأمة ورفع مستوى حياتها عبر إقامة نظام جديد.
4. السعي لإنشاء جبهة عربية عبر التفاوض مع باقي أمم العالم العربي.
هذه الغاية العليا، كما يرى أي متابع موضوعي لحركة الحزب، غائبة بالكلية عن أدبياته وخططه وبرامج عمله. هذه الغاية هي التي يمكن لها أن توصل الأمة إلى مطلبها الأعلى آنف الذكر، بكل ما يتضمنه من حياة أجود وعالم أجمل وقيم أعلى، ليس فقط في سوريا، بل في العالم أجمع. فمن المُثُل العليا التي يزخر بها التاريخ السوري على حدّ تعبير سعاده «العمل للخير العام في ظلّ السلام والحرية». (محاضرته في العروة الوثقى).
ماذا عن غاية الحزب الأولية، بل ما هي غايته الأولية؟
في دفاعه أمام المحكمة الفرنسية بُعيد اعتقاله الأول إثر انكشاف الحزب، يقول سعاده للقاضي الفرنسي: «إن غاية الحزب الأولية أن يكون حركة الشعب العامة». هذا أيضاً، كان شيئاً بديهياً وواضحاً وضوح الشمس في ذهن سعاده. كان شيئاً أساسياً. ولعله تمثل هذه الحركة كالثورة الجزائرية التي ستنطلق بعد عقدين من كلامه هذا، أو قيادة الفيتكونغ، أو المؤتمر الوطني الأفريقي. المهم أن القيادات الحزبية المتتالية، هي الأخرى لم تدرس خطورة هذه العبارة، ولا معناها على الصعيد العملي، ولا الشروط الضرورية التي لا بد من قيامها لكي يستطيع الحزب أن يعلن أنه «حركة الشعب العامة» باستحقاق.
الناحية الأخيرة التي بودنا التطرق إليها هي ما ذكره سعاده في محاضرته الأخيرة في الجامعة الأميركية، المحاضرة العاشرة، عمّا سمّاه «العقلية الأخلاقية الجديدة». بنتيجة أبحاثنا نرى أن لهذه العقلية أربعة مقومات هي:
أولاً، الوجدان القومي المرافق لبروز الشخصية الاجتماعية والتي يصفها سعاده في مقدمة كتاب نشوء الأمم بقوله: «إنّ هذه الشّخصيّة مركّب اجتماعي ــ اقتصاديّ ــ نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه».
ثانياً، «إيمان اجتماعي جديد» قوامه المحبة. «المحبة التي إذا وجدت في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يملأ الحياة آمالاً ونشاطاً» (قصة فاجعة حب).
ثالثاً: الصدق، وقد تكلم كثيراً خاصة في محاضرته العاشرة عن آفة «عدم التصارح» و«الدبلوماسية» في الكلام.
ورابعا، النظام القومي الاجتماعي الذي اعتبره من «الأدوية المرة» التي لا غنى عنها لمحاربة النزعة الفرديّة. (مقال النزعة الفردية).
هذه النقاط الثلاث: النظرة والغاية والعقلية الأخلاقية، كلها تميّز حزب سعادة من سواه، وتجعله في موقع المسؤولية المباشرة عن ترقية حياة الشعب المادية والنفسية. إهمال هذه النقاط، وغيابها عن برامج الحزب وخططه على المستوى القومي أو المحلي، هي ما أدى ــ في رأينا المتواضع ــ إلى الخلل الذي يشير إليه الدكتور أسعد أبو خليل.
ختاماً، لا يسعنا سوى تقديم وافر الشكر للدكتور أسعد أبو خليل على مقالته، ولصحيفة «الأخبار» الغراء لفتحها باب النقد الموضوعي لواحد من أعرق الأحزاب في الوطن السوري والعالم العربي. إن جميع الأحزاب والحركات تحتاج إلى نقد بناء مثل هذا.
* كاتب لبناني