الأستاذ الراحل كمال الصليبي كتب في مؤلفه «البحث عن يسوع»، «وقد قيل إن للعقل ألف عين، بينما للقلب عين واحدة. والألف عين التي للعقل هي، مجازاً، تلك التي تنظر في ما يُرى من واقع الطبيعة والتاريخ.
أي أنها عيون المعرفة التي قد يتوصل إليها الإنسان عن طريق البحث المرتكز إلى الدليل والبرهان. أما العين الواحدة التي للقلب فهي، مجازاً أيضاً، تلك التي تُدرك ما لا يُرى من الحقيقة عن طريق اليقين الذي لا حاجة له إلى دليل أو برهان...».
هذا الاقتباس الطويل يقودنا إلى موضوعنا في هذا العمود، وهو دور العقل في تنمية العلوم والوصول إلى الحقيقة، بالبرهان. ولعل أهم مراكز التفكير العقلاني، العلمي، هي الجامعات، أو هكذا يجب أن تكون. فهذه المؤسسات العلمية مفترض أنها تهيئ الإنسان للبحث العلمي المرتكز إلى الدليل والبرهان. وفي حال غياب منهجية كهذه، تتحول إلى مراكز احتكار الكذب، ومحاولة فرض الرأي المختلف على المجتمع، وتستحيل صروحاً للأفكار الغيبية وذات التوجه الواحد.
في أثناء دراستي إدارة الأعمال في المملكة المتحدة، كان علينا، نحن الطلاب، إعداد أطروحة عن مادة نختارها مرتبطة بموضوع دراستنا. هنا كان الأستاذ المشرف يطلب منا تقديم ورقة تشرح مادة الموضوع، وما أهمية النتائج التي قد نتوصل إليها. ومن ثم كان علينا التوجه إلى مكتبة الكلية وإعداد قائمة بالمؤلفات التي سنستخدمها مراجع، مرفقة بشرح مختصر/ مفيد، لمحتوى كل منها وذكر ما قد تحويه من سلبيات. الأمر ذاته انطبق على إعداد رسالة الماجستير ورسالتي الدكتوراه، في الفلسفة ومن بعد في اللاهوت، في ألمانيا، حيث كان علينا حضور محاضرات عن منهجية البحث العلمي، وهذه كانت من صلب الإعداد التمهيدي للرسالة.
من منظوري، هذه الأمور من البديهيات غير القابلة للنقاش، عند تقويم أي مركز علمي. لذلك علينا قرع ناقوس الخطر عندما نقرأ أن جامعة ما في الغرب الاستعماري أصيبت، في عصر ما يسمى ما بعد الحقيقة، والأخبار المفبركة والحقائق البديلة، بحساسية بالغة تجاه الرأي الآخر، المختلف، جراء فقدان الغرب هيمنته على العالم، ولم يعد بإمكانه احتكار الحقيقة/ الكذب [الحقيقة والكذب وجهان لأمر واحد، فلا حقيقة من دون كذب، والعكس صحيح].
أقول هذا بعدما قرأت أن جامعة هارفرد، أو مكتبتها (لا فرق)، وهي من دون شك [كانت، حتى هذا التطور الخطير] من أعرق المراكز العلمية الأكاديمية في العالم، بدأت بوضع نصائح للطلاب بخصوص «الأخبار الكاذبة»، وبالتالي فهي تحذرهم منها ومن الاستعانة بما يرد في مواقع على الإنترنت، بل إنها «تفرض» عليهم الاستعانة بروابط وتطبيقات تحذر من المواقع «المشبوهة»، وتعمل على تصفية المراجع.
هذا كله يعني أن هذه الجامعة بدأت بالتحول إلى مركز للتفتيش، وأنها تحتكر الحقيقة، في حين علمنا أن تقدم البشرية قائم على البحث والتقصي!
هذا يذكّرنا بكتاب بدأت الكنيسة الكاثوليكية بوضعه قبل أكثر من عشرة قرون، وهو ما يعرف بقائمة المؤلفات الممنوعة (Index Librorum Prohibitorum). تلك القائمة ضمت مؤلفات عائدة لكبار المفكرين والفلاسفة والعلماء والفنانين، بدءاً من كاتب المسرحيات الأثيني أرصطفنس وشاعر روما جوفينال، إلى فيكتور هوغو وهاينرِش هاينِه ودانيل دافو ومونتسكيو، وفرنسس بيكون ودارون وإرنست رِنان، وانتهاءً بألبرتو مورافيا وسيمون دو بفوار. البابا بولس السادس أوقف العمل بالقائمة عام 1966 فقط، لكن الكاردينال جوزف ريتسِنغر، الذي أضحى البابا بينيدكت 16، أعلن أن قوتها الأخلاقية باقية.
الكنيسة الكاثوليكية كانت تضيف المؤلف بعد قراءته بإمعان ومناقشته، ولم تفعل، مثل جامعة هارفرد التي صنفت، عملياً، كل المؤلفات التي ترد في الروابط المذكورة في الموقع الآنف الذكر، بأنها تروّج للأخبار الملفقة. منهجية جامعة هارفرد هذه تعني تصنيف مئات الآلاف من المؤلفات والأعمال العائدة إلى كثير من كبار علماء العالم، ومنهم من تخرج في الجامعة نفسها، ضمن دائرة الرفض، مع أن أحداً من واضعي هذه القوائم لم يقرأ أياً منها!
من الممكن تصور عواقب هذا الأمر على البحث العلمي، المفترض أنه محايد وموضوعي، ذلك أن جامعة هارفرد تعدّ مرجعاً لكثير من جامعات الغرب، بل والعالم. وفي حال أن جامعات أخرى أخذت بهذه، فستستحيل المؤسسات العلمية مراكز لتخريج جهلاء بشهادات جامعية، على طريقة طويل العمر بحر العلوم وآرائه عن الثورة الجزائرية.