ساحات الوطن العربي في شرقه وغربه تشتعل، فهي لا تنعم بربيع عربي، بل تعاني من فصل عاصف، وقاسٍ، ووحشي في أكثر لحظاته. عشرات الدول، ومئات الفصائل تكالبت على ليبيا، وسوريا والعراق، واليمن، تعمل فيها فساداً ودماراً.
وتُطل علينا الجامعة العربية، ومنظمة تعاون دول الخليج، تحديداً منددةً بالتدخل الإيراني. أيام الشاه كان الكثير من المناضلين العرب، والمثقفين، وعن حق، يطلقون على إيران اسم «إسرائيل الثانية».
سقط الشاه، وتوجهت الثورة منذ البداية إلى إغلاق السفارة الإسرائيلية، ليرفع فوقها علم الثورة الفلسطينية.
وانتقلت إيران من الحضن الأميركي، لتمارس سياسة مستقلة منحازة إلى شعبها ومصالحه، وفتحت ذراعيها لقوى التحرر العربي، والإسلامي والعالمي.
إن حديث هذه الأنظمة، عن التدخل الإيراني، وتحديداً بثوبه القومي الزائف، ولباسه المذهبي، يثير الفتنة بخطابه الغرائزي، ويرمي الغشاوة على العيون، كي لا ترى حقيقة المخططات، والأخطار المحدقة بالأمة.
هم ضد هذا التدخل، ولكن مع تدخل آخر، فأي تدخل يفاوضون وأي تدخل هم في خدمته. ولعل من المفيد أن نذهب إلى موضوع «التدخل في الشؤون العربية إلا مع مساره التاريخي. في الجزيرة العربية، حيث الصوت الأعلى اليوم، ضد التدخل الإيراني، ومع تركيا الرجل المريض، اتفق الإنكليز مع الشريف حسين لإعلان الثورة على العثمانيين، مقابل وحدة عربية بزعامة الشريف. وفى الشريف بوعده، وبعد هزيمة تركيا انقلب الإنكليز عليه، ودعموا بالمال والسلاح صنيعتهم عبد العزيز آل سعود، مقابل التعهد بقبول الكيان اليهودي وتقسيم المنطقة.
وأضاف الإنكليز إلى سلطة آل سعود السياسية، سلطة الوهابية دينياً. وكان هذا الكوكتيل منتجه إنكليزي بامتياز. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، كان التدخل الغربي متمثلاً باتفاقية سايكس ــ بيكو الذي أقام هذه الدول الفاشلة. والتدخل الغربي الأخطر، والأخبث كان بإقامة إسرائيل، للفصل بين شرق البحر الأبيض المتوسط وغربه، إمعاناً في تمزيق أوصال الأمة والوطن العربي، مع كارثة إنسانية للشعب الفلسطيني.

تحققت نبوءة أوباما بمجيء «الإخوان المسلمين» وتولي محمد مرسي السلطة

سبق ذلك احتلال الجزائر وتونس، وليبيا والمغرب. جرى هذا في الماضي القريب، فما حالنا اليوم؟
في عام 2003 يحتل الأميركيون العراق، تحت ذرائع اعترف بعض مسؤوليهم بأنها كاذبة ومخجلة لاحقاً. دفع جورج بوش ثمن تهوره باحتلال العراق، لأن الثمن كان غالياً، بفضل المقاومة البطولية لشعبه. جاء باراك أوباما المعارض الأول للتدخل الأميركي في العراق، رئيساً للولايات المتحدة. زارنا، وخطب في الأزهر، وفي جامعة القاهرة، وطمأننا بانفتاحه على الإسلام، والمسلمين، وكان الربيع العربي، الذي تفجر في ليبيا، وتونس، ومصر، وسوريا، والعراق، ولا تسأل هنا عن باقي الأنظمة، فالربيع يسيطر على كل فصول السنة، في السعودية، وقطر، والإمارات، والمغرب. التدخل الأول كان في تونس، وبقدرة قادر انتهت الأمور إلى عرس ديموقراطي.
في مصر، تحققت نبوءة أوباما بمجيء «الإخوان المسلمين» وتولي محمد مرسي السلطة. التدخل الكبير، كان في ليبيا. ربيعٌ عربي بقيادة الفيلسوف الفرنسي الصهيوني، هنري ليفي. تظاهرات في بنغازي، فاقتتال في كل مكان، تجتمع الجامعة العربية، وتُحيل مهمة حماية المدنيين على مجلس الأمن، وتنهال على ليبيا الحمم البريطانية، والفرنسية، والإيطالية، قُتل الطاغية القذافي، ولا تزال في ليبيا تتقاتل قبائل ومناطق، ودول، أما حكاية حماية المدنيين فهي برسم «غوبلز».
ينتقل هنري ليفي لرسم السيناريو الليبي في سوريا، حيث يصطدم هذا المخطط برجل روسيا الناهضة، وكان الفيتو الروسي ــ الصيني المشترك، ومع ذلك شُنت الحرب الكونية على سوريا من الحدود التركية، والأردنية، واللبنانية، حيث دخل إليها عشرات ومئات الألوف حسب المصادر الألمانية.
وفجأة ومن دون مقدمات، كان التدخل في العراق، «داعش» في الموصل، تهدد بغداد، من أين أتت ومن موّل ومن سلّح؟
كل هذا التدخل موّلته الدول النفطية، فهي ليست ضد أي تدخل، بل معه وشريكته حين يخدم الأميركي وربيبته إسرائيل. هي ضد التدخل الذي يدعم الشعب الفلسطيني عبر مساعدة مقاومته بالمال والسلاح، وهي ضد التدخل في سوريا الذي يواجه الإرهاب والأطماع التركية، فضلاً عن الإسرائيلية.
وهي كذلك في لبنان، لا تريد سنداً لمقاومته بوجه إسرائيل.
وفي العراق، الأمر عينه. فلا تقبل الأنظمة إياها تدخلاً ضد سقوط بغداد وتحويل العراق وسوريا والمنطقة إلى خلافة متوحشة، في سياق مشروع أميركي يعتمد هذه الخلافة كقاعدة انطلاق إلى القوقاز والشيشان، ومسلمي روسيا الاتحادية ومسلمي جمهورية الاتحاد السوفياتي السابقة، وصولاً بعدها أو معها إلى مسلمي الصين.
مجدداً نستشهد بوزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، في منتدى بروكسل، حين قال: «سنهزمهم كما هزمنا العروبيين بقيادة عبد الناصر وكما هزمنا السوفيات في أفغانستان»، وذلك عند حديثه عن «محور المقاومة».
بناءً عليه، فكل تدخل يرمي إلى مواجهة هذا المخطط، يثير «مشاعرهم القومية» باعتباره أعجمي الهوية من جهة، ومذهبياً من جهة أخرى. أما في زمن عبد الناصر، وحافظ الأسد، فقد أثار «مشاعرهم الإسلامية»، باعتباره عربي الهوية. التكتيك متغير، والهدف ثابت، إنه التماهي الكامل مع أعداء الأمة.
* سياسي لبناني