ليس هناك مبالغة في النظر إلى خطاب «حزب الله» كجزءٍ أساسيّ من منظومة القوة التي يمتلكها. فالحزب لا يتعاطى باستخفاف مع اللغة ولا مكان للعشوائية في استخدامها بل تستخدم بدقّة كأداةٍ للتعبئة وللتعبير عن الرؤية الاستراتيجية.
وهذا جليّ في اختيار الحزب لشعارات احتفالاته وخاصة شعار عاشوراء السّنوي. يحتلّ الخطاب حيّزاً واسعاً في ممارسة «حزب الله» للسّياسة أو القوة. وإذا استعرْنا مفهوم فوكو للخطاب، نرى أنّ الخطاب عند «حزب الله»، ليس فقط «وعياً يسكن مشروعه في الشّكل الخارجي للغة ولا لغة تُضاف لها ذات تتكلّمها بل هو ممارسة لها أشكالها الخصوصية من التّرابط والتّتابع». هكذا يصبح تحليل الخطاب أبرز الأدوات التي تساعدنا في فهم «حزب الله».
في هذا الإطار يسعى الباحث علي عبدالله فضل الله في كتابه «Hezbollah Change of
Discourse» (حزب الله: تغيير في الخطاب) إلى دراسة التغيير في خطاب «حزب الله» في الفترة الممتدّة من عام 1985 إلى عام 2006، عبر تقسيم تلك الفترة إلى ثلاث مراحل يرصد فيها التحولات التي طرأت على خطاب الحزب لناحية المواقف أو اللغة المستخدمة في إبداء تلك المواقف. لماذا تغيّرَ الخطاب وما هي النتائج المترتّبة عليه؟
تبدأ المرحلة الأولى من عام 1985 عندما تلا، السّيد إبراهيم أمين السّيد، البيان الرّسمي لتأسيس حزب الله المعروف برسالة مفتوحة إلى المستضعفين وتمتدّ إلى عام 1992 عقب مشاركة الحزب في أول انتخابات برلمانية جرتْ بعد انتهاء الحرب الأهلية. تنتهي المرحلة الثانية مع خطاب، السّيد حسن نصرالله، في عام 2000 بعد نجاح مقاومة «حزب الله» بهزيمة إسرائيل وتحرير جنوب لبنان. يختار الباحث أن تنتهي المرحلة الثالثة في عام 2006 بعد توقيع التفاهم بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحرّ» وخطاب النصر عقب حرب تموز.
يسعى الباحث لرصد عملية التحول في المراحل الثلاث عبر تحليل تغيير مواقف «حزب الله» في القضايا الداخلية والإقليمية والدولية. في القضايا الداخلية يبدو التحوّل جلياً، بدءاً بتخلّي الحزب عن حلم الدولة الإسلامية بعد قبوله اتفاق الطائف، بعدما سبق واعتبره مؤامرة تستهدف المستضعفين، ما استتبع المشاركة في الانتخابات النيابية لعام 1992، الأمر الذي عدّ بمثابة قبول «حزب الله» بالنموذج اللبناني، خصوصاً بعد الثقة التي منحها «حزب الله» للحكومة بتوقيع اتفاق نيسان 1996، وتتوّجَ القبول بمشاركة الحزب في الحكومة عام 2005 بعد انسحاب الجيش السوري بفعل اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

اكتفى فضل الله بإعادة كتابة الخطاب بأسلوبه من دون تحليل فعلي

على المستوى الإقليمي، لم يتبدّل خطاب «حزب الله» بشكل كبير مقارنة بالتحوّل في مواقف الحزب على المستوى الداخلي. في المراحل الثلاث، كانت ولا تزال إسرائيل العدوّ الأول لـ«حزب الله». استمرّ رفضه لخيار التسوية السياسية، معتبراً أنّ الحلّ يتمثّل بتفكيك الكيان الصّهيوني. بالتالي، لم يتغيّر الموقف من القضية الفلسطينية إذ بقيت البوصلة التي تحدّد صوابيّة أيّ موقف.
يميّز الحزب في خطابه بين الشعوب العربية والأنظمة الفاسدة، لا يرتبط معيار التمييز هنا بطبيعة النظام أو سياساته الداخلية بل بموقف ذلك النظام من الصراع مع إسرائيل. بقيتْ فلسطين بوصلة «حزب الله» في إطلاق المواقف الإقليمية. في هذا الإطار دفعتْ سوريا ولا تزال ثمناً لالتزامها بدعم المقاومة ورفضها للسياسات الصهيونية في المنطقة. بالرغم من الاشتباك بين «حزب الله» والجيش السوري في الثمانينيات، امتنع الحزب عن توجيه أيّ نقد للإدارة السورية للبنان وافتخر بتحالفه مع سوريا واعتبرها شريكة الانتصارات. كان الموقف ثابتاً بدعم وتأييد السياسات السّورية تجاه لبنان والإقليم. كذلك لم يتبدّل الموقف من السياسات الإيرانية تجاه لبنان والمنطقة.
على المستوى الدولي، وإنْ بقيتْ العدسة التي يرى من خلالها الحزب الواقع الدّولي: «مستضعفون في مواجهة الاستكبار العالمي متجسّداً بالولايات المتحدة»، تمّ التخلّي عن اللغة الجذريّة التي ميّزتْ انطلاقته لصالح خطاب عقلاني يبرز الحزب فيه كحركة تحرّر وطنية. عمل على تحسين علاقاته مع فرنسا بعد دورها الإيجابي في عقد تفاهم نيسان 1996. بالتوازي لم يتبدّل الموقف من الأمم المتحدة، لا يمكن التعويل عليها لكبح العدوانية الأميركية والإرهاب الصهيوني. كما في حالة إسرائيل، لم يتبدّل خطاب الحزب تجاه الولايات المتحدة، لا تزال عبارة الشيطان الأكبر مستخدمة في خطابات الحزب.
بالمحصلة، كما في كل الكتاب، يصل الباحث إلى خلاصة معروفة لأيّ متابع، وهي أن «عقلنة الخطاب» أبرز ما يميّز تغيير خطاب «حزب الله». لكنه يخرج باستنتاج، غريب على أي باحث بشؤون الطوائف اللبنانية، يربط فيه صعود الشيعة ونجاحهم بمفهوم الاجتهاد المرن في الفقه الشّيعي متمثلاً بولاية الفقيه والقيادة الحكيمة للحزب خاصة في ظلّ قيادة السيد حسن نصرالله.
لم يكن اهتمام الباحث موجَّهاً للملفوظات والخطاب وكيفية إنتاجه. فما هو الخطاب؟ عمّا يجب البحثَ فيه؟ عن قوانين بنائه أم شروط وجوده؟ كيف تنتج الممارسة الخطابية ومنْ المفوّض إنتاجها؟ ما مكان صدورها وما موقع من يتداولونها؟ كيف تصبح بعض الملفوظات جدّية وكيف تعبّر جدّيتها تلك عن توطيد إرادة الحقيقة؟ أيضاً، لا وجود لتحليل الملفوظات المكوّنة للخطاب ولا بحث عن شروط تكوّنها وقوانين بنائها وعلاقات توزّعها وكيفية عملها ودلالات ظهور غيرها. لا أثر لهذه الأسئلة في معالجة الباحث لموضوعه.
ليس من التجنّي الحكم بغياب البعد النقدي في معالجة الباحث للموضوع. بدايةً يتفاجأ القارئ بالمرور السّهل للباحث في عرض بعض الأفكار المتداولة وتكرارها من دون رؤية نقدية. مثل عرضه لأسباب صعود العامل الطائفي الإسلامي بشكل مجتزأ ومنقوص (ص 52). في موضع آخر، يرى الباحث أنّ التديّن يمنح «حزب الله» صلابة تُقلّل من أخطائه وتزيد من فرص النجاح، من دون أنْ يتنبه إلى التناقض التاريخي الذي يمثله التديّن مع تطوّر الطوائف في الإطار اللبناني. كذلك تغيب اللغة النقدية في حديثه عن خطاب الوحدة الإسلامية، إذ يُعيد خطاب الحزب من دون أنْ يوضّح للقارئ أسباب إصرار «حزب الله» على الخطاب الإسلامي الوحدوي. يكتشف الباحث تغيير خطاب الحزب في المراحل الثلاث باختلاف خطاب كلّ مرحلة من دون تحليل الخطاب. بالمجمل لم يتوسّع الباحث بتحليل الخطاب إنّما بترجمته للإنكليزية ليُعيدَ كتابته بأسلوبه. هكذا يصبح القارئ أمام خطاب حرفيّ مقتبس يندرج بعده ذات الخطاب ولكن بأسلوب الباحث، فهو يستبدل التحليل بالتوسّع في إعادة كتابة الخطاب. باختصار ينعدم التحليل ليتساءل القارئ عن الرّبط بين استعراض الخطاب وما طرحه الباحث في بداية كتابه عن آليات تحليل الخطاب. كما لا يلمس ولا يلاحظ استخدام أيّ منهجٍ في التحليل.
لا جديد في الكتاب، ما يدفع القارئ للتساؤل لمن وُجِّهَ الكتاب؟ خصوصاً أنّه صادر عن دار نشر متواضعة متخصّصة بنشر كتبٍ ذات محتوى ديني، ضمن نطاق لبنان وبضعة بلدان عربية في الحدّ الأقصى. هل هو كتاب بالإنكليزية موجَّه لقارئ عربيّ؟ فيما المكتبات الأجنبية مكتظة بكتبٍ عن «حزب الله» صادرة عن دور نشرٍ عالميّة وبسعرٍ أقلّ.
*باحث لبناني