الثروة الضخمة التي يملكها بليونيرات «وول ستريت»، مثل روبرت ميرسِر، والقوة السياسية التي أُلحقت بها، لم تأتِ من فراغ أو صدفة. بل إنّ صعود «القطاع المالي» في أميركا والغرب هو جزءٌ أساسيّ من قصّة النيوليبرالية والاقتصاد السياسي الذي خلقته خلال العقود الماضية (على الهامش: الرئيس السّابق لميرسِر ومؤسس صندوق «رينيسانس»، جايمس سيمونز، هو ايضاً متموّلٌ سياسيّ كبير، ولكنّه ليبرالي يدعم الحزب الديمقراطي وهو، بالمناسبة، أثرى من ميرسِر بكثير).
كما يحاجج العديد من الباحثين في الموضوع، فإنّ أبرز سمات التحوّل نحو «النيوليبرالية» في الغرب منذ السبعينيات تمثّل في التخلّي عن نمط النموّ الكينزي، أي ذاك الذي يعتمد على تنسيق الطلب الداخلي ورفعه باستمرار (بعد الحرب العالمية الثانية، مثلاً، نشأ نموذج الضواحي واقتناء بيوت مستقلّة لكلّ عائلة في أميركا، ثمّ ثلاجة وتلفزيون وسيّارة تتغيّر كلّ بضعة أعوام، وهذا الارتفاع الجماعي في مستوى الاستهلاك كان المحرّك الأساسي للنموّ). حين تجمّد دخل العمّال وأغلب المجتمع ــــ تقول الأرقام إنّ الدّخل الحقيقي للعامل الأميركي لم يرتقِ تقريباً منذ سنة 1973 ــــ لم يعد من الممكن الاستمرار في نمط «التّراكم الأفقي»، حيث الجميع يستهلك أكثر، فيرتفع الطلب في كلّ القطاعات، وتتوسّع الشركات والمصانع، وترتفع الرواتب، فيزيد الاستهلاك من جديد (بتعابير أكاديمية، هذا ما يسمّيه أمثال أغلييتا وبيوري و«مدرسة التنظيم» الفرنسية، وقبلهم جميعاً غرامشي، «النمط الفوردي» للانتاج).
مع النيوليبرالية، أصبحت الوسيلة الأساس للنموّ هي بواسطة «الكريديت»، أي خلق المال عبر الاستدانة وضخّه في السّوق. ولأنّ الدّين يستند الى أصول، فقد استلزم الأمر أن يقوم السّوق، باستمرار، بـ«نفخ» أصولٍ معيّنة، وتسعيرها بأعلى من قيمتها، لتصبح مصدر السّيولة في الاقتصاد. هذا، بطبيعة الحال، يعني نشوء «فقاعات»: مصالح تتوسّع بشكلٍ كبيرٍ وترتفع قيمتها بوتيرة غير منطقيّة وتغرقها البنوك بالأموال، ثمّ ينهار سوقها في نهاية الأمر. في الحقيقة، فإنّ من الممكن أن نربط بين كلّ مرحلة «نموّ» في الاقتصاد الأميركي مؤخّراً وبين فقاعةٍ اقتصادية من هذا النّمط: «فقاعة الدوت كوم» في أواخر التسعينيات ثمّ «فقاعة العقارات» في منتصف العقد الأول من الألفية ثمّ «التسهيل الكمّي» أخيراً، حيث تقوم الدّولة مباشرة بتوفير «الكريديت» وطبع العملة. في قلب هذه العمليّة نجد البنوك والقطاع المالي، فهي من يشرف على هذه الدّورة بأكملها، ويوفّر السيولة ويقيّم الأصول، وهي أوّل من يلتقط هذه التغييرات في السّوق ويراهن عليها ويكسب (بل هي، فعلياً، تملك «طاولة القمار»). من هنا تضخّم حجم القطاع المالي باضطرادٍ، حين لم يعدّ «يوزّع» السيولة على المصالح والصناعات، بل أضحى «يصنع» السيولة ويبتدع وسائط مبتكرة للمراهنة والكسب المالي لا يمكن أن تحصل على مثلها من نشاطات صناعية أو زراعية أو «انتاجيّة».

«الأبيض القوي»

تدّعي مجلّة «نيويوركر»، في تحليلها لشخصية ميرسِر، أنّ الكثير من أفكاره المتطرّفة يمكن ترجيعها الى طبيعة عمله ومصدر ثروته. الفكرة هنا هي أنّ «بليونير القطاع المالي»، على عكس الصناعيين الأميركيين القدامى، لا يعيش حياته بين النّاس ولا يتعامل الّا مع فئته المهنية الضيّقة والمعزولة. بليونيرات اميركا التاريخيون، مثل فورد وكارنيجي وديبونت، كانوا «يبنون» أشياءً ويفهمون قيمة الاقتصاد الحقيقي، بينما بالنسبة الى أناسٍ مثل ميرسِر وبانون (الأخير بنى، ايضاً، ثروته في «وول ستريت» قبل أن يتجه صوب السياسة والإعلام) فإنّ المال، والنّاس، ما هي الّا مفاهيم نظريّة مجرّدة، يفهمونها كأرقامٍ على شاشة الكمبيوتر وليس كواقعٍ اجتماعيّ معقّد.
ولكن، في الحقيقة، فإنّ العلاقة بين ميرسِر وبانون وترامب من ناحية، وبين «وول ستريت»، أكثر اشكاليّة من ذلك. المفارقة الحقيقية هي أنّ بانون وميرسِر، وهم بمعنى ما نتاجٌ للمرحلة النيوليبرالية وهيمنة قطاع الخدمات المالية، يحملون آراء معادية، وبشكلٍ جذريّ، لمجتمع «وول ستريت» ولفكرة «صنع المال من لا شيء». العنصر المركزي في الخطاب الاقتصادي لـ«اليمين البديل» هو أنّ القطاع المالي والمضاربين هم من أوصلوا الى الأزمة عام 2008 وخرّبوا اقتصاد اميركا، وأنّ دورهم ونفوذهم يجب أن يتقلّص. ميرسِر، الذي صنع ملياراته من المضاربة، يطالب بعودة المعيار الذهبي كأساسٍ لقيمة العملة؛ والحزب الجمهوري، تحت قيادة ترامب، تحوّل من «حزب التجارة الحرّة» الى حزبٍ يعارض أغلب جمهوره نظرية التبادل الحرّ (وفقاً للباحث الاقتصادي آدم توز، ارتفع عدد الجمهوريين الذين يعتبرون اتفاقات التجارة الحرّة «أمراً سيئاً» من أقل من الثلث كمعدّل في السنوات الماضية الى أكثر من 68% من الجمهوريين حالياً). في المؤتمر الأخير لـ«مجموعة العشرين»، منذ أيّام، أصرّت الحكومة الأميركية أنها لن توقّع على البيان الختامي حتّى تُسحب منه عبارةٌ عن «الالتزام بالتجارة الحرّة»، وهو لازمة كانت ترافق بيانات المجموعة منذ انشائها.
تعرّض بانون وميرسِر في الماضي الى اتّهاماتٍ بمعاداة السّاميّة، ويقول البعض انّ بانون قد شعر بالغربة (كمسيحي أبيض، جنوبي ومحافظ ومن خلفية عسكرية) في مجتمع وول ستريت «اليهوديّ الطابع»، وأن هذه التجربة السيئة كانت من أسباب حنقه على المصرفيين. في تفسير هذه المعركة بين النّخب الأميركية، يقول صديقٌ ــ هو طبيبٌ وباحث في بوسطن ــ انّ نخبة ترامب وأفكارها تشبه السرديّة الخلدونية عن قائد سلالة متأخّر، جاء وسلالته في حالة انحدارٍ وتراجع، وهو يؤمن بأنّه سيقدر على استعادة أمجاد أجداده عبر إحياء العصبيّة المؤسّسة. في هذا التشبيه، يعتبر ترامب وبانون أنّ «العصبية المؤسسة» في اميركا هي نخبتها البيضاء التاريخية، وأنّ سبب «الضعف» و»الانحدار» هو ضرب هذه الفئة وإضعافها على حساب الأقليات واليهود والمهاجرين. يكرّر ترامب باستمرار تعبير «أننا نبدو ضعفاء» أو «انّهم يجعلوننا نبدو ضعفاء» في هجومه على القضاء الأميركي أو الإعلام. بتعابير أخرى، «الطبقة الوسطى العليا»، التي تمسك الادارة والإعلام والقضاء، هي الهدف السّهل الذي يوجّه ترامب غضب جمهوره ضدّه، ويسعى الى إضعافه (يلفت الصّديق الى أنّ المحكمة العليا اليوم، مثلاً، لا تضمّ بروتستانتياً ابيض واحداً؛ وهو يحكم بأنّ ميزانية ترامب، لو مرّت، ستكون ذات أثرٍ مدمّرٍ على قطاع الأبحاث الذي يعمل فيه، بل قد تحدّ من التفوّق التكنولوجي لأميركا على مستوى العالم).

كوريا

في السياسة الخارجيّة، التّرجمة الفعليّة لأولوية «أن لا نبدو ضعفاء» لن تكون غير الحرب. ميرسِر هو صاحب مقولة «كان يجب أن نأخذ نفط العراق طالما أنّنا غزوناه» والتي كرّرها ترامب من بعده. وزيادة التّمويل لمؤسّسة الجّيش، وهي ذات ميزانية هائلة أصلاً، مؤشّرٌ اضافي عن التهيّؤ للقتال (للمقارنة، أعلنت روسيا هذه السّنة عن تخفيض كبيرٍ في انفاقها الدفاعي، يقارب ربع حجم الميزانية). هذه الحرب، على ما يبدو، قد لا تكون في منطقتنا، بل ضدّ دولة كوريا الشمالية الصغيرة ــــ أقلّ من 25 مليون نسمة ــــ الّتي صدرت ضدّها مؤخّراً تهديدات أميركية مباشرة بالعمل العسكري. قال وزير الخارجية، تيلرسون، في كوريا الجنوبية أنّ «كلّ الخيارات على الطّاولة» فيما نقلت «وول ستريت جورنال» تسريباتٍ لقادة أميركيين يقولون فيها صراحةً انّهم «يدرسون العمل العسكريّ لتغيير النّظام».
في مقالٍ له عن الموضوع، يقول الكاتب الكندي ستيفن غوانز انّ مثل هذه التهديدات ليست جديدة، بل عمرها من عمر انشاء «الجمهورية الديمقراطية الشعبية» عام 1948. قبل أن يكون لكوريا برنامجٌ نووي وصواريخ باليستية، لم تمرّ سنة لم يتمّ تهديد الكوريين فيها بالإبادة أو الغزو أو الحرب المدمّرة. في الحقيقة، يقول غوانز، فإنّ هذه الوضعية هي ما جعل البرنامج النووي الكوري خياراً منطقياً وعقلانياً، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانعدام التوازن العسكري بين كوريا الشمالية وخصومها. السلاح النووي هو الوحيد القادر على ردع الأميركيين وتهديدهم، وهو يكلّف أقلّ بكثير من محاولة تحقيق التكافؤ العسكري مع كوريا الجنوبية وأميركا (وهو، أصلاً، هدفٌ مستحيل).
المؤسف في الموضوع هو أنّ هذه التهديدات أصبحت معتادة ولا يلاحظها أحد ولا تستلزم إدانة، ولو جرت الحرب غداً وقامت اميركا، للمرة الثانية خلال نصف قرن، بتدمير كوريا الشمالية عن بكرة ابيها، لاستمرّت النخب العربية في تلقّف خطاب السخرية من كوريا وزعمائها، واعتبار أيّ دفاعٍ عن البلد دفاعاً عن زعيمه «المجنون» (فكوريا عند هؤلاء، بعد سنوات من البروباغاندا الأحادية، ليست بلداً حقيقياً فيه شعب ويعاني منذ عقودٍ بلا أن يشكّل تهديداً لأحد، بل هو مجرّد زعيمٍ كاريكاتوري، نصدّق كلّ تقريرٍ نقرأه عنه، والباقي خلفيّة). في هذه الأثناء، تجري الولايات المتحدة مع سيوول مناورات، هي فعلياً تمرينٌ علني على غزو كوريا الشمالية، تضمّ أكثر من 300 ألف جندي، ولكنّ عنوان صحيفة «ذا صان» البريطانية يقول «الطاغية الكوري المجنون يدمّر حاملة طائرات… في شريط بروباغاندا».
لا مجال هنا للتفصيل والعودة الى التّاريخ، ولكن يكفي أن نذكّر، كما يقول غوانز، بأنّ النخبة الحاكمة في كوريا الجنوبية هي عملياً عملاء الاحتلال الياباني، الذين تحوّلوا فوراً الى عملاءٍ للإحتلال الأميركي، فيما نظام الشّمال يتحدّر من المقاومين الذي لجأوا الى الجبال، وقاتلوا لبناء أمّةٍ كوريّة. حتّى سنوات قليلة، كانت السلطات في كوريا الجنوبية لا تزال تفرج عن رجالٍ مسنّين، هم كوريّون دعموا الشمال ولم يحتمل عقلهم أن يصبح «العملاء» ــــ الذين ساهموا في مقتل ملايين الكوريين وإحراق نصف البلد ــــ هم الحكّام والمنتصرين، فاعتقلوا ونالوا أحكام سجنٍ طويلة. في المقابل، وهذه وقائع قد لا يعرفها الكثير من النّاس، تعرض سيوول رسميّاً على كلّ مسؤول كوري ينشقّ 860 ألف دولار مكافأة، ومثلها لكلّ قبطان ينشقّ مع سفينته، وما بين 40 و250 ألف دولار لكلّ جندي يهرب ويأخذ معه سلاحه.
يكفي أن نسرد أثر العقوبات المتتالية على كوريا الشماليّة، التي عزلتها ودمّرت اقتصادها، وهي مجبرةٌ اصلاً على تخصيص ما يُقارب خُمس ناتجها الوطني للدّفاع، حتى لا تكون لقمةً سائغة لأعدائها. أواخر العام الماضي مثلاً، صدر قرارٌ جديد لمجلس الأمن يحدّد كمية الفحم التي يمكن لكوريا أن تصدّرها الى الصّين. القرارات السابقة منعت كوريا، تقريباً، من عقد أي تبادل تجاري مع الخارج، مع استثناءٍ يتعلّق بواردات الفحم الى الصين. ولكنّ الأميركيين انتبهوا الى أنّهم لم يحدّدوا كميّة الصادرات، فأضافوا قراراً جديداً يُلزم الصين بعدم شراء أكثر من 7.5 مليون طن من الفحم الكوري، أو ما قيمته 400 مليون دولار، بحسب أيّهما أقلّ (السنة الماضية صدّرت كوريا قرابة 20 مليون طن، قيمتها أكثر من مليار دولار، عبر الحدود الصّينيّة).
قد تجري قريباً مأساةٌ جديدة في شبه الجزيرة الكوريّة، يدفع ثمنها سكّان الكوريّتين، حتّى يشعر بيضٌ أميركيّون أثرياء أنّهم «أقوياء» و»رجال»؛ ويمكننا من اليوم توقّع ردود فعل «النخب» العربية تجاه تدمير أحد أفقر دول العالم. الكوريون ردّوا على التهديدات الأميركية بتجارب بالستيّة (اعتبرتها واشنطن «استفزازاً عدوانياً») واستعراض محرّكات صواريخ جديدة وترداد أنهم لا يخافون من التهديدات الأميركية. واشنطن تراهن على أنّ كوريا الشمالية ستتلقى هزيمة عسكرية من دون أن تستخدم سلاحها النووي، طالما أنها تعرف أن اميركا ستحوّل البلد بأكمله الى مسطّحٍ من زجاجٍ إن فعلت. ولكنّ المشكلة في مثل هذه الرّهانات، كمثل محاولة إحياء «عصبية» خلدونيّة من الماضي، هي أنّها غالباً لا تجري كما يتوقّع صانعوها.