إلى أسياد الإعلام اللبناني!
وأنت تنتقلُ بحواسكَ من محطة إلى أخرى، متسمراً أمامَ التلفاز، يداهمكَ إحساسٌ بالخطر. الخطر من أن يمسّ عقلكَ فراغ، وقيمتك الإنسانيّة ابتذالٌ وسخف. أيّ برنامجٍ أنتقي؟ تسأل نفسَكَ يائساً. ذلكَ برنامجٌ يروّج للجنس والفضائح طامحاً في تحقيق أكبر نسبة مشاهدة، في مجتمع أكثر من نصف أبنائه فارغون ومكبوتون... وذاك برنامج آخر يسيء إلى روح الفنّ، مُقصياً الرّقيّ بعيداً، مُحتفياً بأجساد شبه عارية، لا بأصوات!

تيأس للحظات، فتحتمي ببرامج سياسية. وإذ تجدها هي الأخرى عارية من أي حوار حقيقي مثمر... تجدها متكرّرة، باهتة، مملّة، تكلّ عيناكَ عن مشاهدتها، والإنصات إلى كلامٍ صار مقزّزاً، لفرط ما كرّر نفسه! وأنتَ تقلّب بصرك من قناة إلى قناة، تشتاق إلى الرقيّ... إلى الثقافة والقيم، إلى ألسنة مصونة من العيوب، إلى شفاه تعشق لغة الضّاد وتبرزها أميرة، إلى كلام موزون يزيدكَ سموّاً، يخاطب إنسانيّتك، يطوّر معرفتك.
وفي لحظات الحنين هذه، تثبُ من الذاكرة وجوه إعلاميّة رحلت فارتحل معها النضوج والإتّزان. ريكاردو كرم واحدٌ منها. كيف كان يجتذبكَ بحرفيّته ولغته المشذّبة من أيّة شائبة، الأنيقة كابتسامته النديّة، آخذاً بيدكَ مسافراً بكَ إلى ما «وراء الوجوه» جاعلاً من ضيوفه المختارين بعناية فائقة، من متفوّقين ومبدعين، قدوةً لك! ريكاردو وغيره ممّن رحلوا، تركوا الساحة شاغرة لوجوه جديدة، تصطنع المهارة الإعلاميّة. تلك الوجوه ما استطاعت أن تأسر قلبك، لأنها بكل بساطة متصنّعة متكلّفة عاجزة عن وهبكَ ما يوسّع مدارك فكرك. شحيحةٌ هي البرامج التي لا تمل من انتظارها. «تحقيق» لكلود أبي ناضر هندي واحد منها. برنامج يحترم المشاهد، مُعَدٌّ بإتقان، يهبكَ كمّاً من ثقافة متنوّعة لم تكن في زادك، مُقدّمته إعلاميّة رصينة، وجهها صادق، ليس هاجساً عندها حقنه بالبوتوكس.
زد على ذلك، عبد الغني طليس، بلكنته البعلبكيّة العفويّة. كم تحترمُه لِما يحمله فكره من شعر ونقد وثراء معرفيّ. يستضيف وجوهاً، وإذ به يتحوّل واحداً منها، ينطق شعراً، يسأل شعراً، يتنفّس شعراً.
إلى مثل هَؤلاء نحتاج اليوم، تجنّباً للإحساس بالتّداعي. يكفينا ما على الأرض من تداعٍ.
أذكرُ جيّداً وجه ميّ منسى حين أطلّت منذ أشهر على شاشة تلفزيون لبنان في برنامج حواريّ. كيف ترجمت عشقها للوطن، للصحافة، للأدب، للّغة. وجدتها تنزرع في روحي في عمق أعماقها...
إلى منسّى وهنري زغيب وأمثالهما نحتاج! إستضيفوا نماذج كهذه، فبها تكبرون ونكبر. وبها تتحول شاشاتكم إلى منارة وضّاءة، بدلاً من أن تكون أبواقاً تصيح وتثرثر في الفراغ.
دانا تقي جوهر