مشكلة النقاش الحالي حول الانتخابات الفرنسية المزمع إجراؤها في نيسان وأيار المقبلين، أنها لا تتطرّق إلى السياسات الاقتصادية التي يتبنّاها المرشحون وتكتفي بملاحقة الفضائح التي تلاحق بعضهم دون البعض الآخر.
هذا يخلق وهماً لدى المتابعين للشأن الفرنسي بأن قضايا الفساد التي تلاحق فرانسوا فيون ومارين لوبين يمكن أن تكون بديلاً من نقاش السياسات الاقتصادية للمرشحين الرئيسيين (فيون ولوبين وإيمانويل ماكرون) والتي تتشابه في معظمها، ما عدا بعض التمايز الذي تنطوي عليه مقاربة حزب "الجبهة الوطنية"، وهو على أيّ حال لا يرقى إلى مستوى القطيعة مع السياسات النيوليبرالية الحالية. بالإضافة طبعاً إلى ما يطرحه تدخّل الإعلام ضدّ مرشح دون آخر من أسئلة حول التفضيلات على مستوى النخب، والتي تخلق بدورها وهماً إضافياً يضاف إلى مجموع الأوهام التي تشيعها المقاربة السائدة حالياً للانتخابات.

إشكالية التطرّق إلى فساد المرشّحين

عدم التطرّق إلى السياسات بهذا الشكل أفضى إلى شخصنة المعركة وتحويلها إلى جبهة يخوض فيها الإعلام وبعض مراكز النفوذ حرباً ضدّ المرشّح الأكثر تفضيلاً لدى قواعد اليمين ويمين الوسط. وبدلاً من أن يكون الأمر استكمالاً للنقاش الذي بدأ في المرحلة التمهيدية من انتخابات اليمين (بين فيون وآلان جوبيه) حول اقتراحات المرشّح اليميني النيوليبرالية المتطرّفة الخاصّة برفع سنّ التقاعد وزيادة ساعات العمل وصرف نصف مليون موظّف وإلغاء قانون الشغل تحوّل إلى سلسلة من الانتقادات المسنودة بوثائق حول فساده وفساد عائلته. ومع أنّ النزاهة تعتبر معياراً أساسياً في اختيار المرشح ثمّ في متابعته أثناء خوضه للمعركة الانتخابية، إلا أنها ليست معطىً يمكن على أساسه تحديد وجهة المعركة الانتخابية، وخصوصاً عندما لا يكون النقاش الذي تثيره متعلّقاً بالمحور الأساسي للحملة ــ أقلّه في المرحلة التمهيدية ــ والذي هو السياسات الاقتصادية والاجتماعية للمرشّحين. بهذا المعنى لا يمكن فرضها على الناخبين والرأي العام في فرنسا وخارجها كوجهة وحيدة للنقاش، وإلا تحوّلت المعركة الانتخابية إلى صراع بين نخب تريد فرض وجهة معينة على الناخبين، بدلاً من أن تكون تنافساً بين الأحزاب على اعتماد سياسة محدّدة للبلاد، وهي الحالة التي يُفترض بانتخابات بين أحزاب يمين ويسار ووسط أن تؤكّدها. هذا لا يعيد النقاش بشأن السياسات إلى مجراه الطبيعي فحسب، بل يفتح أيضاً أفقاً أرحَبَ للمحاسبة على قاعدة ربطها بالسياسة التي سيتّبعها المرشح. والحال أنّ هذا الأفق هو الذي يهمّ الناخب أكثر من متابعة فساد هذا السياسي أو ذاك لأنه يضع الفساد في سياق عام ولا يربطه بأشخاص، وبالتالي يساعده في فهم المجرى الذي ستسير إليه البلاد في حال وصول مرشّح يريد تدخُّلاً أقلّ للدولة في الشأن الاقتصادي كما يؤكّد فيون دائماً. لكن لا أحد يريد مناقشة هذا الجزء من حملة الرجل لأنه يفتح المجال أمام نقاش غير مُحبّذ حول الفساد الذي يتسبّب به انسحاب الدولة من المجال الاقتصادي لمصلحة مجموعة من الاحتكارات والرساميل التي يقود بعضها ــ أو يدعم ــ الحملة الانتخابية لمرشّح آخر هو ايمانويل ماكرون.

غياب اليسار

ويتأكّد هذا المنحى مع غياب مرشّح قوي لليسار قادر على فرض وجهة لا يكون النقاش فيها محصوراً بقضايا جزئية مثل «الفساد العائلي» للمرشّح أو الهوية الوطنية ومسألة الهجرة. والحال أنّ ثمة محاولات خجولة لفعل ذلك ولكنها تصطدم دوماً بانعدام قدرة المرشّح الآتي من اليسار على التأثير كما هي الحال مع بينوا آمون، بالإضافة إلى الصراعات التي يشهدها المعسكر الاشتراكي والتي أدّت في هذه الانتخابات إلى إضعاف الحزب وتحويله إلى قوّة هامشية في الصراع حول مستقبل فرنسا. عندما يحصل ذلك لا تتراجع القضايا الأساسية التي تهمّ عموم الفرنسيين فحسب، بل تتحوّل أيضاً إلى «مساحة خاصّة باليمين» الذي يهيمن عليه تياران يدعوان كلٌّ من جهته إلى تقليص دور الدولة في الاقتصاد، أو إلى جعلها في حال تدخّلت منحازة لمصلحة طبقة الأثرياء وأصحاب الرساميل. ثمّة تمايز هنا تبديه زعيمة حزب الجبهة الوطنية مارين لوبين ولكنه لا يتقاطع مع انحيازات اليسار ــ التي يعبر عنها بوضوح شديد مرشّح مثل جان لوك ميلانشون ــ ويَظهر في ظلّ احتدام النقاش حول موضوع الهجرة معنياً أكثر بحماية «اليد العاملة الفرنسية» من المنافسة التي تلقاها من المهاجرين. وهي مقاربة شبيهة بتلك التي يدافع عنها دونالد ترامب في الولايات المتحدة، حيث يتحوّل الهجوم على العولمة إلى ذريعة للدفاع عن مكتسبات لا تخصّ إلا الطرف الذي يرى هؤلاء أنه تضرّر من سياسات فتح الحدود للعمالة المهاجرة والأجنبية. حتى التراكم الذي يشدّد اليمين المتطرّف على أولويته من خلال استعادة المصانع والرساميل إلى الداخل لإنتاج القيمة يجب ــ في رأيهم ــ تصحيحه وإعادة توزيعه بطريقة لا تسمح بوصول الفائض منه إلى الفئات التي استفادت سابقاً من العولمة المالية، مع العلم أن هذه الاستفادة كانت ولا تزال محصورة بفئة صغيرة اغتنت وأثرت في حساب غالبية الشعب بما في ذلك فئاته المهاجرة. هكذا، يصبح دفاع حزب مثل "الجبهة الوطنية" عن الدولة دفاعاً عن وجهة معيّنة لتدخّلها لا عن وجودها كطرف مقيّد ومنظِّم لحركة الرساميل التي تذهب وتأتي إلى البلاد، متسببةً بخلق تراكم لا تستفيد منه غالبية الفرنسيين. وهي في ذلك تبدو أقرب إلى طروحات فرانسوا فيون وايمانويل ماكرون منها إلى ما يدعو إليه كلّ من جان لوك ميلانشون وبونوا آمون اللذان يشدّدان من موقعهما على محورية دور الطبقة العاملة في معاودة النهوض بالاقتصاد الفرنسي، سواء من خلال الدفاع عن قانون العمل والقطّاع العام أو عبر دعم وجهة للتدخّل لا تكون على حساب غالبية هذه الطبقة كما يريد معظم مرشّحي اليمين.

خاتمة

هذه الرغبة لدى اليمين بأجنحته المختلفة هي التي تهمّش القضايا المحورية في النقاش لمصلحة أمور لا يبدو أنها تعني أحداً خارج دائرة النخب المهيمنة. وهي نخب تعرف أنها تتلاعب بالنقاش العام عبر تحويل الفساد إلى سلوك شخصي مرتبط بهذا المرشح أو ذاك، لا إلى حصيلة للسياسات الاقتصادية التي تريد من الدولة اتباعها. غياب الربط بين الأمرين هو الذي يسمح باستبعاد النقد للوجهة النيوليبرالية التي يتبعها فيون في حملته، بحيث يبدو للموظّف أو العامل أو العاطل عن العمل في فرنسا بأنه سياسي فاسد فحسب، وبالتالي يصبح فساده غير المرتبط بسياق مدخلاً لتسليط الضوء على مرشحين أقلّ فساداً منه وأكثر استقطاباً بسبب هذه «النزاهة» لاهتمام الإعلام والرأي العام. من هنا خطورة اعتبار البعض ايمانويل ماكرون هو البديل، عبر التركيز على صعوده في استطلاعات الرأي وقدرته على استقطاب الناخبين المنفضّين عن فيون، من دون الانتباه إلى ما يمثّله الرجل على صعيد تبنّي أكثر السياسات الاقتصادية نيوليبرالية في فرنسا. بالمقارنة معه تبدو مارين لوبين التي يُرجَّح بشدّة أن تنافسه في جولتي الانتخابات على يسار جان لوك ميلانشون.
* كاتب سوري