مثل الزلازل التي تكشف نوعية التربة في الطبيعة، فإن الزلازل في المجتمعات تكشف نوعية تربتها. كان الانفجار السوري، في مقياس الأزمات، أكبر أزمة مركّبة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية من حيث تراكب الطوابق الأربعة في بناء الأزمة كعوامل متداخلة في تحريكها: محلية ــ إقليمية ــ دولية ــ منظمات عابرة للحدود («النصرة» و«داعش»).
كان هناك حطب سوري كثير قابل للاشتعال وقد أتت دول إقليمية وقوى دولية عظمى وكبرى بطناجرها من أجل طبخ طبخاتها على الحطب السوري المشتعل إضافة إلى «النصرة» (الفرع السوري لتنظيم «القاعدة») و«داعش» التي لاقت نمواً كبيراً من خلال مناخ الأزمة السورية فاقت ما لاقته في التربة العراقية. يجب دراسة البذرة الأولى للأزمة السورية التي انفجرت في درعا في 18 آذار 2011 إن كانت عوامل البدء في تلك البذرة في أحد التواريخ التالية: 17 نيسان 1946، 22 شباط 1958، 8 آذار 1963، أم 16 تشرين الثاني 1970؟
في مجتمع صام عن السياسة بفعل قسر انتصار السلطة الأمني ــ العسكري (وليس الفكري ــ السياسي) على المعارضة بشقيها الإسلامي والديموقراطي في أحداث 1979 ــ 1982 فإن إفطاره البادئ في درعا بعد 29 سنة، كان مفاجئاً من حيث محتواه للسلطة والمعارضة، وكلاهما، وخصوصاً السلطة، قد دفعا فاتورة ذلك الصيام الذي كان إفطاره مثل السيل المفاجئ في مجرى نهر انقطع طويلاً عن الجريان وليجرف ذلك السيل ويظهر كل ما تراكم هناك في فترة اللاحركة. من نزل إلى الشارع في الحراك السوري، كان جيلاً جديداً شاباً، لم تكن السلطة التي اعتادت وعرفت وخبرت السياسيين الذين مروا على السجون والعمل السري، تعرفه ولا أحزاب المعارضة التي تحولت إلى جزر متناثرة في فترة آذار 1982 ــ آذار 2011 وهو ما منعها من القدرة على قيادة الحراك المعارض بخلاف لينين الذي فوجئ هو وحزبه البلشفي بثورة شباط 1917 هو وباقي الأحزاب المعارضة الروسية، ولكن هذا لم يمنعه من القدرة على وضع برنامج وصنع أداة ذاتية لقيادة ذهبت في روسيا إلى ثورة أكتوبر عام 1917. إذا حسبنا معارضة الحراك، عبر الطبقات الثلاث: اليد واللسان والقلب، فإنها كانت واسعة وهي أوسع من الجسم الاجتماعي لمعارضة 1979 ــ 1982 ومن الجسم الاجتماعي للمعارضة الناصرية لسلطة حزب البعث في مرحلة 18 تموز 1963 ــ 16 تشرين الثاني 1970. برغم هذا، فقد كانت هناك ثلاثة أثلاث متساوية بالحجم وما زلت كذلك في فترة السنوات الست التي تفصل عن يوم 18 آذار 2011 تجعل المجتمع السوري في خانات ثلاث: الموالاة والمعارضة والتردّد. كان الجسم الاجتماعي للحراك السوري المعارض في أرياف حوران ودمشق وحمص وحماة وادلب وحلب وديرالزور وفي مدينتي حمص ودرعا وعند الوافدين الريفيين في الأحياء المهمّشة من مدينة دمشق (التضامن ــ الحجر الأسود ــ دف الشوك)، وكانت القاعدة الاجتماعية الصلبة للسلطة في مدينتي دمشق وحلب عند التجار والصناعيين والفئات الوسطى وعند الأقليات الطائفية والدينية (25% من مجموع السكان)، فيما كان التردد يشمل بنى اجتماعية واسعة في مدن حماة وإدلب ودير الزور واللاذقية، بينما استغلت الأحزاب الكردية الأزمة كمنصة أو كممر لمحاولة فرض أجنداتها الخاصة، ولاقت في هذا تأييداً واسعاً في وسط الأكراد الاجتماعي (الأكراد 7 ــ 10%من السكان). لم يتصرف السنة، كطائفة في أزمة ما بعد 18 آذار 2011، وهم كانوا أيضاً كذلك في أحداث 1979 ــ 1982 عندما وقف تجار دمشق وأرياف حوران ودمشق وحلب بقوة مع السلطة، بل انقسم السنة العرب السوريون (66%من مجموع السكان) وفق تحديدات طبقية اقتصادية ــ اجتماعية ــ سياسية ــ ريف ومدينة، وتوزعوا على التخوم الثلاثة: الموالاة والمعارضة والتردد، وقد كان هذا هو الذي منع سوريا من الإاجرار إلى الحرب الأهلية بخلاف لبنان 1975-1990 وعراق 2006 ــ 2007 وليقتصر الصراع السوري على صراع سلطة ــ معارضة متراكب مع العوامل الإقليمية ــ الدولية ــ المنظمات العابرة للحدود. وعلى الأرجح كانت غرف تجارة وصناعة دمشق وحلب أهم للسلطة كجدار استناد من الفرقة الرابعة في أزمة 2011 ــ 2017 مثلما كان رئيس غرفة تجارة وصناعة دمشق بدر الدين الشلاح أهم عند السلطة في أحداث 1979 ــ 1982 من اللواء علي حيدر قائد الوحدات الخاصة.

كان صادماً قدرة
السوريين على التفوق على الجزائريين والعراقيين في استعمال العنف

ليست السلطة السورية سلطة ذات طابع طائفي من حيث القاعدة الاجتماعية. في الوقت نفسه فإن الطائفية في المجتمع السوري 2011-2017 هي أخف بكثير، ومن خلال مقارنة الحرائق، من لبنان 1975 ــ 1990 ومن عراق 2003 ــ 2017. الطائفية كنزعة توجد عند السني السوري من خلال عامل أيديولوجي سياسي متمثل في النزعة الإسلامية السياسية ولا توجد عند المتدين المسلم السني، هذه الطائفية هجومية وواعية لذاتها وتحدّد الآخر من خلال ذاتها، بينما الطائفية عند الكثير من أبناء الأقليات الطائفية والدينية في سوريا 2011 ــ 2017 تظهر وتتمظهر من خلال نزعة وقائية رهابية من الإسلاميين وتتحدد من خلال هذا الرهاب، وبالتالي فهي تحدد ذاتها الطائفية الخاصة من خلال (الآخر)، وهذا لا علاقة له بالتدين بل يشمل ملحدين ويساريين وعلمانيين في الأقليات الطائفية والدينية. في التعاملات الاجتماعية والاقتصادية والحياتية الاعتيادية كانت سوريا 2011-2017 أرقى من لبنان 1975 -1990 وعراق 2003 ــ 2017، وخصوصاً في الساحل السوري الذي استقبل ملايين من حلب وغيرها في فترة 2012 ــ2017 حيث كان الاقتصاد والاجتماع والحياة في حالة عبور للطوائف وليسوا مختلطين أومشوبين بها.
كان لافتاً للنظر أن الريف كان القاعدة الاستنادية الأساسية للحراك المعارض بفترة ما بعد 18 آذار 2011، فيما استند الإسلاميون السوريون في أحداث 1979 ــ 1982 على الفئات الوسطى المدينية في مدينتي حلب وحماة، مع المشترك في المرحلتين وهو ريف محافظة ادلب المهمش الذي استند إليه الأصوليون الإسلاميون في الثمانينيات والسلفيون الجهاديون في 2011 ــ 2017. على الأرجح لولا الريف المهمش والمفقر، وخصوصاً بعد رفع أسعار المازوت في أيار 2008، ما كان لأزمة ما بعد 18 آذار 2011 أن تكون بهذا الاتساع، وقد كان واضحاً القاعدة الاجتماعية للمسلحين الاسلاميين في أرياف إدلب وحلب وديرالزور وحماة وحمص ودمشق فيما كان المسلحون في ريف حوران أقل نزعة إسلامية ولكن أيضاً بقاعدة ريفية أساساً.
يلفت النظر أن يكون هذا ضد سلطة استندت من خلال حزب البعث في صعودها إلى المسألة الزراعية، وهذا كان واضحاً في انتخابات برلمان 1954 حيث كان معظم أصوات البعث في أرياف حماة وحلب وإدلب واللاذقية، وإذا ظهرت قوة قاعدة السلطة السورية في الريف بأحداث 1979-1982 فإن من الواضح أن التحولات الليبرالية الاقتصادية في فترة 2004-2010 قد جعلت معظم الريف السوري في حالة نقمة ومعارضة وهو ما جعل السلفية الجهادية ترى أرضاً خصبة في أرياف حلب وديرالزور وإدلب مثل (الجماعة الإسلامية) في مصر التي لاقت في الثمانينيات أرضاً خصبة في الصعيد بخلاف (الإخوان المسلمون) الذين ظلت استناداتهم الاجتماعية في المدن أو في ريف الدلتا الأكثر تطوراً من الصعيد.
كان صادماً ومفاجئاً قدرة السوريين على التفوق على الجزائريين 1992 ــ 2002 والعراقيين 2004 ــ 2007 في استعمال العنف وتسويغه وتبريره في تخومي الموالاة والمعارضة، ومقدار انخفاض المستوى السياسي عند عموم السوريين في تخوم المعارضة والموالاة والتردد، وذلك عند مجتمع كان هو الأفضل ضمن العرب في انتاج سياسيين عابرين بتأثيراتهم للحدود (ميشال عفلق ــ خالد بكداش ــ ياسين الحافظ) ومفكرين سياسيين صيغت التيارات السياسية والأحزاب من خلال أفكارهم (ساطع الحصري ــ ميشال عفلق ــ ياسين الحافظ)، وأيضاً مقدار انخفاض مستوى المثقفين السوريين وكتاب المقالات الصحفية السياسية.
هذا يعود إلى التصحر السياسي بفترة 1982 ــ 2011 على الأرجح. كان لافتاً للنظر مقدار اتساع الميل عند المعارضة والموالاة لتسويغ وتبرير واعتناق (نزعة الاستعانة بالخارج) في أزمة 2011 ــ 2017 وبحيث «أصبحت كل البقرات سوداء في الليل» وفق تعبير هيغل. أيضاً هنا يجب تسجيل كيف ضعفت النزعة العروبية عند العرب السوريين في مجتمع من أقوى المتعلقين بالنزعة القومية بالمجتمعات العربية في القرن العشرين، بينما تخلى الأكراد السوريون عن ماركسيتهم التي كانت غالبة بالقرن العشرين بحياتهم السياسية لصالح النزعة القومية الكردية، وإن كانت لا تزال العروبة قوية في سوريا، وهي على الأرجح اللاصق الوطني الأقوى في بلد يشكل العرب 90% من سكانه وهي اللاصق الوحيد الباقي العابر للطوائف والأديان. يلاحظ هنا كيف أن نزعات جديدة عند السوريين، مثل «النزعة الفينيقية» و«سوريا أولاً»، هي نزعات أقلياتية دينية من حيث الاستناد الاجتماعي أساساً، فيما يلحظ اشتراك السلطة وأغلب المعارضة في نزعة عروبية قوية، ويلاحظ هنا أيضاً استمرار السلطة السورية في التفريق بين «الإسلام» و«الإسلاميين»، واتجاه الأكراد السوريين لتحبيذ الاتجاه القومي والابتعاد عن التدين فيما كانوا العكس في زمن العثمانيين.
* كاتب سوري