في مطلع كانون ثاني من عام ٢٠٠٦ فازت حركة حماس بانتخابات مجلس تشريعي سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني بغالبية مطلقة. تلت ذلك محاولات لاقتسام السلطة بين حركتي فتح المتمسكة بمقاليد السلطة وحماس الطامحة لتسلمها سواء بوسائل سلمية او مسلحة حيث انتهت بسيطرة حماس على السلطة في قطاع غزة المحتل في حزيران ٢٠٠٧. بعد سنوات من المماحكة وتحشيد كل طرف على الطرف الاخر تم عقد بعض اللقاءات والمفاوضات بين الطرفين بوساطات محلية من بعض الاحزاب الفلسطينية، واخرى اقليمية عبر اجهزة مخابرات الدول المعنية في ظرف صار يسيطر كل طرف في على قسم من السلطة. حركة حماس سيطرت على سلطة قطاع غزة وسلطة فتح في الضفة الفلسطينية المحتلة. بعد سنوات تمحضت هذه الوساطات عن تشكل حكومة الوفاق الفلسطيني في حزيران ٢٠١٤.
الصيغة الرسمية المعلنة لحكومة الوفاق أنها حكومة خبراء تكنوقراط من دون توجهات سياسية ذات ميول حزبية. لكن فعلياً كانت تسمية الوزراء بالتوافق بين مدير جهاز المخابرات الفلسطينية العامة ماجد فرج وعزام الاحمد، ممثل فتح في مداولات تشكيل الحكومة، علماً بأن كليهما عضوي اللجنة المركزية لحركة فتح. اما تسمية رئيس للوزراء رامي الحمدالله فقد كانت بدعم من قيادات اقتصادية نافذة تداولت اسمه على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في الاردن على البحر الميت في ربيع ٢٠١٣ ليخلف سلام فياض في رئاسة الوزراء وبعدها في حكومة الوفاق.
اعلن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في بيان المصادقة على تشكيل حكومة الوفاق بأن لها ثلاثة اهداف. اولاً؛ اعادة اعمار ما دمرته حرب اسرائيل على قطاع غزة في صيف ٢٠١٤. ثانياً؛ توحيد مؤسسات السلطة تحت امرة وهيكل اداري ومالي واحد. ثالثاً؛ الاعداد لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية للسلطة. فيما ابقي الملف السياسي، اي المفاوضات مع اسرائيل، في يد منظمة التحرير الفلسطينية، اي ممثلي سلطة فتح في الضفة.
الانقلاب العسكري في
مصر كان عاملاً حاسماً في تأليف حكومة الوفاق

كان هناك عاملان حاسمان في تشكيل ما سمي بحكومة الوفاق. أولاً الانقلاب العسكري في مصر الذي أزاح الاخوان المسلمين عن الحكم هناك وجلب طغمة عسكرية معادية لسلطة حماس التي تعتبر ذراع للاخوان المسلمين في فلسطين. ترافق مع الانقلاب العسكري في مصر تشديد الحصار الاسرائيلي على قطاع غزة بتواطؤ نظام العسكر في مصر.
فقد عزّز الحراسة على الحدود المصرية ــ الفلسطينية، اقام منطقة عازلة عبر هدم اجزاء كبيرة من مدينة رفح المصرية المجاورة، وتدمير ما يتم الوصول اليه من انفاق. ادت السياسة المصرية وحرب اسرائيل في صيف ٢٠١٤ الى زيادة الضغط على الشارع الفلسطيني في القطاع الذي طالب سلطة حماس بالقيام بدورها في التخفيف من معاناتهم عبر ابداء مرونة ما مع الطرف الفلسطيني -سلطة فتح- والاطراف الاقليمية. ثانياً انعقاد مؤتمر اعادة اعمار قطاع غزة اثر الحرب الاسرائيلية عليها. حيث تطلب عقد المؤتمر وجود طرف فلسطيني شرعي ومقبول ضمن مواصفات المجتمع الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الاميركية وبعض دول الاتحاد الاوروبي، اي سلطة فتح. كما رأت حماس في المؤتمر فرصة لتحسين الاوضاع المعيشية على سكان القطاع وفرصة للتفاعل مع المجتمع الدولي. فيما رأت فيه سلطة فتح في الضفة فرصة للضغط على حماس في حال فشل انعقاده، وفي حال عقد فإنه يشكل فرصة للرأسمال الفلسطيني المتنفذ والشريك مع سلطة فتح لأخذ حصته.
من الناحية العملية رأت كل من فتح وحماس في حكومة التوافق فرصة للتقاسم الوظيفي والسياسي كل بما يتناسب مع مصالحه، رؤيته وقدرته على الفرض على ارض الواقع. سلطة فتح المعنية في تقاسم مع شريك - تابع سياسي يتحمل معها اعباء المرحلة السياسية. على الشريك - التابع ان يوافق على برنامج سلطة فتح السياسي، اي برنامج التسوية الذي يرتكز إلى تقاسم وظيفي مع سلطة الاحتلال ضمن مشروع قد يفضي الى دولة فلسطينية محدودة السيادة. لذلك اعلن الرئيس الفلسطيني عباس، بخلاف المتفق عليه، ان حكومة الوفاق تلتزم الاتفاقيات التي ابرمتها السلطة وبخطها السياسي. على المستوى الاداري الوظيفي، رأت سلطة فتح في حكومة الوفاق مدخلاً لاعادة تنظيم صفوفها واستعادة نفوذها في قطاع غزة عبر التوصل الى تقاسم اداري تكون فيه اليد العليا للتجمع الفتحاوي من رأسمال وسياسيين. ما شجع سلطة فتح هو وجود ارادة دولية تدعم موقفها الى جانب تململ في الشارع الغزي من وطأة الحصار الاسرائيلي.
بالنسبة لسلطة حماس في قطاع غزة فقد رأت في تشكيل حكومة وفاق مدخلاً للتخلص من عبء سياسي. فسلطة حماس في نظر المواطن والقوى الاخرى مسؤولة عن تلبية احتياجات المواطنين البيروقراطية والخدمية على رغم رفض القوى المهيمنة على المجتمع الدولي الاعتراف بشرعية حكومة حماس والاستمرار في تصنيف الحركة على قائمة التنظيمات التي تمارس الارهاب. حماس مدركة منذ البداية انها تتخلص من التسميات، لذلك لم يعد اسماعيل هنية رئيس وزراء حكومة حماس ولكنه مع قيادات الحركة ما زالوا يمثلون السلطة العليا هناك التي تدير شؤون القطاع.
ضمن مشروع حكومة التوافق، فإن حماس ــ الحركة والسلطة مستعدة لأن تغض الطرف عن مشروع وتصريحات قيادات سلطة فتح السياسية كما فعلت تجاه خطاب الرئيس آنف الذكر، في حال كان هناك خطوات عملية مفيدة لها مثل ادماج الموظفين الذين تعينوا في زمن حكومة حماس الذين يزيد عددهم على٤٠ ألفاً ضمن موازنة السلطة. سلطة حماس رغبت في التخلص من العبء الاداري الخدمي للسلطة، لكنها لم ترغب في التنازل عن مقاليد السلطة في قطاع غزة من الناحية العملية؛ فهي مستعدة لصيغة شريك - تابع مع سلطة فتح تكون فيها اليد العليا لها معتبرة ذلك تنازلاً خصوصاً ان سلطة فتح لم تتعامل بالمثل في الضفة الفلسطينية.
استمرت المماحكات بين الطرفين بعد تشكيل حكومة التوافق. بعد ستة اشهر اعلن ممثل حماس ان المدة الزمنية المتفق عليها لصلاحية الحكومة قد انتهت. دافع حماس في ذلك ليس التواريخ المقدسة او المدنسة، انما عدم تقدم الحكومة باي خطوة عملية تجاه اهدافها. لا اعمار للقطاع، لا ادماج للموظفين ولا اعداد لانتخابات. فيما استمرت سلطة فتح باتهام حماس انها لم تسلمها بنية السلطة في القطاع ولم تسهل عملها. ادعاءات الاطراف صحيحة وخاطئة في الوقت نفسه. فهي صحيحة للمدعي وخاطئة للمدعى عليه. في الحالتين كلتيهما تدفع الجماهير الفلسطينية ثمن هذا الوضع. لكن ما الذي اوصل الحكومة ان تكون بلا سلطة وبلا توافق؟
حكومة التوافق هي حكومة اقتسام مصالح على المستوى الفلسطيني، بغض النظر عن شرعية الحكومة وطريقة اقتسام المصالح. لكن العاملين الاقليمي والدولي هما الحاسمان في الوضع الفلسطيني بشكل عام، كما ينطبق ذلك على حكومة التوافق. اذ تم الحث نحو تشكيل هذه الحكومة للقيام بمهام محددة. حتى اسرائيل التي ابدت رفضها اللفظي للحكومة هي عملياً مع وجودها. بالنسبية لاسرائيل، القوى الاقليمية والدولية المعادية لحماس فإن على حكومة التوافق ان تقوم، اولاً: وجود هيكل اداري - وظيفي مناسب للقيام بمهام الاعمار والاشراف عليها وفق المعايير التي تتناسب مع هذه القوى. ثانياً: ضمان عدم وصول اموال ومواد للمقاومة الفلسطينية وفي اسواء الاحوال التقليل من امكانية ذلك الى اقصى حد. فإن مجرد قيام الحكومة بذلك يعني تعزيز ودعم قوة سلطة فتح الى درجة ما.
لكن تنفيذ مقررات مؤتمر إعادة الاعمار على الارض يحتاج الى اطار وإرادة سياسية لا يتوقف على سلطة فتح ولا على سلطة حماس وداعميهما فقط بل هناك تعقيدات تشمل حصة آلية ودور كل جهة في اعادة الاعمار. فحصة كل طرف عامل اساسي في الدفع في تنفيذ مقررات مؤتمر اعادة الاعمار الذي هو أحد اهداف حكومة التوافق. الطرف الاسرائيلي طلب نسبة محددة تمر عبر معابره ومشتريات محددة من اسواقه. كما طالب بوضع جداول معدة مسبقاً لما هو مسموح وما هو ممنوع الى جانب وضع آليات للتأكد من التنفيذ وفق برنامج تشرف عليه منظمات دولية على رأسها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيي (وكالة الغوث -الأونروا). الجانب المصري أيضاً طالب بحصة من اموال اعادة الاعمار على شكل مشتريات وخدمات. الدول الاوروبية والولايات المتحدة شددوا على تنفيذ شروط امنية اهمها منع المقاومة من امكان اعادة بناء ذاتها وإعادة تغذية مخازنها من سلاح ومعدات لوجستية في مقابل صرف ما وعدت به. تركيا وقطر داعمتان لسلطة حماس ولكن امكانية تمرير الدعم مرهون بموافقة اسرائيل ومصر اللتين تسيطران على منافذ قطاع غزة واللتين لا تربطهما علاقات حسنة مع مصر. السعودية تضبط دعمها بحسب درجة التغير في موقف نظامها الذي يبدي مرونة تجاه سلطة حماس خاصة بعد حربها في اليمن، وهي الاكثر قدرة على الضغط على النظام المصري.
كان قرار المحكمة العامة في الاتحاد الاوروبي، كانون اول ٢٠١٤، بإزالة حركة حماس من قائمة المنظمات الارهابية مؤشر ايجابي، اذ كان يعني امكانية اعتراف دول الاتحاد بشرعية اي حكومة مستقبلية تقيمها او تشارك فيها حماس، ما يعني قدرة حكومة التوافق في العمل على تحقيق اهدافها. لكن استئناف القرار وعدم ازالة اسم الحركة من القائمة حتى يتم النظر في الاستئناف، يمثل انتكاسة تأثر على حكومة الوفاق التي دعمتها حماس وعلى مستقبل ادماج حماس في العملية السياسية التي تخص فلسطين.
اسرائيل معنية في استمرار الاوضاع كما هي عليه، فأي تقدم في اطار محاصصة تخفف من العبء اليومي عن المواطن الفلسطيني ترى فيه إسرائيل تهديد لأمنها في حال لم يتم بناء على شروطها. اسرائيل معنية باستنزاف الفلسطيني على كل المستويات سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في اطار عدم وجود حالة استقرار وبنية اقتصادية منتجة ونظام سياسي ديمقراطي. القوى الدولية الفاعلة اي الولايات المتحدة ودول اوروبا الغربية غير معنية بالضغط على إسرائيل ليس على مستوى التوصل الى تسوية سياسية بل حتى في عدم وضع العراقيل امام القوى الفلسطينية للتوصل الى تقاسم وظيفي سلمي اي حكومة وفاق.
بالنسبة لسلطة حماس في قطاع غزة، ان مجرد تنفيذ مقررات اعادة الاعمار حتى بشروط مشددة يخدم وجودها اذ يقلل من الضغط الشعبي عليها ويخلصها من عبء تقديم الكثير من الخدمات اليومية للسكان. لذلك رأت في حكومة التوافق منفذاً للتخلص من بعض الاعباء لكن بعد عام على تأسيس الحكومة لم يحدث ذلك، وفي الوقت نفسه ما زالت سلطة حماس تسيطر على قطاع غزة. شدة الضغط هذه لا تعني ان سلطة حماس آيلة للسقوط في اي وقت قريب فحماس تدرك انها جزء من اصطفاف اقليمي عريض وخريطته معقدة، وانها حتى وان اختلفت معه في بعض المفاصل الا انه سيساعد على منع انهيار سلطتها في قطاع غزة.
بالنسبة لسلطة فتح في الضفة التي هي في وضع احسن على كل المستويات المالية، واحتضان النظام الدولي لها، فهي ليست اكثر ديمقراطية من سلطة حماس في قطاع غزة ولا تحكمها قواعد اكثر اخلاقية ان لم يكن العكس. لكنها، سلطة فتح، ترى ان الوضع الاقليمي لمصلحتها وبالتالي لم تستعجل موضوع التقاسم الا اذا خدم مصالحها، اي مصالح المتنفذين في الرأسمال والسياسة فيها. ان مجرد تشكيل الحكومة يعطيها شرعية شكلية مفادها انها المقرر في الضفة وغزة. لكن طالما لم تصرف اموال مؤتمر اعادة الاعمار فلا خطوات شكلية اخرى.
بالنسبة للمواطن الفلسطيني في قطاع غزة، فهو وإن كان داعماً وحاضناً أساسياً للمقاومة التي تقودها حماس، الا ان دوره محدود في الضغط على الطرفين الفلسطينيين بسبب بنية النظام الفلسطيني الذي يعزز دور مراكز القوة والرأسمال، حتى في زمن الحصار والحرب، اضافة الى لا ديمقراطية سلطة حماس. اما وضع ودور المواطن الفلسطيني تحت سلطة فتح في الضفة فعلى رغم أنه لا يعاني وطأة الحصار الا انه يعاني من عبء السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي تغرقه في ديون وقروض ومتطلبات الحياة اليومية ذات البعد الاستهلاكي، اضافة الى نظام سياسي تحكمه مبادئ لا ديمقراطية وسياسات امنية تعرف بالتنسيق الامني.
في كل الاحوال تدرك غالبية الجمهور الفلسطيني ان وجود الحكومة، التوافق ام غيرها هو وجود شكلي، اذ تدار سلطة فتح في الضفة الفلسطينية من خلال مكتب الرئيس عباس وجهاز مخابراته، فيما تدير سلطة حماس في قطاع غزة من المكتب السياسي لحركة حماس واذرعها الامنية. اما القوى السياسية الفلسطينية الاخرى فوجودها هامشي ودورها مرهون باستخدام السلطتين لهما. فيما رأسمال الفلسطيني المتمثل في المصارف والشركات الكبرى فيستمر في اعماله التي تحقق ارباح عالية لا تبررها الا قسوة الاوضاع على المواطن الفلسطيني والذي يبررها هذا الرأسمال بشدة المخاطرة التي يتطلبها الاستثمار في ظل وجود احتلال وانقسام.

* باحث وكاتب ــ فلسطين