صدر أخيراً تقريرٌ في الـ»فاينانشال تايمز»، هو في ظاهره استعراضٌ لأرقام وإحصاءات، ولكنه في عمقه بالغ الأهمية والدلالة. تقول المطبوعة البريطانية إنّ المدخول الوسطي للعامل الصّيني قد ارتفع حتّى تجاوز، عام 2016، مدخول العمّال في المكسيك والبرازيل وكلّ دول أميركا اللاتينيّة (باستثناء التشيلي)، وأصبح يعادل 70% من الأجور في الدّول الأقلّ ثراءً في أوروبا.
بين عامي 2005 و2016، تضاعف أجر العامل الصيني في الصناعة ثلاث مرّات، ليصل إلى 3.60 دولار في السّاعة. أمّا في البرازيل، في الفترة ذاتها، فقد انخفض متوسّط دخل العامل من 2.90 إلى 2.70 دولار، وانخفض في المكسيك وجنوب أفريقيا (من 4.30 إلى 3.60 دولار)، وفي البرتغال من 6.30 إلى 4.50 دولار في السّاعة (أمّا في اليونان «الاستثنائية»، التي مرّت بأزمة عنيفة، فقد انهار دخل العمّال إلى نصف ما كان عليه). في الهند، في المقابل، ظلّ متوسّط أجر العامل ثابتاً خلال هذه الفترة على 0.70 دولار مقابل ساعة العمل.
الفكرة هنا هي أنّ مداخيل العمّال في الصين، ومستوى حياتهم وخدماتهم واستهلاكهم، قد صعدت بالتّوازي مع نموّ الاقتصاد. نمط الإنتاج في الصّين حاليّاً رأسماليّ بالكامل في نهاية الأمر، وهو يقوم على استغلال قوّة العمل؛ لهذا السبب ولّد النموّ أيضاً طبقةً ثريّةً ضخمةً، وفروقات كبيرة في المجتمع. ولكنّ نمط الاقتصاد الموجّه، ودور الدّولة في الحفاظ على الرساميل والثروة داخل البلاد، قد ضمنت ارتقاءً موازياً لأكثر من مليار عاملٍ في الاقتصاد الصّيني ولمستوى حياتهم وتعليمهم، في عمليّة لم يشهد التّاريخ لها مثيلاً (في حالة مثالية، وفي دولة تقوم بإعادة التوزيع، يُفترض أن يرتفع دخل العمّال بأسرع من نسبة النموّ). هذا الازدهار في مداخيل غالبية الشّعب هو، بالمناسبة، ما سيحمي مستقبل الصّين اقتصادياً، ويضمن خلق طلبٍ داخليٍّ مستمرّ، فلا يتأثّر الاقتصاد بعصف الأزمات الدولية. وتحسين حياة النّاس هو ما يعطيك عمّالاً أكثر مهارةً وإنتاجاً وتعليماً. لا أحد اليوم ينشئ مصانع في الصّين لأنّها تقدّم عمالة رخيصة (فالعمالة أرخص في أكثر العالم)، بل لأنّ في الصّين بنية تحتيّة ممتازة، وطلباً داخليّاً هائلاً، وشركات ضخمة لديها عمّال مهرة وتتمتّع بدعم الدّولة.
دور الدّولة، وقدرتها على التحكّم بالاقتصاد والرّساميل والفوائد، هو ما سمح للصّين بأن تتحوّل صوب الصناعات الحديثة وعالية القيمة في السنوات الأخيرة. أكثر الألواح الشمسية في العالم اليوم تُصنع في الصّين، وأكثر الروبوتات التي ستُبنى في السنوات القادمة ستُركّب في مصانع صينيّة؛ وكلّ سنتين تخرج فئة جديدة من الهواتف الذكيّة تزاحم الشّركات الموجودة وتستبدلها في السوق (أنا آليت على نفسي بألّا أقتني هاتفاً ذكياً حتى تصل الأجيال الجديدة من الهواتف الصينية، مثل «فيفو» و»اوبو»، إلى أسواقنا. ومواصفات بعضها يفوق مواصفات «آبل» و»سامسونغ» وبأقلّ من نصف سعرها ــ إن كان لا مهرب من أن تكون زبوناً لـ»الإمبريالية»، وأن تسمح لها بالتجسّس على اتّصالاتك وتصفّح صورك، فلتكن الصّين).

الإفقار كمنهج

ولكنّ الأساس هنا هو ليس حالة الصّين، بل باقي الدّول المذكورة أعلاه، فدخل العمّال فيها لم يرتفع بمقدارٍ أقلّ من نظيره الصيني، بل ظلّ جامداً وانخفض في أكثر الحالات، وهنا المصيبة؛ بمعنى أنّ غالبية النّاس في هذه البلاد تعيش حياةً أضيق من حياتها قبل عشر سنوات، وهذه دولٌ ــ وهنا المفارقة ــ حقّق اقتصادها بالمعنى «الشمولي» و»الكمّي» نموّاً خلال هذه السنوات، وازداد الدّخل الوطني الإجمالي، فكيف ترافق ذلك مع إفقارٍ للعمّال؟ وماذا يعني ذلك بالنّسبة إلى مفهومنا عن النظام الاقتصادي «الناجح»؟
كما يقول علي القادري في كتابه الجديد («تفكيك الاشتراكية العربية»، منشورات أنثِم، 2016)، فإنّ الأرقام الكليّة التي تقيس المال وجريانه لا تكفي لتفسير العالم. فـ»المال» لا يفسّر ذاته بذاته، بل هو نتيجة لعمليّة اجتماعيّة. ولو كان المال في ذاته تفسيراً، يكتب القادري، لكان في وسع المحاسبين أن يشرحوا لنا العالم، ولما احتجنا إلى علماء اجتماع (سنناقش كتاب القادري بتفصيلٍ في مقالٍ قادم). هذا ينطبق على العلاقة بين أرقام النموّ وبين «الحياة الحقيقية» لغالبية النّاس. لدى أوتسا وبرابات باتنايك نظريّة عن ترافق النموّ العام في الدّول الليبراليّة مع تراجعٍ في مستوى حياة العمّال والغالبية. باتنايك وباتنايك يعتبران، أصلاً، أنّك لن تزداد إلّا فقراً طالما أنّك مندمجٌ في المنظومة الاقتصادية الغربيّة («العالمية»)، وأنّ مواردك ستُستنزف، وقيمة العمل لديك ستنخفض باستمرار. ولكنّهما يزيدان أنّك، حتّى لو حقّقت «نجاحاً» ضمن المنظومة الرأسمالية العالميّة، وكان بلدك من الاقتصادات التي تنمو و»تزدهر»، فإنّ هذا النموّ، في حدّ ذاته، سيتسبّب في إفقار شعبك في نهاية الأمر.
في دولٍ كتركيا والهند ومصر تكون حصّة رأس المال في اقتصادها (أي الأرباح على الأصول والأملاك، والارتفاع في قيمتها) أكبر بكثير من حصّة الأجور (أي الرواتب التي يتلقّاها العمّال)، فإنّ ثمار النموّ تذهب في غالبيتها إلى الأثرياء والطبقة العليا، وليس على شكل زياداتٍ في الأجور وتحسينٍ لحياة عموم الشّعب. هؤلاء الأثرياء الجدد سيستخدمون الوفرة الماليّة لشراء مواد رفاهيّة، أكثرها مستورد (لهذا السبب فإنّ أولى علامات «النمو» في هذه البلاد يكون في ازدياد سيارات المارسيدس في الشوارع والهواتف الغالية، وليس تحسّن المدارس والأحياء الشعبية). هذا الاستيراد المتزايد سيخلق ضغطاً على العملة الوطنيّة وعلى ميزان المدفوعات، فتضطرّ الدولة إمّا إلى رفع الفوائد أو إلى خفض العملة. في الحالتين، فإنّ الأسعار داخل البلد سترتفع تبعاً لذلك، فيما دخل العمّال ما يزال مكانه. بدلاً من أن يرتفع استهلاك العمّال وطلبهم بسبب «النموّ»، يؤدّي «النجاح» الاقتصادي في الحقيقة إلى تقليص قدرتهم الشرائية، فينخفض الطّلب والاستهلاك في البلد بشكلٍ عام، ويبدأ اقتصاد البلد بالرّكود.

«الطّبقة العاملة»

حين نتكلّم هنا على «عمّالٍ» و»طبقةٍ عاملة»، فإنّ التعبير توصيفيّ وليس سياسياً (بمعنى أنّ «الطبقة العاملة» ليست واعية لنفسها سياسياً، وأفرادها لا يرون أنفسهم كجزءٍ من جماعةٍ واحدة، وقد يتواجهون عبر متاريس قبليّة أو طائفية أو سياسيّة). «الطّبقة العاملة»، بتبسيط شديد، هي فئةٌ تضمّ كلّ من يعتاش من العمل ومن أجره، سواء في الزراعة أو الخدمات أو الصناعة، ولا يملك رأسمالاً وأصولاً تغنيه عن العمل والراتب. العامل، بهذا المعنى، هو أكثر من يتأثّر بـ»النموذج الاقتصادي» وتبعاته، والفرق بين نموذجٍ وآخر لا يمثّل بالنسبة إليه فارقاً في «الأرباح» أو القدرة المالية أو مستوى الرفاهية، بل الفارق بين أن يكبر أولاده أصحّاء أو أن يعانوا سوء التغذية، وبين أن يحصلوا على خدمات وتعليم لائق أو أن يعانوا من ظلام الجهل، وبين أن يعيشوا حياةً فيها مقدارٌ من الكرامة والاغتناء، أو حياة فاقةٍ وقلقٍ وخوفٍ.
من السّهل أن تبني برجوازيّة ثريّة ومرفّهة وتتكلّم لغاتٍ أجنبية (وبخاصّةٍ إن كانت تقوم على تفكيك الدولة، وتسييل ثروات البلد لحسابها، وإرسالها إلى الخارج)، الصّعوبة هي في أن تبني طبقة عاملة مكتفية ومنتجة وتحظى بقدرٍ عادل من الثّروة الوطنية. لهذا السّبب، أنت تستطيع أن تقيس التنمية وتقدّم الدول بعدّة مقاييس: نموّ الناتج العام، عدد المقاهي والفنادق والمباني الجميلة، أسلوب حياة الطبقة الوسطى، إلخ… إلّا أنّني، وكثير مثلي، نفضّل النّظر إلى وضع الطّبقة العاملة في البلد: أوضاعها الصحية، مستوى استهلاكها، الاستثمار في بناء تعليمها ومهاراتها، و ــ قبل أي شيء آخر ــ حصّة الأجور في الاقتصاد نسبةً إلى رأس المال (ولا يهمّ هنا إن كنت تعيش في مجتمعٍ قبلي أو طائفي أو رأسماليّ حديث، فإن تأثير هذه العناصر عليك وعلى حظوظك في الحياة ستكون متطابقة).
لو نظرنا إلى الأمور من هذه الزّاوية، قد ترتسم لدينا صورةٌ مختلفة عن المجال السياسي في بلادنا، وعن معنى الظّلم والهيمنة، سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي. يخبرنا علي القادري، مثلاً، أنّ خمسة في المئة من أهل الوطن العربي (20 مليوناً، هم مواطنو دول الخليج) يحصلون على 1.6% من إجمالي الدخل العالمي. في المقابل، فإنّ حصّة 350 مليون عربي غير خليجي هي أقلّ من 0.9 بالمئة من الدّخل العالمي. المشكلة لا تقتصر على التوزيع غير العادل، فلو كانت دول الخليج دولاً تنمويّة ومستقلّة لاستثمرت في شعوبها وفي محيطها، ولكنّ دورها كمستعمرات جعلها وبالاً على من حولها: وظيفتها الوحيدة هي إعادة أموال النفط إلى الغرب (على شكل سندات واستثمارات وصفقات سلاح واستيراد)، وفرض السياسات الإمبريالية في المنطقة.
كما يلفت القادري، فإنّ قدراً ضئيلاً جدّاً من ريع النفط الخليجي هو كافٍ لإبقاء القلاقل والحروب مستمرّة في المشرق إلى الأبد، ونضيف أن قدراً أصغر بكثير يكفي لشراء أغلب المثقفين العرب والإعلام والتلفزيون (وحتّى قنوات التسلية والرقص والرياضة). ما ينفقه القطريون على صحفهم هو جزءٌ بسيطٌ ممّا ينفقونه، مثلاً، على أعمال الفنّانين الغربيّين، واللوحات التي يشترون الواحدة منها بربع مليار دولار. وما يدفعه السعوديون على «الثقافة» والبروباغاندا، في سنوات، يقلّ بكثير عن قيمة استثمارٍ «صغير» بالمليارات في شركة «اوبر» (مثل هذه الصفقات، بالمناسبة، هي الدليل على مقولة القادري بأنّ الانتقال «النظري» للثروة بين الغرب والخليج، كثمنٍ لشراء النفط العربي، ما هو إلّا «شيكات لا يتمّ صرفها». تظلّ في المصارف الأميركية، أو في سندات الخزينة، أو يشترون بها لعباً وسلاحاً، فيما أغلب القوة العاملة من مواطني هذه الدول تقبع بلا عملٍ ولا مهارات).

خاتمة

على المستوى الداخلي، ضمن الدول العربية، الوضع أعقد بعد سنوات طويلة من حكم النيوليبراليّة، وانتقال الثروة بانتظامٍ من العمال إلى الأثرياء، ومن الوطن إلى الخارج (يورد القادري تقديراتٍ للرساميل العربية التي هُرّبت إلى الغرب تتراوح بين 2 و20 تريليون دولار). بين أواخر السبعينيات واليوم، انقلبت أكثر الدّول العربية من مجتمعات فيها قدرٌ معقولٌ من المساواة، وارتفاعٌ في المستوى العام للحياة والطبابة والتعليم، إلى ما نراه اليوم من حرمانٍ معمّم وتراجعٍ في كلّ المؤشّرات، وحروبٍ طاحنة تكمل ما لم يفعله النّهب. في بلدٍ مثل لبنان، تسرّبت فيه الثروة ــ على مدى سنين طويلة ــ من مجمل المواطنين إلى المصارف والأثرياء تحت بند «خدمة الدّين» (بقيمة توازي حالياً 7 مليارات دولار في السنة)، تحوّل لبنان إلى مجتمعٍ أكل رأس المال فيه حصّة الدّخل، وأصبحت الثروة فيه محصورة بمن يملكها. في لبنان، كما في فرنسا الإمبراطورية التي وصّفها توماس بيكيتي، أنت تصل إلى الثراء وتراكم المال عبر أن تتزوّجه، أو تسرقه، أو تتشارك معه، ولن تصبح ثرياً من عملك وراتبك ولو كنت إله العصامية (بل لن تتمكن، في حياتك، من شراء شقّةٍ في بيروت). قبل أن نشتكي من حالة «الأخلاق» في البلد، ومن شراسة الناس وغياب الكفاءة والاستقامة، علينا أوّلاً أن نتفحّص الحوافز الموجودة أمام الشباب اليوم و»طريق النجاح» المرسوم لهم، وهل النظام هو ــ أصلاً ــ نظامٌ يكافئ العمل والجدّ والموهبة؟
فكرة «القتال على كلّ الجبهات» ليست مجرّد شعار. يمكنك أن ترى الساحة الداخلية في لبنان على أنّها أمرٌ «ثانوي»، مقابل الجّهد العسكريّ والمعركة، وتترك إدارة البلد لناهبيه، طالما أنّ الجوّ السياسيّ «ممسوك». ولكنّك، في هذه الحالة، لن تكون مشاركاً فحسبٍ في عمليّة إفقار شعبك، بل إنّ هذه «النّقطة العمياء» تحديداً سترتدّ عليك. تعتقد أنّ الأبواب محميّة ولكنّ رياض سلامة وأصدقاءه سيدخلون عليك من نافذة الاقتصاد والانهيار المالي، وستدفع أنت الثّمن: دولة مفلسة وشعبٌ فقير. قبل سنوات طويلة، قال الشّهيد عبّاس الموسوي في خطابٍ له إنّ من يهمل جبهةً ما أو يتخلّى عنها أو يستهين بها، ولو توهّم أنّه يفعل ذلك لصالح جبهةٍ أخرى، فهو سيُهزم حتماً في نهاية المطاف، بل لن ينظر الله إليه.