وقّعت جمهورية مصر العربية وإسرائيل اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1978، أي ما يقرب من 40 سنة مضت حافظت فيها الاتفاقية على مضامينها من وقف الحرب بين مصر وإسرائيل، واسترجاع سيناء، وتأمين الملاحة الإسرائيلية عبر مضيق تيران وقناة السويس، وإقامة علاقات وديّة بينهما، وهذه الأخيرة لم تؤتِ ثمارها كاملة حيث فشلت الاتفاقية في التطبيع الشعبي بين البلدين، وظلّت قطاعات واسعة من الشعب المصري ونخبه ترفض التعامل مع إسرائيل، وفي أحداث الثورة المصرية عام 2011 تمّ إنزال العلم الإسرائيلي عن مبنى السفارة في القاهرة وإحراقه ورفع العلم المصري، وتكررت محاولة اقتحامها عام 2013 ما حدا بالبعثة الإسرائيلية إلى مغادرة البلاد قبل استئناف التمثيل الدبلوماسي بين البلدين في 10 سبتمبر/أيلول 2015.
وقد أدى استقبال النائب توفيق عكاشة للسفير الإسرائيلي في منزله إلى تصويت البرلمان على إسقاط عضويته في 2 مارس/آذار 2016، وإن كانت خطوة النائب يعدّها مشككون عيّنة اختبار لنبض الشارع المصري تجاه التطبيع مع إسرائيل. ولاقت اتفاقية "وادي عربة" الموقعة بين الأردن وإسرائيل عام 1994 المآل نفسه فانتظمت العلاقة الرسمية دون الشعبية بينهما.
تسببت الاتفاقية بتكبيل يد المصريين لعشرات السنين عن ممارسة السياسة الطبيعية وتأمين مصالحهم مع المحيط الإقليمي والدولي، بسبب اقتصار سياسيّي مصر على دور رعاية الاتفاقية وتأمين استمرار العطف الأميركي للدور المصري الجديد الذي أرساه الرئيس أنور السادات عقب توليه الرئاسة المصرية عام 1970 بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وطردت بسببها من جامعة الدول العربية، وعلى مر السنين تدهور الدور الإقليمي لمصر بين أقرانها من البلدان العربية والإسلامية، كما تقلّصت تأثيرات ثورة يوليو 1952 لاحقاً في أفريقيا التي دعمت حركات التحرر سياسياً وماديّاً. وعلى المستوى الديني خضع الأزهر الشريف لمنطق التحول باتجاه التطبيع مع العدو الصهيوني وأيّد اتفاقية «كامب ديفيد»، وأعلن الشيخ محمد عبد الرحمن بيصار شيخ الأزهر وقتها أنّ مصر تعيش هذه الأيام أمجد أيامها بالزيارة التي يقوم بها الرئيس السادات لتوقيع «معاهدة السلام»، وأرسل إليه برقية تهنئة بمناسبة توقيعه المعاهدة، كما أيّدها مفتي الجمهورية الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، وكانت مواقف رجلي الدين انسجاماً مع الخط السياسي الجديد الذي انتهجه السادات. مؤخراً، بانت على هذه الاتفاقية مظاهر عدّة من الشيخوخة، ومن المؤكد أنّ إسرائيل ومصر والولايات المتحدة الأميركية قد لمست قصور الاتفاقية وعدم مواءمتها للظروف الدولية الجديدة والاستقطاب الجديد الذي أملاه الصراع الدائر في المنطقة. أهم وأقوى مظاهر تفسّخات كامب ديفيد قيام ونشوء عوامل استنهاضية في المنطقة شبيهة بالتي كانت لمصر، فكان أنّ اشتد عود المقاومة في فلسطين ولبنان، وتكوّن تحالف ممتد من إيران مروراً بالعراق إلى سوريا قضيته الأولى فلسطين المحتلة واستعادة الأراضي المحتلة في الجولان والضفة الغربية. وفي هذا الإطار، تأتي هندسة الحدود البحرية مع السعودية وتسليمها مضيق تيران، كتطوير لاتفاقية كامب ديفيد، وهدفها إنشاء محور شديد الأهمية من مصر والسعودية بمواجهة محور إيران ـ دمشق. لكن ـ والحق يقال ـ فإنّ مصر المكبّلة باتفاقية "كامب ديفيد"، بمواقفها الرافضة لتفتيت الدول واحتلالها من قوات أجنبية، وصلابة شعبها ووعيه السياسي رغم مآسيه الاجتماعية المقصودة، ورفضه تسليم الجزيرتين إلى السعودية وبالتالي إفشال خطوة مهمة في المشروع الغربي، تقف حجر عثرة دون تصفية القضية الفلسطينية، وتشكل معطى غير متوافق مع التوجهات الغربية للمنطقة، لإعادة تشكيل رقعة "سايكس ــ بيكو" على أسس قومية ودينية وعرقية. لكنّ ذلك يضع مصر في موقع ما بين المطرقة والسندان، لغياب أي صيغة سياسية تقيها التقلبات الدولية والهجمة على المنطقة، وتحفظ لها دورها الذي ارتضته في مؤخرة الدول الفاعلة في المنطقة. لعبت الاتفاقية دور «الاتفاقية الحاجز» عن مبادرة أي طرف عربي لحل القضية الفلسطينية دون المرور بالمصفاة المصرية، بمعنى أنّ أي حلّ لا يناسب إسرائيل والخط السياسي المصري سيخضع لعملية «فلترة» ليتماشى مع كامب ديفيد. ولضرورة مواجهة العامل الاستنهاضي ومفرداته، سعى التحرك الأميركي والإسرائيلي وبعض الدول العربية لتطويق إيران وعزل لبنان وسوريا والسودان وأريتريا وجيبوتي وغيرها من الدول. وبالنسبة إلى مصر، فلها برنامج خاص بها من المناورات والمساومات يبقي التزامها بالخطوط العريضة لكامب ديفيد ويحيّدها عن إيران والعمق العربي، مخافة أن تسفر الخضّات الداخلية بعد "25 يناير" 2011 عن تغيير في المسار السياسي، يؤثر في الاتفاقية ويعيد خلط الأوراق، أو أن تصيبها عدوى «الممانعة» وتنضم لحلفه.
في المقلب الآخر، يسعى الأردن الموقّع على اتفاقية «سلام» مع إسرائيل لتأمين مصالحه، ومنذ سنين طويلة يتبادل المسؤولون والدبلوماسيون الأردنيون والإيرانيون الزيارات والتحيات والرسائل، تنخفض وتيرتها تارة وتارة أخرى ترتفع، وبلغت ذروتها في تشرين الثاني 2012 مع عرض طهران السخي بتأمين النفط لعمّان لمدة ثلاثين عاماً مقابل فتح السياحة الدينية أمام الزوار الإيرانيين، ولكن الاقتراح لم تكتب له الحياة. وفي دور دبلوماسي ناجح، يبادر الأردن إلى العلاقات الثنائية المحسوبة مع إيران، فنرى رئيس مجلس النواب الأردني عاطف الطراونة يشارك في مؤتمر لدعم المقاومة انعقد في طهران الشهر الماضي، وادّعت مصادر البرلمان أنّ الطراونة خدع حيث الدعوات التي تلقتها الخارجية الأردنية بعنوان دعم صمود الشعب الفلسطيني غير تلك الشعارات المرفوعة في القاعة من دعم المقاومة الفلسطينية! فيما ظلّت مصر ولا تزال منذ أربعة عقود تمتنع عن وصل العلاقة التي انقطعت مع إيران لأسباب شتّى، مراعاة لإسرائيل والولايات المتحدة ودور اتفاقية "كامب ديفيد" الذي جعلها مستغرقة في تبعاته وحذرة من أي مستجد أو مغامرة تفقدها ما أنجزته، وتخاف من أن يُفلت قِياد القضية الفلسطينية من قبضتها لمن هم مستعدون لـ«إيراق أوراق السلام» ولو من دون اتفاق مع إسرائيل، كالسعودية. ويروي في هذا الإطار السفير محمود كريم وهو أول سفير مصري في فلسطين المحتلة، بأنّ الرئيس السادات حينما سأل رئيس وزراء العدو مناحيم بيغن في لقائهما بالإسماعيلية في 25 سبتمبر/ ايلول 1977، حول الإطار الفلسطيني والدور المصري، رد عليه بيغن قائلاً «من فوّضك للحديث عن الفلسطينيين. أنت لا تملك تفويضاً من فلسطين، متجيبش ليّا سيرة الإطار ده خالص، إحنا عملناه علشان تظهر أمام العالم أنك لا ترتب مع إسرائيل صلحاً منفرداً».
في ما يلي مظاهر شيخوخة اتفاقية كامب ديفيد وقصورها في تأمين مصالح أطرافها، حيث نلاحظ المواقف التالية لمصر، الأمم المتحدة، أميركا، وإسرائيل.

بانت على هذه الاتفاقية مظاهر عدّة من الشيخوخة

أولاً، بالنسبة إلى مصر، تدور مواجهات في سيناء مع الجماعات التكفيرية يعجز الجيش المصري وقوات الداخلية عن استئصالها، نظراً إلى ما يشترطه الملحق العسكري للاتفاقية من نوعية سلاح وعديد مصري محدود، ومؤخراً سمحت إسرائيل بتجاوز محدود لبعض بنود الاتفاقية وزيادة وتسليح عديد القوات المسلحة حصراً في شمال سيناء حيث تدور معظم المواجهات، وقد كشف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في يناير/ كانون الثاني 2017 عن تواجد قوة من 41 فرقة عسكرية (25 ألف جندي) منتشرة في جميع أجزاء سيناء الجنوبية والشمالية. ورغم ذلك لم تفضِ هذه الترتيبات إلى إنهاء وجود داعش والجماعات التكفيرية المسلحة، والتي يعزو الخبراء الفضل في وجودها ونموها إلى نقصان السيادة المصرية وانحلال تواجدها إلى أشكال شبيهة بحرس الحدود مع إسرائيل بفعل الاتفاقية، وغياب التنمية عن المنطقة وضعف أجهزة الدولة، ونشاط الاستخبارات الإسرائيلية والأجنبية، وهو الأمر غير الموجود في مناطق أخرى تسيطر فيه الدولة المصرية على الوضع وتمارس سيادتها في مناطق تشهد توترات أمنية، كما على الحدود الغربية مع ليبيا.
وبهذا المعنى، فإنّ بنود الاتفاقية التي أرست «سلاماً» من بوابة سيناء، لم تعد تصلح لمعالجة الوضع الأمني وتمدد نشاط الجماعات المسلحة التكفيرية إلى الداخل المصري، وتحرشها بإسرائيل عبر إطلاقها عدة صليات من الصواريخ باتجاه إيلات، وربما كان الأمر بالتنسيق مع إسرائيل لاستدراج ترتيبات جديدة مع مصر تستقدم إثرها سلطات الاحتلال تعزيزات عسكرية إلى المنطقة «د» على طول الحدود الشرقية لا تسمح بها اتفاقية كامب ديفيد، بالتوازي مع التعزيزات التي سبق أن استقدمتها القوات المصرية في شمال سيناء.
وشهدت الاتفاقية تعديلاً جوهرياً ـ وإن لم يوضع موضع التطبيق ـ أدخل السعودية بموجبه إلى الاتفاقية كأحد الأطراف فيها بموجب المادة السادسة من اتفاقية "كامب ديفيد" (بند 5)، بعدما تنازلت مصر عن جزيرتي تيران وصنافير لمصلحة السعودية بموجب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بينهما في 8 إبريل/نيسان 2016، حيث ورد فيها أنّ الطرفين المصري والإسرائيلي يقران «بأنه في حالة وجود تناقض بين التزامات الأطراف بموجب هذه المعاهدة وأي من التزاماتهما الأخرى، فإن الالتزامات الناشئة عن هذه المعاهدة تكون ملزمة ونافذة». وقد وافقت إسرائيل بعد اطلاعها على محاضر الاتصالات التي جرت بين السعودية ومصر بشأن التزام الأولى بنود "كامب ديفيد"، على الترتيبات الحدودية الجديدة التي أدخلت السعودية في "كامب ديفيد"، وأوضحت صحيفة الأهرام الرسمية وقتها أنّ السعودية التزمت مقتضيات الاتفاقية وأهمها ضمان حرية الملاحة الدولية في مضيق تيران التي تنص عليها اتفاقية "كامب ديفيد".
ثانياً، بالنسبة إلى الأمم المتحدة وأميركا، فإن عام 2016 تمّ تخفيض عديد قوة المراقبة التابعة للأمم المتحدة ومن ضمنها القوات الأميركية المنضمة في شمال سيناء، حيث تقلّص العدد من 1900 إلى 700 جندي وضابط من مختلف الجنسيات، كما تمّ تغيير مقراتها إلى أماكن أكثر أمناً بعد تعرضها لاعتداءات أوقعت إصابات في صفوفها، وتجنباً لنيران المواجهات بين الجيش المصري والمسلحين التكفيريين.
وقّعت الإدارة الأميركة السابقة اتفاقية مساعدات لإسرائيل لعشر سنوات (2028) هي الثانية من نوعها والأضخم في حجمها، حيث قدّمت حزمة مساعدات قيمتها 38 مليار دولار (السابقة بلغت 30 ملياراً)، وبذا تكون الإدارة الأميركية جدّدت التخلي عمّا كانت عليه أيام كامب ديفيد من رعاية توازن القوى.
في المقابل، كانت مصر تتلقّى مساعدات عسكرية بقيمة 1.3 مليار دولار (و250 مليون دولار مساعدات اقتصادية)، وهي نصف ما تتلقاه إسرائيل (3.1 مليار). إلى أنّ أوقفت هذه المساعدات عقب تسلم الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم وخلعه للرئيس الإخواني محمد مرسي. وحتى مع إعادة استئناف هذه المساعدات، فإنّ شروطاً جديدة طرأت على إقرارها في دوائر الكونغرس الأميركي ربطت بينها وبين احترام مصر لحقوق الإنسان وغير ذلك من شروط فنية تتعلق بتسهيلات شراء المعدات والعتاد.
ثالثاً، بالنسبة إلى إسرائيل، تنص اتفاقية "كامب ديفيد" في المادة الثالثة على أنّه «يتعهد الطرفان بالامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها من أحدهما ضد الآخر على نحو مباشر أو غير مباشر، وبحل المنازعات كافة التي تنشأ بينهما بالوسائل السلمية». كما تنص على احترام الطرفين «سيادة الآخر وسلامة أراضيه واستقلاله السياسي». لكنّها لم تمنع ردود الفعل الإسرائيلية من أن تأخذ مداها الميداني، بحجة صواريخ أطلقت من سيناء باتجاه إيلات طيلة الأعوام الماضية وتجدد إطلاقها أوائل العام الجاري. ويعتري الغموض في الموقف المصري من الرد الإسرائيلي على هذه الهجمات، حيث لم تصدر أي توضيحات بشأن ما يجري فعلياً والموقف من الرد الإسرائيلي على الأرض المصرية. وتوافرت معلومات عن عمليات عدّة من بينها غارات جوية، قامت بها إسرائيل ضدّ ناشطين من «داعش»، وأدّت إحداها إلى مقتل 10 مدنيين من أبناء قبيلة السواركة.
وقد اعترف وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بهذه الاعتداءات، عقب تعرّض إيلات (محلة أم الرشراش المصرية المحتلة) لإطلاق صواريخ من سيناء ليل الأربعاء 8 فبراير/شباط 2017 بالقول إنّ «القوات الخاصة، كالعادة، هي من استهدفت ودمرت قوة من المخربين تابعة لداعش في سيناء»، ما أدّى إلى مقتل خمسة عناصر من داعش. ومن المحتمل أنّ ما يجري يتم بتنسيق مع الجهات الأمنية المصرية، لكنّ الغموض الذي يعتري الموقف المصري وعدم اعتماد سياسية جازمة وواضحة في الموضوع، يبقي احتمال «خرق» الصهاينة لبنود «كامب ديفيد» وارداً، خاصّة مع تهديد رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو عام 2013 بأنّ استهداف إيلات لن يبقى بلا رد.
تداولت مصادر إعلامية إسرائيلية، مقترح حل للقضية الفلسطينية بإقامة دولة فلسطينية في غزة بعد توسيعها باتجاه أراضي سيناء، مقابل اقتطاع أراض من النقب في فلسطين المحتلة لصالح مصر، وضمّ الضفة الغربية إلى الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يتعارض مع القرار 242 الصادر عن الأمم المتحدة عام 1967 القاضي بانسحاب إسرائيل من الأرض التي احتلتها، وأكّدت اتفاقية كامب ديفيد في الإطار الفلسطيني الرجوع إليه وإلى غيره من قرارات الأمم المتحدة. وأثناء زيارته واشنطن للقاء الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب منتصف فبراير/شباط، نفى نتنياهو تصريحات الوزير الدرزي المقرب له أيوب قرا، بأنّ نتنياهو وترامب سيبحثان مقترح الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بإقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة وسيناء. وتكرر هذا المعنى عندما أشار وزير الحرب الإسرائيلي ليبرمان في كلمته بمؤتمر ميونخ للأمن (17 الشهر الماضي) إلى «تبادل الأراضي والسكان» من دون أن يوضح ما إذا كان الأمر يتعلق فقط بالفلسطينيين أم يشمل الفلسطينيين والإسرائيليين والمصريين.
* كاتب لبناني